مواساة الناس تعريف وصور ومثوبة
كذلك من يواسي الناس بصدقته, بابتسامته, بكلمته الطيبة, بدَيْنٍ يمهله, أو بمالٍ يسقطه يجعل الله تعالى ثوابه من جنس الحسنة التى عملها, فيسقط عنه ذنوبه, ويستر عليه عيوبه..
أيها الإخوة الكرام : ورد عند أصحاب السنن من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَ «يْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يُصَرِّفُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ» »
هذا الحديث أيها المؤمنون: يدعونا إلى قيمة عظيمة من قيم الإسلام وهى قيمة (مواساة الناس)
وما مواساة الناس ؟
مواساة الناس هى:
إعانة المسلم لأخيه المسلم, المواساة تكاتف وتعاطف وتراحم بين المسلم وبين إخوانه, المواساة شدُّ المسلم من أزر أخيه المسلم يوم يموت عزيز لديه, يوم يُسرق ماله, يوم يُحرق متاعه, يوم تأت عليه الدنيا بهمومها وآلامها...
المواساة: معروف تبذله, المواساة صدقة, المواساة بسمة, المواساة دمعة رحمة, المواساة كلمة طيبة تنزل بردا وسلاما على القلوب المحزونة.. عظّم الله أجركم , ربط الله على قلوبكم, جزاكم الله خيرا..
كم في الدنيا من نفس حائرة, وكم في الدنيا من قلب حزين يرجو بسمة ويتلهف لفرحة ..
كم في الدنيا من المهمومين, وكم فيها من الغارمين, وكم فيها من الأرامل, واليتامى, والفقراء, والمساكين.. كلهم بحاجة إلى من يواسيهم, إلى من يخفف عنهم, إلى من يشد من أزرهم.. وهذا وربي يسير على من يسره الله تعالى عليه..
في سورة البقرة آية تقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
هذه الآية تتحدث عن الغارمين..ومن الغارمون؟
الغارمون: هم قوم قَلَّتْ أموالهم واشتدت حاجاتهم وتكاثرت ديونهم حتى أتى عليهم وقت عجزوا فيه عن السداد..
الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره الديون, وكان يستعيذ بالله تعالى منها.. لماذا؟
لأن الديون تفسد أخلاق صاحبها, ورد أنّ أَبَا قَتَادَةَ: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى الغريمُ عَنْهُ»
لذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يسمعون رسول الله كثيراً يقول في صلاته (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ " فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»
من هنا جاءت آية سورة البقرة
تدعو إلى مواساة الغارمين {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
ورد في سبب نزول هذه الآية أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة شكوا العسرة - يعني بني المغيرة - وقالوا : ليس لنا شيء ، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم ، فنزلت هذه الآية {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
الأصل في مواساة الغارمين حماية دينهم
وصيانة أخلاقهم ذلك أن " «الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» "
مواساة الغارم تكون:
بسداد الدين كله عنه, أو بسداد بعضه.. نواسيه من زكوات أموالنا أو من الصدقات {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
وقد تكون مواساة الغارم بإمهاله حتى يرزقه الله تعالى من فضله فيسد ما عليه.. وقد تكون مواساة الغارم بالتجاوز وإسقاط الدين عنه إن ثبتت عسرته وتحققت حاجته..
قال أبو اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَقُلْتُ: أَثَمَّ هو؟
قَالُوا: لَا، قال فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟
فَقَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ فِي أَرِيكَةِ أُمِّي، فَقُلْتُ: أي فلان اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، قال أبو اليسر فَخَرَجَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ منّي؟
قَالَ: خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ، فَأَكْذِبَكَ، وَأَعِدَكَ، فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا، قَالَ أبو اليسر: قُلْتُ: آللَّهِ؟، قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ؟، قَالَ: اللَّهِ..
قَالَ أبو اليسر فأخذت صحيفة الدّين فَمَحَوتها ثم قلت: أي فلان إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً، فَاقْضِ، وَإِلَّا، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ.. إني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ"
( {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )
هذه الآية آية (رحمة) رحم الله بها عباده من عباده (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لما نزلت هذه الآية نسخت ما كان عليه الناس في الجاهلية قبل الإسلام, وقد كان الناس في الجاهلية إذا غرم أحدهم وحان وقت السداد ولم يجد ما يسد به دينه كان لصاحب المال حق أن يبيع الغارم في الأسواق حتى يسترد ماله ويصير الغارم بذلك عبداً مملوكاً, فلما نزلت هذه الآية رحمت الناس من الناس وأمرت بمواساة الغارمين بسداد الدّيْن أو بالإمهالِ أو بالصدقة عليه أو بالحط عنه..
( {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} )
قلت:
وبهذا قد لا يعود صاحب المال بماله لكنه قد يعود وقد بُشِّرَ بما يَسرُّه قال النبي عليه الصلاة والسلام ( «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» ).
نسأل الله تعالى أن يوسع أرزاقنا وأن يقض حوائجنا إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن مواساة الناس أن نقول:إن الله تعالى قريب ودود وإنه من تقرب إلى الله تعالى بحسنة قَبِلَها الله منه,ثم يجعل الله لصاحب الحسنة خَلفاً من جنس حسنته ( {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} )
والمعنى أن الله تعالى يعطي صاحب الحسنة مثوبة من جنس حسنته التي جاء بها فمن رَحِمَ رُحِمَ, ومن سَتَرَ سُتِرَ,ومن أَعَانَ أُعِينَ, ومن يَسّرَ على الناس يَسّرَ الله تعالى عليه ( {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} )
كذلك من يواسي الناس بصدقته, بابتسامته, بكلمته الطيبة, بدَيْنٍ يمهله, أو بمالٍ يسقطه يجعل الله تعالى ثوابه من جنس الحسنة التى عملها, فيسقط عنه ذنوبه, ويستر عليه عيوبه..
الدليل:
في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " « إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، كَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِه: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ، وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ يَتَقَاضَى، قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ، وَتَجَاوَزْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ " هذا الحديث أحسبه شرحا دقيقا لقول الله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا» )
أسأل الله تعالى أن يفك كرب المكروبين وأن يسد الدين عن المدينين وأن يتولانا برحمته فهو أرحم الراحمين.
- التصنيف: