فن الكتابة فى الصفحة البيضاء - قواعد: (17) {فَأوُوا إِلَى الكهْفِ}.. صَوباتُ التربية!

منذ 2021-10-27

وهو ما يُذَكِّرُنا كذلِك، برَشادِ فِتيةِ الكهفِ حينَ احتَمُوا مِن ((فِتنَةِ الدِينِ)) بالكهفِ وقالُوا: {فأوُوا إلَى الكهفِ يَنشُرْ لكم ربُكُم مِن رَحمَتِهِ ويُهَييءْ لكُم مِن أمرِكُم مِرفَقًا}..



تخيلِي مَعِي.. كُرِةً صغِيرَةً في ماسورةٍ، مَنقُوشٌ بداخِلِ مسارِها رسوماتٌ دائريةٌ سوداءُ، تُشبِهُ الحُفَر.. وأنَّكِ قد عَلَّمْتِ تلكَ الكُرةَ أنها يَومًا ستَخرُجُ مِن الماسُورةِ وتُواجِهُ في الحياةِ حُفَرًا حقيقيةً مُهلِكَة، وقد تَقَعُ فيها إن لم تتَعَلمْ مِنَ الآنَ داخلَ الماسورَةِ أولًا كيفيَّةَ تفادِي أشباهِ الحُفَر..!
ثم تَخَيَّلَي مَعِي كُرَةً أُخرَى صَغِيرَةً كذلك، قد سمَحْتِ لها بالقَفْزِ خارِجَ الماسورةِ إلى أرضِ الحياة، وقُلتِ لها وهي لازالتْ تتعلمُ المَشْيَ والتَدَحرُجَ بَعدُ:
((انتبِهِي للحُفَرِ في طريقِكِ ولا تَمُرِّي فوقَها، قد حّذَّرتُكِ!))
في رأيكِ أيتُها الطيبة:
أيُّ الكُرَتَينِ هي الأقربُ لإكمالِ أطولَ مَسارٍ مُمكِنٍ بِسلامٍ ونجاحٍ دونَ السقُوطِ المُبَكِّر؟
بالتأكيد الكُرَةُ الأُولَى..

حسنًا.. تَخيلِي مَعِي شيئًا آخَرَ..
لديكِ وَلَدَان.. قد ربَّيْتِهما علَى القِيَمِ والعقيدةِ، ثم معَ أحدِهِما أحكَمتِ السيطرةَ على الجَبَهاتِ الداخليةِ والخارِجيةِ، والآخرُ ربَّـيْـتِهِ بانفتاحٍ مُطلَقٍ وتَخَفُفٍ مِن قُيُودِ الدِين، وتغافُلٍ عنِ المُحيطِ الذِي يَرتَعُ فِيه..
ثم كلاهُما انْحرَفَ والعياذُ بالله، فمع أيِّهما ستندَمين على تربيتِكِ وتلومينَ نفسَكِ على انحِرَافِه؟ ومع أيِّهما لن تندَمِي؟
بالتأكيد أنتِ مَلُومَةٌ معَ الثاني..
ولكن....
ربما تقولين:
((لا! سأندمُ مع الولدِ الأولِ كذلكَ لأنَّ التضييقَ على الأولادِ باسمِ الدينِ وقواعِدِ السلامَةِ يَخنُقُهُم فينحَرِفون كذلكِ!
 فالأفضلُ بالنسبةِ لَهُ هو أن يَكبُرَ وهو -كما يُقالُ بالعامِّيةِ- "خِبرة" و"مقطّع السمكة وديلها" و"سالِك" في الحياة و"مخَربِش"، لا أن يَخرُجَ من "الماسورَةِ" ويصلَ لسنِ الجامِعَةِ وهُو: "مِقفّل" و "لبخَة" و "بَرِيء" ولمْ يُجَرِّبْ "خِبراتِ" الشبابِ "المعتادةِ" لمثلِ سِنِّهِ في زماننا... لذلك فأنا لا أُقَيدُ حُريتَهُ على الإنترنتِ والتِلْفازِ مَثلًا، ولا أمنعُهُ من الخروجِ مع أيِّ أصحابٍ يرُوقُونَ لَه، ولا مِن الاختلاطِ بالبناتِ في المَدرَسةِ والنادِي وغيرِهم، ولا مِن قِراءَةِ المَجلاتِ والقِصَصِ الغَربيةِ وأشباهِها، بل أُفَهِّمُهُ الصوابَ من الخطأ ثم أتركُهُ يمارسُ حياتَهُ دُونَ قُيود، ليُمارِسَ تَفادِي الخطأَ بنفسِهِ دُونَ تَدَخُل..))

فلو أن هذا تفكيرُكِ أيتُها الأمُ الطيبةُ فأقولُ لكِ: راجِعِي نَفسَكِ..
لأن غَنِيمةَ ((شابٌ نشَأَ فِي طاعَةِ اللهِ)) بالتأكيدِ هِي أفضَلُ من شابٍ نشأَ في حُفَرِ ومُستنقعاتِ "الخِبراتِ" المُهلِكَة.. لأنَّ هذِه العاقِبةَ الزَكِيةَ هي عند اللهِ الأفضلُ والأكملُ والأرقَى حالًا ومآلًا، فيُـبَـلِّغُهُ بها ظلَ عَرشِهِ يومَ القِيامَة
..

ثم أنتِ تستطيعينَ أن تجعلِي وَلَدَكِ كَما شِئتِ خِبرةً في الشَرِ وتُلَقِّنـِيـهِ كيفَ يَقتَحِمُ الحياةَ، دُونَ إلقائِهِ مباشرةً لتَجربةِ الشرِ ليُعايِشَ المُهلِكاتِ والفِتَنَ فِعليًا..!

أم أنكِ تلسَعِينَهُ بالنارِ وتُغرِقِينَهُ في البَحرِ كيْ يَتَعَرَّفَ على خَطَرِهِما...؟
وسأفتَرِضُ مِعَكِ احتمالَ انحرافِهِ بِزَعمِ بعضِ المَنعِ والتضييقِ التابِعَينِ للتنشِئةِ السليمةِ، وأسألُكِ:
=هلْ يَجعَلُكِ هذا تَندَمِينَ على تربيتِكِ لهُ بما يُرضِي اللهَ؟ هل هذا خَطأٌ مِنكِ أنتِ أم مِنَ النفسِ المُنحَرِفَة؟
=وإن كان هناك بعضُ مَن يَنحرفونَ بِزَعمِ أن الممنوعَ مرغوبٌ، فهل هذا يَعنِي أن أجعلَ الممنوعَ غَير مَمنوعٍ؟!
مؤكدٌ أن الجوابَ المُشترَكَ لهذِه كلِها هو: ((لا))..

فثمرةُ الاستقامةِ رِزقٌ مَحضٌ كما قُلنا مِرارًا، وطالما أنها مُتَغَيرَةٌ وغَيبِيةٌ، فعلينا أن نَلتزِمَ طريقةَ الزراعةِ التي قضاها اللهُ لِحمايةِ تَرَعرُعِ الشجرةِ، ثم لا نُبالِي بَعدَها..

ومن أسبابِ أنَّ تربيتَنا لولدِنا على الاستقامةِ ربما لا تُؤتِي ثمارَها المَرجوَّةَ أحيانًا:
سُوءُ تطبيقِنا لها، أو ربما ظروفٌ استثنائِيةٌ خاصةٌ بالطفلِ تُؤثرُ على استجابتِهِ، أو أسبابٌ تَخُصُّ البيئةَ مِن حَولِهِ.. فتكونُ المشكلةُ هي عدمُ الكفاءةِ التربويةِ أو انحرافاتٍ مَنهجيةٍ في التلقِينِ والتطبيقِ، وليستْ في مَنهَجِ الاستقامةِ ذاتِه ولا عدَمِ مُلاءَمَتِهِ للتربيةِ وصناعةِ النَشءِ الصالحِ، حاشَ للهِ..
بالتالي، لا شكَّ أنكِ كأمٍّ –(ومهما كانتْ عثراتُكِ وإخفاقاتُكِ التربويةِ)- ستكونينَ مُطمَئِنةً وأبعدَ عن الندمِ في كل الأحوالِ إن اتَّبَعتِ مَنهجًا ربانيًا قَوِيمًا، وقرآنًا يَهدِي للتي هِي أَقوَمُ، ولن تَخافِي من لحظةِ السؤالِ عن رَعِيتِكِ يَومَ الحِسابِ، لأنكِ تَعلَمِينَ أن سؤالَهُ لكِ -سبحانهَ- عن المنهجِ التربويِ سيكونُ أشدَ وأعسرَ مِن سؤالِهِ عن مَدَى حِكمَتِكِ أو تَخَبُّطِكِ في تَطبِيقِه، وتعلمينَ أن عَفوَهُ عنِ الذينَ يُطبِقُونَ مَنهجَهُ سبحانَهُ لكِن بِضعفِ كفاءَةٍ وقِلَّةِ حِكمَةٍ في الوسائل، يكونُ -بإذن الله- أقربَ إليهم مِن الذينَ تَركُوا مَنهجَهُ تمامًا واستبدَلُوا بِهِ مَنهجًا آخَرَ مِن صُنعِ البَشَرِ واجتهاداتِ الأمهاتِ حسب الأهواءِ..

هل يستويانِ مثلًا...؟

الحمد لله...

لذلك كان ضِمنَ عُنوانِ المَقالةِ ((الصوباتُ التربويةُ)).. فإن الصوباتِ الزراعيةَ هِي واحِدةٌ مِن أهمِ الوسائلِ الآمِنةِ لإنتاجِ المَحاصيلِ الزراعيةِ وحمايتِها من التلوُثاتِ الخارجيةِ والظروفِ المناخيةِ المُتَغَيرَةِ والحشراتِ والآفاتِ؛ وتهيئةِ ((الظروفِ البيئيةِ)) المُلائِمَةِ لإنتاجِ المحاصيلِ داخلَها وزيادةِ مُعَدلاتِ الإنتاجِ الزراعيِّ، حتى أنهُ في بَعضِ الدراساتِ: القيراطُ الواحدُ من إنتاجِ الصوباتِ يُعادِلُ إنتاجَ فدانٍ كامِلٍ من الأراضِي ((المَكشوفَة))  سبحانَ الله..
وتُسهِمُ كذلك في تِرشِيدِ استخدامِ المياهِ وصِيانةِ ((الثروةِ المائية)) وخَفضِ الاحتياجاتِ من الغذاءِ، بل تُساهِمُ في إنتاجِ بعضِ الخُضَرِ ((في غَيرِ مَوسِمِها))...!
لذلك تُعرَفُ باسمِ: 
((البُيوتُ المَحمِية)).. وصَدَقُوا..!
فالصوباتُ تُوَفِّرُ الطاقةَ وتَصُونُ الموارِدَ وتضاعِفُ الثمرةَ وتُنَوِّعُها 
وتُهَيِّئُ ((بَيْتًا آمِنًا)) للغَرسِ المُثمِر..

وهو ما يُذَكِّرُنا كذلِك، برَشادِ فِتيةِ الكهفِ حينَ احتَمُوا مِن ((فِتنَةِ الدِينِ)) بالكهفِ وقالُوا: {فأوُوا إلَى الكهفِ يَنشُرْ لكم ربُكُم مِن رَحمَتِهِ ويُهَييءْ لكُم مِن أمرِكُم مِرفَقًا}..

فكما نهتمُ بالجبهَةِ الداخِليةِ، مِن توفِيرِ قُدوةٍ، وصِدقٍ، وعَدلٍ، وعِلمٍ ومنهجٍ قويمٍ،
=علينا بنفس القَدرِ الاهتمامُ بالجهبةِ الخارجيةِ، وأن نَنْصِبَ حولَ أبنائِنا صَوباتٍ تربَوِيةً مُحكَمَةً، تُفَلتِرُ الصَحبَةَ والمَرئياتِ والمَدرسةَ والمُدخَلاتِ كلَها، لضَمانِ إطالَةِ أمَدِ صَلَاحِ الثمرَةِ وبُعدَها عن المهلكاتِ بإذن الله، حتى يَشتدَّ عُودُها..
وقطعًا لن نَستطيعَ غَرسَ أبناءَنا في بيئةٍ مُعَقّمَةٍ مِئةً بالمِئةِ كفِتيَةِ الكهفِ، لكن ما لايُدرَكُ كُلُهُ لا يُترَكُ كلُهُ، فالمطلوبُ هو تَحصينُهم مِن فِتنَةِ الدينِ والعَقلِ والفِطرَةِ، وعزلُهم -بما نستطيعُ- عَن مُخالَطَةِ الفِتنِ والقبائحِ، معَ تَهيِئَةُ شَتَى أنواعِ الكُهوفِ الداخليةِ في محاضِنهم التربويةِ:
=كهفُ العِلم/ =وكهفُ الصُحبَةِ/ =وكهفُ الدين..
حتى يَرشُدُونَ ويَشتدَّ عُودُهُم وتتكوّنَ لديهِم مَناعَةً ذاتِيَّةً مَعقُولَةً، لمواجِهةِ العالمِ بِشَرِّه وهَمزِهِ ونَفثِه بحولِ اللهِ وقوتِهِ..

فإن سألتِ بعدَ كُلِ تلكَ القواعدِ: كيفَ السبيلُ إلى ضمانِ السِقايةِ الحَكيمةِ بجُرعاتٍ آمِنةٍ مُثمِرَة؟
فالجوابُ في القاعِدَةِ القادِمَةِ بإذن الله..
--
أسماءمحمدلبيب
أمةالله-عفا الله عنها
 
 

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية

  • 7
  • 0
  • 1,713
المقال السابق
قواعد: (16) {لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
المقال التالي
قواعد: (18) فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ.. ترتيبُ التلقين للأبناء.

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً