مكارم الأخلاق - (1) قضاء حوائج الناس

منذ 2021-09-04

المسلم الذي يخالط الناس، يجد نفسه بين فئتين منهم تتجاذبانِه: فئةِ الأخيار، تدعوه إلى الخير والصلاح، وفئةِ الأشرار، تجذبه إلى الشر والفساد وسوء الأخلاق

عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحبُّ الناسِ إلى الله - تعالى - أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل - سرورٌ تدخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا، ومن كفَّ غضبه، ستر الله عورته، ومَن كظم غيظًا، ولو شاء أن يمضيَه أمضاه، ملأ الله قلبه رضًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزِلُّ الأقدام، وإن سوء الخلق لَيفسدُ العمل كما يفسد الخلُّ العسلَ» (رواه ابن أبي الدنيا)، وهو حديث حسن.

 

ظهر هذا الحديث الشريف محورًا أساسًا، يدور عليه نجاح الأمة الإسلامية، وينبني عليه شرفها، ومجدها، وعزتها، وهو تَمثُّل حُسن الخلق في التعامل مع الآخر، واستحضارُ وصايا مبلِّغ شريعة الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في ضبط العلاقة بين الأفراد والجماعات، الذي ما بعثه الله - تعالى - إلا ليتمِّم حسنَ الأخلاق؛ فقد سقطت أكثر من 20 حضارة بسبب فساد أخلاق أهلها، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاقِهِمْ ♦♦♦ فَأَقِمْ   عَلَيْهِمْ   مَأْتَمًا   وَعَوِيلا

 

ولا شكَّ أنَّ المسلم الذي يخالط الناس، يجد نفسه بين فئتين منهم تتجاذبانِه: فئةِ الأخيار، تدعوه إلى الخير والصلاح، وفئةِ الأشرار، تجذبه إلى الشر والفساد وسوء الأخلاق، قال - عليه الصلاة والسلام - من حديث أبي سعيد الخدري: «ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانةٌ تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله» (البخاري).

 

ولهذا كان التزام الفئة الخيرة ضروريًّا لاستقامة الحياة وسعادتها؛ فقد أوصى الله - تعالى - رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

 

وفي "صحيح مسلم" عن سعد بن أبي وقَّاص قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستَّة نفر، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد هؤلاء، لا يجترئون عليْنا، قال: وكنت أنا (أي: سعد بن أبي وقاص) وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجُلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدَّث نفسه، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]"، هكذا تتغير نظرة الناس إلى الآخر، مركزة على معايير غير حقيقية، يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -:

 

عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ يُبَاعُ جَمِيعُهَـــــــا   ***   بِفَلْسٍ لَكَانَ الفَلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَـرَا 

وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ يُقَاسُ بِبَعْضِهَـا   ***   نُفُوسُ الوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا 

 

قال الفضيل بن عياض: "اتبعْ طرق الهدى، ولا يضرك قلَّة السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين"، وصدق والله.

 

كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَـــــا   ***   وَأَخٍ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَـــــا 

صَافِ الكِرَامَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ   ***   وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَخَا الحِفَاظِ أَخُوكَا 

كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُــــمُ   ***   وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَــــــــــــا 

 

ولذلك سمعت في الحديث السابق: (ومَن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام).

 

فمن كمال الخُلق: أن تنبسط في وجه أخيك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة» "ص. الترغيب"، وقال أبو جعفر المنصور: "إن أحببتَ أن يكثر الثناءُ الجميل عليك من الناس بغير نائل، فالْقَهُمْ بِبِشْر حسن"، وتأمل في هذه القصة البديعة الرقراقة، التي يرويها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِل بوجهه وحديثه على أشرِّ القوم، يتألَّفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ، حتى ظننتُ أني خير القوم، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خير أم أبو بكر؟ قال: «أبو بكر»، فقلت: يا رسولَ الله، أنا خير أم عمر؟ قال: «عمر»، فقلت: يا رسول الله، أنا خير أم عثمان؟ قال: «عثمان»، فلمَّا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَنِي، فلودِدتُ أني لم أسأله"؛ (رواه الطبراني) ، وحسَّنه في "مختصر الشمائل".

 

ومن كمال الأخلاق: الصبرُ على أذى الجاهلين، ونكايةِ الغافلين، قال – تعالى -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، ومن عجائب أخلاق الأحنف بن قيس - وكان سيِّدًا في قومه، إذا غضب غضب له مائةُ ألف، لا يسألونه فيم غضب - أنَّه كان يسير يومًا إلى منزله، ووراءَه رجل يتبعه منذ مسافة، يسبُّه ويشتمه، فلمَّا قرب الأحنفُ من بيته (أي من حارتِه) وقف، وقال لهذا الرجل: "يا أخي، أعْطِني ما بقي عندك، أكمل السب والشتم"، فاستغرب الرجل وقال: لماذا؟! قال: "أخشى أن يراك سفهاءُ قومِنا فيؤذوك، وأنا لا أريد أن يؤذوك"، فأطرَقَ الرجل حياءً وانصرف.

 

يقول - صلى الله عليه وسلم -:  «أربع إذا كُنَّ فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدقُ الحديث، وحفظُ الأمانة، وحسنُ الخلق، وعفَّةُ مطعم» "ص. الجامع".

 

إِنِّي لَتُطْرِبُنِي الخِلالُ كَرِيمَــــةً   ***   طَرَبَ الغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَــلاقِ 

وَيَهُزُّنِي ذِكْرُ المَحَامِدِ وَالنَّــدَى   ***   بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ المُشْتَــاقِ 

فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيقَةً مَحْمُـــودَةً   ***   فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّـمُ الأَرْزَاقِ 

وَالنَّاسُ هَذَا حَظُّهُ عِلْـــمٌ وَذَا   ***   مَالٌ وَذَاكَ مَكَارِمُ الأَخْــــــلاقِ 

وَالمَالُ إِنْ لَمْ تَدَّخِرْهُ مُحَصَّنًا   ***   بِالعِلْمِ كَانَ نِهَايَةَ الإِمْـــــــلاقِ 

 

لما غاب كثيرٌ من هذه الأخلاق الرفيعة عن المسلمين، وكَلهم اللهُ إلى أنفسهم، فضَنكت معيشتُهم، وقلَّت حيلتهم، فتفشَّت فيهم الأميَّة، وانتشرت بينهم الأمراض، وعظمت بينهم الصراعات، فضعفت هِمَمهم، وذهبت ريحهم، وسلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم، فاستباحوا أراضيَهم، وأخذوا بعض ما في أيديهم، وأمامنا نكبة فلسطين، حيث الحرمات مستباحة، والدماء مسفوحة، والمساجد تهدم، والمستشفيات تقصف، متوسط الجرائم أكثر من 60 قتيلاً و230 جريحًا يوميًّا، طيلة ثلاثة وعشرين يومًا، بلا شفقة ولا رحمة، قال – تعالى - {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، ولكن بالأخلاق الفاضلة ينتصِر المسلمون، بالتصرُّفات السديدة يَسُود المسلمون، بتحكيم أوامر كتاب الله وسنَّة رسوله يعزُّ المسلمون، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].

 

وقد أُثر عن عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمَن ابتغى العزة في غيره، أذلَّه الله"، وفي وصيته - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص ومن معه من الجنود، قال: "وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوِّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوَّة؛ لأن عددنا   ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعُدَّتهم، فإنِ استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في   القوَّة، وإلاَّ نُنصَر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوَّتنا".

 

فلنتَّقِ الله في أنفسنا - عباد الله - ولنتخلق بأخلاق الإسلام، ولنقلع عن المعاصي والآثام، قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: "إنَّ للسيئة اسودادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق"، فاللهم زينَّا بزينة الإسلام، ومتِّعنا بنعمة الإيمان.

_____________________________________________
الكاتب: د. محمد ويلالي

  • 7
  • 0
  • 3,411
 
المقال التالي
(2) حسن الخلق

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً