نظرات في سورة يوسف
الحسد وارد، ولكن على المسلم أن يجاهد نفسه، وإذا رأى من أخيه ما يعجبه فليدع له أن يباركَ له الله فيما رزقه، والذي حمل إبليس على الكفر إنما هو حسده لآدم عليه السلام فإذا رأيت الله سبحانه فَضَّل بعض الناس عليكَ، فادعُ لهؤلاء بالبركة، ولْتَرْضَ بقضاء الله.
يقول تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5].
وهذا منهج أبويٌّ رحيمٌ في جمع الأبناء، فكما أخبر يوسف بعدم قصِّ رؤياه على إخوته، فهو يقدم اعتذاره ومدافعته عن إخوته، بأن سلوكهم المتوقع ليس عن شرٍّ متأصلٍ بهم، وإنما هو الشيطان يؤزهم أزًّا، فلا يحرض الإخوة على بعضهم بأي طريقة كانت، فيوجد الأعذار للمخطئ منهم قدر المستطاع؛ حتى لا تمتلئ القلوب مع الزمن بالشحناء.
عباد الله:
لقد كانت في علاقة يوسف بإخوته آفتان اثنتان، أشعلت النار في القلوب الحسد من داخل النفس، والشيطان من خارجها.
سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: أيحسد المؤمن؟ قال: سبحان الله ما أنساك لإخوة يوسف، فالحسدُ واردٌ حتى بين أهل الإيمان، والعين - وهي جزء من الحسد - حق، حتى بين أهل الإسلام، وقد ثبت أن سهل بن حنيف رضي الله عنه وكان رجلاً أبيض، وسيمًا جميلاً، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام يومًا يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة، فرأى زنده البيضاء الحسناء، فقال: والله ما رأيت جلدًا مخبأة كهذه الجلد، والله وكأنها زند جارية، فسقط سهل صريعًا في الحال، فذهب أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أدرك سهلاً صريعًا، قال: «فمن تتهمون»؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأتي به، فقال: «علام يحسد أحدكم أخاه»؟، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فَلْيدعُ له بالبركة»، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، وأن يغسل ركبتيه، وداخلتي إزاره، وأخذ الماء فصب على سهل بن حنيف، فقام وكأنما نشط من عقال؛ أي: كأنه كان مربوطًا بحبل وفك منه.
فالحسد وارد، ولكن على المسلم أن يجاهد نفسه، وإذا رأى من أخيه ما يعجبه فليدع له أن يباركَ له الله فيما رزقه، والذي حمل إبليس على الكفر إنما هو حسده لآدم عليه السلام فإذا رأيت الله سبحانه فَضَّل بعض الناس عليكَ في مال، أو جاهٍ، أو منصبٍ، أو ذريةٍ، أو صحة وعافيةٍ، أو وَسامَةٍ وجمال، أو علمٍ، أو وظيفة، أو مكانة؛ حتى ولو كنتَ ترى أنَّ مثله لا يستحقها، فادعُ لهؤلاء بالبركة، ولْتَرْضَ بقضاء الله سبحانه الذي قسمه لك، ولْتَمْتَثِل أمر نبيكَ عليه الصلاة والسلام: «إذا نظر أحدكم إلى مَن فُضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى مَن هو أسفل منه ممن فضل عليه في المال والخلق، فهو أجدر ألاَّ تزدروا نعمة الله عليكم»، فإذا رأيتَ أخاك المسلم في نعمة، فلا تعترض ولا تحسد، ولتعلم تمام العلم أنَّ الحاسِدَ معترِض على أقدار الله، فهو يحسد الناس على ما قَدَّرَ الله لهم من العطايا، وتعظم حرمة الحسد إن كان موجهًا لِذَوِي القربى.
وعلى المسلم أن يتعاهَد قلبه، وأن يستعيذ منه، ولا يسمح للحسد إذا طرأ على قلبه أن يتمكن منه؛ لأنَّ الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يترتب عليه أذى لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، والله قيد شر الحاسد بقوله إذا حسد، فدَلَّ على أن هناك حاسدًا بدون حسد؛ أي: بدون أن يخرج منه أذى لغيره من المسلمين، ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا مَن عصمه الله، وعلى العبد أن يجاهدَ قلبه عند ورود الحسد، وأن يستعيذَ بالله، وأن يدعوَ لأخيه بظهر الغيب.
أيها المسلمون:
هناك عدوٌّ متربص بكم ليل نهار، لا ينفك عنكم حتى موتكم، فقال الله تعالى على لسان يعقوب: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]، أقْسَمَ بربه على غوايتنا، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، فَرَدَّ الله عليه: «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ» [الحجر: 42]؛ فالشيطان له أسلحته، والمسلم له أسلحته المضادة في هذه الحرب الدائرة، وعلى المسلم أن يعرفَ أسلحة عدوِّه التي يستخدمها، وأساليبه في إغوائه؛ حتى يأخذ حذره منها، قال تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]، الشيطان حيلته وطريقه الوحيد الوسوسة، والإيحاء بالشر، فقد يأتيكَ وسواسه على هيئة الناصح المشفق، قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، وقد يستدرج العبد إلى المعصية استدراجًا بخطوات، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، فهل الذي زنا ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من أول مرة، أو سبقها خطوات كثيرة قبلها؟
والذي سَرَقَ كانت هناك خطوات للشيطان قبلها، ومن أعماله ما ينزغ بين الناس من الشر في كلامهم وأفعالهم، فيفرق فيه بين الأزواج والإخوان والأقارب والشعوب، فيوحي في قلوب العباد تفسيرات خاطئة لكلامهم وأفعالهم، فيُنشئ العداوة بينهم، كما فعل بين يوسف وإخوته، ينزغ الشيطان في نفس العالم، أو طالب العلم، فيسأل عن مسألة، فلا يقول: لا أدري، يقول له الشيطان: سيقول الناس عنك: جاهل، ينزغ الشيطان بين الأحبة، فتخرج كلمة فيُؤَوِّل هذه الكلمة، وينزغ الشيطان في قلبه: يقصد كذا وكذا من المعاني السيئة، ولو دحر شيطانه، وحمل الكلام على المحمل الحسن، لأراح غيره واستراح، وينزغ الشيطان في القلوب حب الرياء والسُّمعة، أو ترك العمل الصالح؛ خوفًا من الرياء والسمعة، وكلاهما خسارة.
وينزغ الشيطان في قلوب بعض العلماء، أو أصحاب المناصب، بألا يبتسموا للناس، فإن فعلتم قَلَّت هيبتكم بين الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس تبسُّمًا.
يخوِّف الشيطان عباده بالفقر، فإذا ما حَدَّثَتْه نفسه الخيرة بالصدقة، فإن الشيطان يخوفه بنقصان المال والفقر وحاجاته وضرورياته، فيحجم عن الإنفاق، أو يقلل من مقدار صدقته، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
يَعِد الشيطان الناس بالمغفرة، ويُهَوِّن في أعينهم أمر المعصية، ويعدهم ويمَنِّيهم بطول العمر، وأن في العمر متَّسع للعمل الصالح، فإذا انساق العبد لِوُعُوده كان كالذي يشرب من البحر، لا يرتوي، فيغوص في الملذات، ولا يكاد ينتهي، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120].
ومِن مَكْر الشيطان ببعض الناس، أن يوحيَ إليهم المجادلة بالباطل، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 120]، فيوحي لبعض الناس أن أحكام القرآن كثير منها لا يصلح لهذا الزمان، والتقدم الحضاري، وأن تطبيق الحدود الشرعية قسوة، لا تتناسب مع الرحمة وحقوق الإنسان، وأوحى إليهم أنَّ المرأة لا بدَّ أن تنزعَ الحجاب، وتخرج في الأسواق، وتخالط الرجال في الأعمال، حتى أصبحت معْوَل هدم، وإغراء، وانحراف.
ومِن أعمال الشيطان غَرْس اليأس في قلوب الناس، فيغرس اليأس من رحمة الله، وأن ذنوبه أكبر من رحمة الله، وأنه لوِ اهتدى الناس جميعًا فلن يهتدي هو؛ لِمَا قام به منَ الأعمال، فيزيد في غوايته، ويزرع الشيطان اليأس في قلوب الناس من رحمته العامة، فيرى انحباس الأمطار، فييأس من رحمة الله، ويرى ذُل المسلمين وهوانهم، فييأس من العمل لنصر دين الله، وييأس بعضُ الدُّعاة منَ العمل في مجال الدعوة إلى الله، ويجعلهم يتوقعون وصول الشرور قبل أن تحدث، فتسمع من يأس بعض الناس أن المرأة ستقود السيارة لا محالة، وهي مسألة وقت وأن وأن...، وهذا كله يأس والعياذ بالله.
عباد الله:
لقد جعل الله للمسلم من الأسلحة ما يواجه به عدوه من الشياطين، فأمر المسلم بالاستعاذة أول ما ينزغه الشيطان، فحال ما يرد على قلبك خاطر سوء من شك، أو غضب، أو حسد، فاستعذ بالله؛ أي: قل أعوذ بالله منَ الشيطان الرجيم، ومعناها: يا الله، إني أعتصم بك، وألجأ إليك أن تحميني من الشيطان الرجيم، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة، لو قالها، ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد»، فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعوذ بالله من الشيطان))، فقال: وهل بي جنون.
وعَوِّد نفسك أيها المسلم على الأوراد الشرعية، التي بارك الله فيها، وجعل فيها نفعًا عظيمًا للناس، ومن ذلك قراءة آية الكرسي، فإنها عدو الشيطان، والمعوذتين الفلق والناس، فلما نزلت على رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: (( «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1].
فاقرأها في الصباح والمساء وعند النوم، واحرص أيضًا على قراءة آخر آيتين من البقرة، فمَن قرأها في ليلة كفتاه من كل شيء بإذن الله، ثم أغلق منافذ الشيطان، فغض بصرك، وقلل من الكلام إلا ذكر الله وما والاه، وصُن سمعك أيها المسلم عن الحرام، وسماع الباطل من الموسيقى والغيبة والكلام الباطل، الذي فيه شُبة وتشكيك في دين الله وشريعة الله.
ثم اعمل يا عبد الله على تقوية أسرتك، فهي أشد ما يكون على الشيطان، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت».
والقول الحسن دواء لما يلقيه الشيطان بين الناس، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
والابتسامة أيها المسلم في أوجه الناس عامة، وليس ناس دون ناس، مما يطفئ الأحقاد، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرتُ إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أَثَّرَت به حاشية الرداء؛ من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء.
______________________________________________
الكاتب: د. ناصر بن عمر العمر
- التصنيف:
- المصدر: