المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي - ذم الكبر

منذ 2022-02-10

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق, له طرفان وواسطة, فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً, وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى مذلة

بيان ذم الكبر:

لقد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه, وذم كل جبار متكبر, فقال تعالى: {( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )} [الأعراف:146] وقال الله عز وجل {( كذلك يطبع الله على كل قلبِ متكبرٍ جبارٍ)} [غافر:35] وقال تعالى: {( واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيدٍ )} [إبراهيم:15] وقال تعالى: {(  إنه لا يحب المستكبرين )} [النحل:23] وقال تعالى: {(  لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً )} [الفرقان:21] وقال تعالى: {( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )} [غافر:60]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من خردل من كبر.) وقال عليه الصلاة والسلام: ( يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري, فمن نازعني واحد منها, ألقيته في جهنم, ولا أبالي.) وقال صلى الله عليه وسلم: ( تحاجت الجنة والنار, فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين, وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزتهم ؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء, ولكل واحدة منكما ملؤها.)»

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:  لا يحقرن أحداً من المسلمين, فإن صغير المسلمين عند الله كبير.

وقال الحسن: العجب من ابن آدم, يغسل الخراء بيده كل يوم مرة, أو مرتين, ثم يعارض جبار السماوات.

 

بيان فضيلة التواضع:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.)»

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: وجدنا الكرم في التقوى, والغنى في اليقين, والشرف في التواضع.

وقالت عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات, التواضع.

وقال يوسف بن أسباط: يجرى قليل الورع من كثير العمل, ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد.

وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع, ما هو ؟ فقال: أن تخضع للحق, وتنقاد له, ولو سمعته من صبي قبلته, ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

وقال قتادة: من أعطى مالاً أو جمالاً أو ثياباً أو علماً, ثم لم يتواضع فيه, كان عليه وبالاً يوم القيامة.

وقال كعب: ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا, فشكرها لله, وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا.

وقال الحسن: أتدرون ما التواضع ؟ التواضع أن تخرج من منزلك, ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.

وقال زياد النميرى: الزاهد بغير تواضع,  كالشجرة التي لا تثمر.

وقيل لعبدالملك بن مروان: أي الرجال أفضل ؟ قال: من تواضع على قدرة, وزهد عن رغبة, وترك النصرة عن قوة.

يقال: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه.

 

بيان حقيقة الكبر وآفته:

الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر, فالباطن هو خُلق في النفس, والظاهر هو أعمال تصدر عن الخوارج. واسم الكبر بالخُلق أحق, وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق.

والكبر يستدعي: متكبراً عليه, ومتكبر به, وبه ينفصل الكبر عن العجب, فإن العجب لا يستدعي غير المعجب, بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً, ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون معه غيره, وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال.

بيان ما به التكبر:

اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه, ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال, وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني: العلم, والعمل والدنيوي: النسب, والجمال, والقوة, والمال, وكثرة الأنصار. فهذه سبعة أسباب:

الأول: العلم, فإن قلت: فما بال بعض الناس يزداد كبراً ؟ فلذلك سببين:

أحدهما: أن يكون اشتغاله بما يسمى علماً, وليس علماً حقيقاً, وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه, ونفسه, وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر

السبب الثاني: أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة, ردئ النفس, سيء الأخلاق, فإنه لم يشتغل أولاً بتهذيب نفسه, وتزكية قلبه, فبقي خبيث الجوهر.

الثاني: العمل والعبادة, فهو يرى الناس هالكين, ويرى نفسه ناجياً, وهو الهالك تحقيقاً, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس, فهو أهلكهم ) لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله, مغتر بالله, آمن من مكره, غير خائف من سطوته.

الثالث: التكبر بالحسب والنسب, فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب, وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً.

الرابع: التفاخر بالجمال, وذلك أكثر ما يجرى بين النساء.

الخامس: الكبر بالمال, فيستحقر الغني الفقير, ويتكبر عليه.

السادس: الكبر بالقوة, وشدة البطش, والتكبر به على أهل الضعف.

السابع: التكبر بالأتباع والأنصار والعشرة والأقارب.

بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له:

الكبر خلق باطن, وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهو ثمرة ونتيجة, والكبر الظاهر أسبابه ثلاثة: سبب في المُتكبر, وسبب في المتكبر عليه, وسبب فيما يتعلق بغيرهما, أما السبب الذي في المتكبر فهو: العجب, والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد, والذي يتعلق يغيرهما هو: الرياء, فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة: العجب, والحقد, والحسد, والرياء.

أخلاق المتواضعين, ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر:

التكبر يظهر في شمائل الرجل: كصعر في وجهه ونظره شزراً, وفي أقواله, ويظهر في مشيته وتبختره, فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله, ومنهم من يتكبر في بعض:

فمنها: أن يحب قيام الناس له أو بين يديه, ومنها: أن يمشي معه غيره يمشي خلفه. ومنها: أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه, إلا أن يجلس بين يديه,

ومنها: أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته, ومنها: أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته.

وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صل الله عليه وسلم فينبغي أن يقتدي به, فما نقل من أحواله عليه الصلاة والسلام يجمع أخلاق المتواضعين.

 

بيان الطريق في معالجة الكبر, واكتساب التواضع:

الكبر من المهلكات, وفي معالجته مقامان:

المقام الأول: استئصال أصله وعلاجه علمي وعملي, ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما

أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه, ويعرف ربه تعالى, ويكفيه ذلك في إزالة الكبر, فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا التواضع, وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا لله, وأما معرفته نفسه فيكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله: {( قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره *  ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره ) } [عبس: 17_22] فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان, وإلى آخر أمره, وإلى وسطه, فلينظر الإنسان إلى ذلك, ليفهم معنى هذه الآية, أما أول الإنسان فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً, ثم خلقه الله من أرذل الأشياء, فمن كان هذا بدؤه, فمن أين له البطر, والكبرياء, والفخر ؟

ثم سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة, والأسقام العظيمة, والآفات المختلفة, والطباع المتضادة, لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً, يشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه, لا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه, وبصره, وتفلج أعضاؤه, ويختلس عقله, ويختطف روحه, ويسلب جميع ما يهواه في دنياه, فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه, وأني يليق الكبر به لولا جهله ؟ فهذه أوسط أحواله فليتأمله.

وأما آخره فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى: {( ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره ) } [عبس: 17_22] ومعناه أنه يسلب روحه, فيعود جماداً كما كان أول مرة, لا يبقي إلا شكل أعضائه ولا حس فيه ولا حركة, ثم يوضع في التراب, ثم تبلى أعضاؤه, ويأكل الدود أجزائه, فما لمن هذا حاله والتكبر؟  

وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل, ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين. من أحوال الصالحين, ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المقام الثاني: فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة, فنذكر طريق العلاج:

الأول: النسب, فمن يعتريه الكبر من جهة النسب, فليداوي قلبه بمعرفة أمرين:

أحدهما: أن هذا جهل, من حيث أنه تعزز بكمال غيره. فالمتكبر بالنسب إن كان خسيساً قي صفات ذاته, فمن أين يجبر خسته بكمال غيره ؟

الثاني: أن يعرف نسبه الحقيقي, فيعرف أباه وجده, فإن أباه القريب نطفة قذرة, وجده البعيد تراب, وقد عرفه الله تعالى نسبه, فقال: {( الذي أحسن كل شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طينٍ * ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهينٍ ) } [السجدة:7-8]

السبب الثاني: التكبر بالجمال, ودواؤه أن ينظر في باطنه نظر العقلاء, ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال, فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه.

السبب الثالث: التكبر بالقوة والأيدي, ويمنعه من ذلك أن يعلم أنه...لو توجع عرق واحد في يده, لصار أعجز من كل عاجز, وأذل من كل ذليل.

السبب الرابع والخامس: الغني وكثرة المال, وفي معناه كثرة الاتباع والانصار, وكل ذات تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان...وهذا أقبح أنواع التكبر...فالتفاخر به غاية الجهل, وكل ما ليس إليك فليس لك, بل إلى واهبه, إن أبقاه لك, وإن استرجعه زال عنك, وما أنت إلا عبد مملوك, لا تقدر على شيء, ومن عرف ذلك لا بد أن يزول كبره.

السبب السادس: الكبر بالعلم, وهو أعظم الآفات, وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة, وجهد جهيد, لأن قدر العلم عظيم عند الله, عظيم عند الناس, ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين: أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم أكد, وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم, فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش, فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم, وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمي, خوفاً من خطر العاقبة, ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره.

الأمر الثاني: أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل, وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً, وقد أحب الله منه أن يتواضع, وهذا يزيل التكبر عن قلبه.

السبب السابع: التكبر بالورع, والعبادة, وذلك أيضاً فتنة عظيمة على العباد, وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد, وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان, لما عرفه من فضيلة العلم, وقد قال تعالى: {( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )} [الزمر:9] قال وهب بن منبه: ما تمّ عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال, فعد تسعة, حتى بلغ العاشر, فقال: العاشرة ! وما العاشرة ! بها شاد مجده, وبها علا ذكره, أن يرى الناس كلهم خيراً منه.

غاية الرياضة في خلق التواضع:

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق, له طرفان وواسطة, فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً, وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى مذلة, والوسط يسمى تواضعاً, والمحمود أن يتواضع من غير مذلة, فإن كلا طرفي الأمور ذميم, وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها, فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر, ومن يتأخر عنهم فهو متواضع.

         كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

  • 5
  • 0
  • 5,049
المقال السابق
ذم الرياء
المقال التالي
ذم العجب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً