حي على العمل
وداودُ -عليه السلام- الذي كان خليفةً في الأرض، ومع ذلك كان لا يَأْكُلُ إلا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين هم بهديه مُتَمَسِّكُون، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ دين الإسلام دينٌ شاملٌ وكامل، علَّمنا ما نحتاجه في ديننا ودُنيانا، وممَّا جاء الإسلامُ بتأكيده، والحثِّ عليه: العملُ وبناءُ الأرض وعمارِتُها؛ حتى لحظةَ قيام الساعة، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: " «إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها» «» " (1) ، وأمرَنا أنْ نسعى في الأرض، ونبتغيَ من فضل الله ، قَالَ الله -تعالى-: ( {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّ} هِ) [الجمعة: 10]. واعلموا عباد الله: أنَّ أنبياء الله -عليهم السلام-، مع عَظَمَتهم وشرف رسالتهم، كانوا يُمارسون شتَّى الحِرَف والأعمال، فنوحٌ -عليه السلام- مارس مِهْنةَ صناعة السفن: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]. وداودُ -عليه السلام- الذي كان خليفةً في الأرض، ومع ذلك كان لا يَأْكُلُ إلا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، فأصبح حدَّادًا يصنع الدروع، قال الله -تعالى- عنه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] يقول القرطبي – رحمه الله- في تفسير هذه الآية :" هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب ، وهو قول أهل العقول والألباب ، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء ، فالسببُ سنةُ الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة ، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة ، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود - عليه السلام - أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان آدمُ حراثا ، ونوحٌ نجارا ، ولقمانُ خياطا ؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس ، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس " (2)
1- صحيح الأدب المفرد الصفحة أو الرقم: 371 | 2- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م ، ج 11، ص 321 .
عباد الله : و" كانَ زَكَرِيَّاءُ – عليه السلام - نَجَّارًا" (1) فكان يصنع ويُصلح الأخشاب ، ونبيُّ الله موسى -عليه السلام-: أجَّر نفسه راعيًا للغنم عشر سنين، كما في قوله تعالى : {قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [(27) القصص] ، بل وجميعُ الأنبياء -عليهم السلام-، وفي مُقدِّمتهم محمدٌ خيرٌ الأنام: كانوا رُعاةً للغنم، قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا رَعَى الغَنَمَ، فقالَ أصْحابُهُ: وأَنْتَ؟ فقالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أرْعاها علَى قَرارِيطَ لأهْلِ مَكَّةَ» . " (2) وأفضل وأكرم الخلقِ بعد الأنبياء، أصحاب النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كانوا تُجَّاراً في الأسواق، ومُنشغلين بالبيع والزراعة وجلبِ الأرزاق، قَالَ أَبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: " يقولونَ إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ، واللَّهُ المَوْعِدُ، ويقولونَ: ما لِلْمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ مِثْلَ أحَادِيثِهِ؟ وإنَّ إخْوَتي مِنَ المُهَاجِرِينَ كانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بالأسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَتي مِنَ الأنْصَارِ كانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أمْوَالِهِمْ، وكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا، ألْزَمُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى مِلْءِ بَطْنِي، فأحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وأَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ" (3)
1- صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 2379 | 2-صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 2262 |
3- صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 2350 |
وهكذا كان الأفاضل من التابعين والصالحين، مع اهْتمامهم بأمور الآخرة، إلا أنهم كانوا يُمارسون الحرف والتجارة، ولا يرونها عيباً ومهانة. قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال" (1) وقد كان كبار الصحابة، وزُهُّادُهم وعُلماؤهم: يعملون بالتجارة، ويسعون إلى تنميةِ أموالهم.. وفي حرص السلف على كسب المال الحلال وحسن تدبيرهم له يقول الزبير بن العوام رضى الله عنه : " إن المال فيه صنائع المعروف، وصلة الرحم، والنفقة في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - وعون على حسن الخلق، وفيه مع ذلك شرف الدنيا ولذتها " (2) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم إنه تعالى جواد كريم ملك بر رؤوف رحيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1- ينظر أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا، النفقة على العيال تحقيق /د نجم عبد الرحمن خلف، دار ابن القيم - السعودية – الدمام الطبعة: الأولى، 1410هـ - 1990م. (1/158). 2- [موسوعة ابن أبي الدنيا 7/425].
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.. أما بعد: فيا أيها المسلمون: لا شك أن نبي هذه الأمة محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو المثال الأكبر والأكمل في النشاط والهمة، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يعرف الكسل، منَّ الله -تعالى- عليه بالرسالة، وفي مخاطبة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه {قم فأنذر} أي : شمر عن ساق العزم ، وأنذر الناس فلا قعود ، ويكفي أنه بعد ذلك قضى حياته كلها في جهاد ودعوة وإصلاح، وخلال ذلك الجهد المتواصل كله كان في حياته الخاصة أيضا سيدَ العابدين، قائما في الليل، صائما في النهار، بتوسطٍ واعتدال، دون أن تطغى عبادتُه تلك على حقوق جسده وأهله، وكان الصحابة يتعجبون من نشاطه وهمته صلى الله عليه وسلم؛ ولقد تعلم الصحابةُ -رضي الله عنهم- من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الهمة والحركةَ في الخير، وفي الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – " جَمع القُرْآنَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، أَرْبَعَةٌ، كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ: مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قالَ قَتَادَةُ: قُلتُ لأَنَسٍ: مَن أَبُو زَيْدٍ؟ قالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي" ( 1) وفي هذا الحديث : إشارةٌ إلى تَبايُن مَعارِفِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم ومُيولِهم؛ فمِنهم مَن وُفِّقَ لحِفظِ القُرآنِ، كما أنَّ مِنهم مَن وُفِّقَ لحِفظِ الحَديثِ، ومِنهم مَن وُفِّقَ وتميَّزَ في الجِهادِ والغَزْوِ، ومِنهم مَن وُفِّقَ وتميَّزَ في الفِقْهِ والفَرائِضِ، وهكذا في مَجالاتِ الحَياةِ الأُخْرى؛ فعلَى المُسلِمِ اسْتِغلالُ ما اسْتَودَعَ اللهُ فيه مِن مَواهِبَ وقُدْراتٍ، لنَفْعِ نفْسِه، ومُجتَمعِه، ودِينِه" وللصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم فَضلٌ عظيمٌ، ومَكانةٌ كبيرةٌ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُنزِلُ كلَّ امرِئٍ مَنزِلتَه، ويُثْني على بعضِ أصحابِه، ويُظهِرُ فَضائِلَهم؛ إكرامًا لهم، ولِيَعلَمَ النَّاسُ لهم ذلك، ولِيَقتَدوا بهم في حُسنِ أعمالِهم وسِيَرِهم،
1- صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3810، وصحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 2465 |
كما قال صلى الله عليه وسلم :" «نِعمَ الرَّجلُ أبو بَكْرٍ ، نِعمَ الرَّجلُ عمرُ ، نِعمَ الرَّجلُ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ ، نِعمَ الرَّجلُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ ، نِعمَ الرَّجلُ ثابتُ بنُ قَيسِ بنِ شمَّاسٍ ، نِعمَ الرَّجلُ معاذُ بنُ جبلٍ ، نِعمَ الرَّجلُ معاذُ بنُ عمرِو بنِ الجموحِ» " (1)
- فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على محمد رسول الله فقد قال عليه الصلاة والسلام ( «من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا » ) اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين . اللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية. اللهم احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألف بين قلوبنا؛ ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وهيء له البطانة الصالحة التي تعينه على الحق يا رب العالمين، اللهم وفق ولي عهده لكل خير وهيء له البطانة الصالحة، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين. اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. ( {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ) [البقرة:201] عبادَ الله، ( {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} )، {(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} )، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون .
1- صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 3795
محمد بن حسن أبو عقيل
- التصنيف: