القنوات الفضائية وإذلال الفقراء
دأبت بعض القنوات الفضائية - وخصوصا تلك التي تتمتع بتمويل سخي وغير معلن - على تقديم العديد من برنامج المسابقات والزيارات أو التبرعات التي هي في ظاهرها فعل خير وعطاء، وفي باطنها بحث رخيص عن الشعبية والترويج التجاري والسياسي ..
دأبت بعض القنوات الفضائية - وخصوصا تلك التي تتمتع بتمويل سخي وغير معلن - على تقديم العديد من برنامج المسابقات والزيارات أو التبرعات التي هي في ظاهرها فعل خير وعطاء، وفي باطنها بحث رخيص عن الشعبية والترويج التجاري والسياسي لها ولمالكيها وللجهات التي تقف خلفها.
إنها برامج لا تخلو من إذلال - وإن كان غير مباشر - للفقراء والعائلات المتعففة وذات الحاجة، حيث ترى القائمين على هذه القنوات الفضائية يعدون ويبثون برامج عديدة، وبأسماء مختلفة يقدمون فيها الهدايا والأعطيات للأشخاص والأسر الفقيرة، أو إنهم يتكفلون بعلاج طفلة مريضة أو شاب معوق أو تزويج عدد من الشباب الفقراء أو حتى تقديم وجبة طعام لطفل جائع من مشردي الشوارع وسط ضجة وتهريج ومِنَّةٍ لا تخطئها العين، ومحاولات مقرفة لاستحلاب واستجلاب المديح وعبارات الإطراء من المُتَصَدَق عليهم لتلك القناة المشؤومة وصاحبها والقائمين عليها. وهكذا تجد الشخص المعوز أو الأسرة المعوزة التي ساقها قدرها إلى عدسات كاميرات هذه القناة أو تلك، وبعد أن تكون قد (تبهدلت ألف بهدلة) خلال فترة التصفيات مع عوائل أخرى، تراها تموت ألف مرة من الشعور بالعار والصغار والإذلال حتى ينتهي تصوير البرنامج وتنال ورقة نقدية غالبا ما تكون بالدولار الأمريكي، أو سلة بضائع أو جهاز منزلي كهربائي صورته الكاميرا من جميع الجهات، ثم تموت - تلك الأسرة - مرات أخرى بعد بث البرنامج المذكور مرارا وتكرارا، وكأن القناة المتصدِقة على هؤلاء البؤساء تريد الثأر منهم وجعلهم جسرا لشهرة عاجلة وصيت ذائع وبأرخص الأثمان.
قبل بضعة أيام عرضت إحدى القنوت طفلة صغيرة بحاجة إلى إجراء عملية جراحية وقد تكفلت القناة بإجرائها لها وكان العرض واللقاء بتلك الفتاة وأسرتها مخجلا ومعيبا ووصمة عار في جبين تك القناة لما فيه من فجاجة وفظاظة في استحلاب الثناء والمديح من الفقراء والمحتاجين حيث ظلت تلك الفتاة تجهش بالبكاء الصادم وتفيض بالدموع الغزيرة وعدسة كاميرا تلك القناة تلاحقها بلؤم وجشع لفترة بدت لي دهرا.. ترى ألا تخجل تلك القناة، وإدارة ذلك البرنامج تحديدا، والذي تقدمه سيدة إعلامية عراقية لا شك في ثقافتها وحيائها من هذا الإذلال العلني لفتاة مريضة وأمام ملايين الناس من مشاهدي القنوات الفضائية؟
ليس ما ننتقده هنا ظاهرة جديدة وابتكارا خاص بالقنوات التلفزيونية العربية بل هي ظاهرة عرفتها مجتمعات أخرى، وقامت على أسس مرفوضة حضاريا وإنسانيا منها دغدغة المشاعر البدائية وتهييج الغرائز والأحاسيس سهلة الاستثارة، الأمر الذي دفع الطبقات المثقفة والأوساط المدنية المدافعة عن الكرامة الإنسانية إلى مقاومة هذه الظاهرة ونقدها والدعوة إلى ضبط وتقنين عمليات التبرع والنشاطات الخيرية من الناحية القانونية، حتى باتت بعض المظاهر والأساليب العملية للقيام بها ممنوعة قانونيا، أو مرفوضة ومستنكرة اجتماعيا إذا ما توسلت تلك الوسائل الفظة والتي لا تراعي كرامة المحتاجين والفقراء. غير أن حالة الفوضى الاجتماعية والسياسية التي تعيشها مجتمعاتنا ودولنا، وانشغال مثقفينا بالمعارك والانشغالات الدونكيشوتية والآيديولوجية القشرية والذاتية، تجعل من قوننة وضبط هذه الظاهرة أمرين بعيديْ المنال حاليا ولزمن قد يطول.
ولكن، وبالمقابل، ألا نظلم ذوي النوايا الحسنة والقلوب الكريمة والضمائر المشاعية الحية الذين يريدون بهذا الفعل النبيل مرضاة الله والضمائر بكلامنا هذا والذي لا يخلو من التعميم؟ في الواقع نحن لا نظلم أحدا، ونقدر أهل العطاء والكرم أيما تقدير غير أن من الصعب أن يسكت المرء وهو يرى البعض يحاول، وبرخص ولؤم، استغلال أعمال الخير والصدقة ليذل المحتاجين ويحاول الصعود على أكتافهم. ثم إن تراثنا الديني والاجتماعي يوضح الفرق جيدا بين الصنف الأول من المتصدقين ويصفهم بأهم أهل المن والأذى والعلانية، وأية علانية أكثر وأشد قبحا من الفضح على شاشات الفضائيات فيرفضهم ويلعنهم، وبين الصنف الثاني وهم أهل التصدق بالسر دون مَنٍّ أو أذى فيحَيّهم ويطريهم، ومن السهل التفريق بين الصنفين بسهولة! فمن يريد أن يعين الفقراء لوجه الله ليس بحاجة إلى اصطحاب الكاميرات وشبكات الإضاءة وجيش من الإعلاميين والفنيين معه.
ومما شجع على تفشي هذا النوع من النفاق التلفزيوني انتشار روح الشحاذة و(الكدية) بين شرائح واسعة من الناس لأسباب كثيرة منها الفقر الشديد وصعوبة الحياة اليومية في ظل الاحتلال الأجنبي وحكم المحاصصة الطائفية، وفقدان السند والداعم الاجتماعي، وتآكل الطبقة الوسطى المأساوي وتحولها إلى نثير وشظايا من الكادحين والمحرومين، وغلبة نمط الحياة الاستهلاكي الأمريكي المشوَّه والمشوِّه والذي يفرغ الإنسان من أي شعور بالكرامة والعزة ويجعله يركض بجشع خلف الماديات حتى حين لا يكون محتاجا لها بحق، وخلف العطاءات الاستعراضية والهدايا المريبة والربح السريع المشبوه مهما كان الثمن المعنوي والأخلاقي حتى في مجتمع قيمي كالمجتمع العراقي كان، نعم كان يعطي للمعيارية الأخلاقية أهمية قصوى وأولوية حاسمة في منظومته القيمية الاجتماعية قبل أن تدمر تجربةُ حكم البعث الصدامي طوال أربعة عقود تلك المنظومة القيمية الأخلاقية الموروثة الراقية وتشطر المجتمع العراقي إلى شطرين، كل شطر يتجسس على الآخر، لدرجة تجد معها الزوجة البعثية تكتب تقريرا سريا لحزبها عن زوجها، والابن عن أبيه والعكس وارد!
وبالعودة إلى تراثنا الديني وموقفه من هذا النمط من التضليل والإذلال باسم التبرعات الخيرية أي الصدقة التي يخالطها الأذى والمن أو المِنْيَّة - بكسر الميم وتشديد النون والياء، كما تقول العامة في كلامها - واللذان وردا في الآي القرآني، نعلم إنهما يبطلان الصدقة والزكاة ويجعلانهما حراما بدليل الآية القرآنية التالية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]، والمعنى واضح؛ فالزكاة أو الصدقة تبطل أي تكون حراما وباطلة إذا خالطها المن والأذى وتتحول إلى إنفاق للمال لأهداف أخرى هي "الرئاء" أي الرياء والنفاق ومشتقاتهما وقد اتفق الفقهاء من جميع المذاهب الإسلامية، كما يقول الدكتور صبري عبد الرؤوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر: "أن الصدقة ينبغي أن تكون سرًّا وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»، وذكر منهم: «رجلٌ تَصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شمالُه ما أنفقت يمينُه». ولا خلاف بين الفقهاء على حرمة المَنِّ بالصدقة؛ لأنه يؤدي إلى الحرمان من الثواب".
ويضيف د. عبد الرؤوف: (جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثةٌ لا يكلمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا ينظرُ إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ» فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، ثم قال أبو ذر: خابوا وخَسِروا، من هم يا رسول الله؟ قال: «المُسبِلُ والمَنّانُ والمنفِقُ سِلعتَه بالحَلِف الكاذبِ»؛ والمسبل: هو من أطال ثوبه أو إزاره إلى مادون الكعبين، والمنان هو المتصدق بمنة على الآخرين رياء أو طمعا في جاه أو ما شابه.
_________________________________________
الكاتب: علاء اللامي
- التصنيف: