الإجابة الصادمة إن كان قال.. فقد صدق !
السر في اليقين، في الثقة، في الإيمان، في العقيدة القوية. إن المؤمن الحق هو الذي يوقن بصدقِ كل حرف نطق به الكريم صلى الله عليه وسلم
الإجابة الصادمة
إن كان قال.. فقد صدق !
عبارة تكتب حروفها من ذهب، قالها أبو بكر فسُمِيَ بعدها بالصديق؛ جاء المشركون إليه صبيحة ليلة الإسراء ليخبروه أن صاحبه يزعم أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد في ذات الليلة وهم الذين يضربون إليها أكباد الإبل شهرًا ذهابا وشهرًا إيابا، وكان ظنهم أنه سيكذب صاحبه وبذلك يقومون بزعزعة إيمانه، لكن الإجابة جاءت صادمة لهم على غير ما توقعوا، لقد كانت واضحة قوية يحملها التاريخ لكل من يأتي بعده من المؤمنين لتكون لهم قاعدة وأصلا إلى قيام الساعة: "إن كان قال فقد صدق".
فليس المهم ما قال، ولكن المهم أنه قال، ومادام قال فقد صدق.
السر في اليقين، في الثقة، في الإيمان، في العقيدة القوية.
إن المؤمن الحق هو الذي يوقن بصدقِ كل حرف نطق به الكريم صلى الله عليه وسلم، يؤمن بذلك لأنه كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والصادق المصدوق الذي لا يمكن أن يتطرق إلى كلامه كذب، لا لأنه كلام أيدته النظريات العلمية والتجارب المعملية.
لا ينتظر إثباتا علميا ليصدق ما جاء في آية أو حديث، فمن يفعل ذلك - فهو في الحقيقة - لا يؤمن به صلى الله عليه وسلم ولا بما جاء به، وإنما يؤمن بالنظريات والتجارب، فإن وافقت كلامه قبلوه وصدقوه وإن خالفته ردوه وكذبوه.
وليس هذا شأن المؤمنين، وإنما شأن المؤمنين ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه: "آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إذا لابد من يقين داخلي يجعلنا نؤمن إيمانا لا يرقى إليه شك أن كل حرف قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق مهما قالوا ومهما جاءوا بنظريات علمية.
عندما نجد طبيبا يقول أن النوم على الجانب الأيمن واضعا يدك تحت خدك الأيمن غير صحي، أقول له كذبت مادام قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صواب ومفيد للصحة، أما أنت فعليك أن تراجع نظرياتك وأبحاثك.
إذا قال أحدهم كيف أصدق شيئا لم أره بعيني؟! فقل له من ١٤٠٠ سنة لو قلت لأحدهم أن سيكون في المستقبل سيارات وقطارات وطائرات بل وصواريخ وثلاجات وهواتف وغيرها من المخترعات الحديثة في كل المجالات لظنوك مجنونا.
ولذلك فإن عدم قدرة عقلك على استيعاب أمر ما لا يعني استحالة حصوله، فقدرات عقلنا محدودة.
قال الشاطبي: "إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب".
لابد أن يكون عندي يقين أن كل شيء أمر به الشرع فهو خير وكل شيء نهى عنه فهو شر، ولحكمة معينة، سواء أدركنا الحكمة أم لم يستطع عقلنا إدراكها.
وأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لا يمكن أن يقع فيها أي تعارض، وما كان فيها من شيء يوهم التعارض فيمكن الجمع بينها، أو الحكم منسوخ أو الحديث ضعيف، قد لا أعلم أنا الإجابة ولكن العلماء يقينا يفعلون.
أتعجب ممن إذا ذُكر حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة بدليل قطعي الثبوت، ثم يسأل ويجادل ويرفضه حتى يمر به على عقله أولا فإذا اقتنع قبله وإلا رفضه، وحجته أن الإسلام هو دين العقل.
فكيف نقدم المصدر غير المعصوم (العقل) على المصدر المعصوم (الشرع)؟
فالأفهام تتفاوت، ومعايير استيعاب الناس وقبولهم للأخبار يختلف من شخص لآخر حسب التربية وظروف النشأة والمجتمع المحيط، وللعقل حدود لا يستطيع أن يتجاوزها.
ولكن هل لاحظتم قول الصديق: "إن كان قال"؟
إذا نحن لا نقبل إلا ما تأكدنا أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم تقوَّل الكذابون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث موضوعة مكذوبة، فلا بد أولا أن نتأكد من صحة الحديث وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله، فإذا تأكدنا فالتصديق ثم التنفيذ الفوري.
ومن حقك أن تسأل لتفهم لا لتعترض لكن مع يقين بأنه الحق، فوظيفة العقل فهم النصوص وليس الحكم عليها، قال الله تعالى في سورة البقرة: (وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260))
كما يجب التفريق بین ما يمكن عقلا وما يستحيل عقلا؛ فالشريعة قد تأتي بأمر يحير العقل، ولكن لا تأتي بما هو محال؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "يجب التفريق بين ما يسلم العقل ببطلانه وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته؛ فالأول من محالات العقول، والثاني من محارات العقول، والرسل يخبرون بالثاني ".
وهذا الثبات واليقين الذي ينبض به قلب أبو بكر في كل مواقفه التي تحكيها لنا كتب السيرة كان داعما لقلوب الصحابة، يثبتهم ويقوي عزائمهم، ويدركهم بثباته في الأوقات الحرجة، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صلح الحديبية وقد كتم الصحابة رضوان الله عليهم ما كان في صدورهم من الغيظ، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تكلم وأفصح عما في نفسه، قال: "فانطلق عمر، فلم يصبر مُتغيِّظًا، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدًا".
وما أعظم ثباته عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في وقت عصيب على الصحابة جعل عمر بن الخطاب رغم رباطة جأشه ينكر وفات النبي صلى الله عليه وسلم ويتوعد من يزعم موته؛ فعن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات.
قال: وأقبل أبو بكر، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، قال: ثم رد البرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج، وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر ، أنصت، فأبَى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال: ثم تلا هذه الآية "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين". قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ. قال: وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
هل رأيتم ما فعله ثبات ويقين الصِّديق، وكيف كان سببا في ثبات الصحابة؟
إن يقينك وثباتك على الحق وشرع الله قد يكون سببا في انتشال غيرك من مستنقع يوشك على الوقوع فيه، فنجاتك ونجاة من حولك يكون بقلب موقن كيقين قلب أبي بكر شعاره: "إن كان قال فقد صدق".
- التصنيف: