أهمية ائتلاف القلوب واجتماع الكلمة

منذ 2022-02-14

من مقاصد الدِّين العظيمة تحقيق الأخوة الإيمانية بين المؤمنين؛ لذا جاءت نصوص الشريعة؛ كتاباً وسُنَّةً تحث على الترابط والتآخي بين المسلمين، والاجتماع على هذا الدِّين وعدم التَّفرُّق؛ ليكتسبوا باتِّحادهم قوَّةً ونماءً

من مقاصد الدِّين العظيمة تحقيق الأخوة الإيمانية بين المؤمنين؛ لذا جاءت نصوص الشريعة؛ كتاباً وسُنَّةً تحث على الترابط والتآخي بين المسلمين، والاجتماع على هذا الدِّين وعدم التَّفرُّق؛ ليكتسبوا باتِّحادهم قوَّةً ونماءً، ومن هذه النصوص:

1- قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

 

(الاعتصام: افْتِعالٌ من عَصَم، وهو طلب ما يَعْصِم، أي: يمنع. والحَبْل: ما يُشَدُّ به للارتقاء، أو التَّدلِّي، أو للنَّجاة من غَرَقٍ، أو نحوه، والكلامُ تمثيلٌ لهيئةِ اجتماعهم والْتِفافِهم على دين الله، ووصاياه وعهودِه، بهيئةِ اسْتِمْسَاكِ جماعةٍ بحبلٍ أُلقِيَ إليهم من مُنْقِذٍ لهم من غَرَقٍ أو سُقوط، وإضافةُ الحبلِ إلى الله قرينةُ هذا التَّمثيل.

 

وقوله: {جَمِيعًا} حالٌ، وهو الذي رجَّح إرادةَ التَّمثيل، إذ ليس المقصودُ الأمرَ باعتصام كُلِّ مُسلمٍ في حالِ انفرادِه اعتصاماً بهذا الدِّين، بل المقصودُ الأمر باعتصام الأُمَّة كُلِّها، ويحصل في ضِمْنِ ذلك أمرُ كُلِّ واحدٍ بالتَّمسُّك بهذا الدِّين، فالكلام أمرٌ لهم بأنْ يكونوا على هاتِه الهيئة، وهذا هو الوجه المُناسب لِتَمامِ البلاغةِ؛ لكثرة ما فيه من المعاني، ويجوز أنْ يُستعار الاعتصامُ؛ للتَّوثيق بالدِّين وعهودِه، وعدمِ الانفصالِ عنه، ويُستعار الحَبْلُ للدِّينِ والعهود)[1]. والمعنى: (تعلَّقوا بأسبابِ اللهِ جميعًا، وتمسَّكوا بِدِين اللهِ الذي أمَرَكم به، وعَهْدِهِ الذي عَهِدَهُ إليكم في كتابِه إليكم؛ من الأُلفة والاجتماعِ على كلمةِ الحقِّ، والتَّسليمِ لأمرِ الله)[2].

 

فالله تعالى أَمَرَ المسلمين جميعاً (بما يُعينهم على التقوى، وهو الاجتماعُ، والاعتصامُ بدِينِ الله، وكونِ دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإنَّ في اجتماعِ المسلمين على دينهم، وائتلافِ قلوبهم يَصْلُح دينُهم، وتَصْلُح دنياهم، وبالاجتماع؛ يتمَكَّنون من كلِّ أمرٍ من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقَّف على الائتلاف ما لا يُمْكِنُ عَدُّها، من التَّعاون على البِرِّ والتقوى، كما أنَّ بالافتراق والتَّعادي؛ يختلُّ نظامُهم، وتنقطع روابِطُهم، ويصير كلُّ واحدٍ يعمل ويسعى في شهوةِ نفسِه، ولو أدَّى إلى الضَّرر العام.

 

وفي هذه الآية ما يدلُّ أن الله يُحِبُّ من عباده أنْ يذكروا نِعمته بقلوبهم وألسنتهم؛ ليزدادوا شُكراً له، ومحبَّةً، وليزيدهم من فضلِه وإحسانِه، وإنَّ من أعظم ما يُذكر من نِعَمِهِ؛ نعمة الهداية إلى الإسلام، واتِّباعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، واجتماعِ كلمة المسلمين، وعدمِ تَفرُّقِها)[3].

 

(وليس فيه دليلٌ على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإنَّ ذلك ليس اختلافاً، إذِ الاختلافُ ما يَتَعَذَّرُ معه الائتلاف والجَمْع، وأمَّا حُكم مسائل الاجتهاد فإنَّ الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض، ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصَّحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك مُتآلفون)[4].

 

2- وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وجه الدلالة: أنَّ المؤمنين متآخِينَ فيما بينهم؛ بالتَّناصرِ على الحقِّ، والتَّعاونِ عليه، والتآلفِ بين المسلمين، وعدمِ التَّقاطع[5].

 

3- وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا» وذَكَرَ منها: (أَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلاَ تَفَرَّقُوا)[6]. قال النووي رحمه الله: (الاعتصامُ بحبل الله: هو التَّمسُّك بعهدِه، وهو اتِّباعُ كتابِه العزيزِ وحدودِه، والتأدُّبُ بأدبه، والحَبْلُ يُطلق على العهد، وعلى الأمان، وعلى الوصلة، وعلى السبب، وأصلُه من استعمال العرب الحبلَ في مثل هذه الأمور؛ لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم، ويُوصِلون بها المُتَفَرِّق، فاستُعِيرَ اسْمُ الحبلِ لهذه الأمور. وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} فهو أمْرٌ بلزوم جماعة المسلمين، وتألُّفِ بعضِهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام)[7].

 

4- وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ[8]، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ[9] فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ»[10]. وجه الدلالة: فيه الحضُّ على الاعتصام بالجماعة، وهم: السَّواد الأعظم، وما عليه الجمهور؛ من الصحابة، والتابعين، والسلف الصالحين، وهم أيضاً: أهلُ الحلِّ والعقدِ من كلِّ عصرٍ، ويبتعد عن الفُرقة؛ لأنها من تلبيس إبليس[11].

 

 

نصوص الوحيين تذم التَّفرُّق:

ومما ورد في الكتاب والسنة من النصوص الواردة في ذمِّ التَّفرُّق ما يلي[12]:

1- قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105-107]. والمقصود بالذين تفرَّقوا واختلفوا هم: (أهل الكتب المُنزَّلة على الأمم قبلنا، بعد ما أقام الله عليهم الحُجَج والبيناتِ تفرَّقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافًا كثيرًا)[13].

 

قال القرطبي رحمه الله: (يعني: اليهودَ والنصارى، في قول جمهور المفسرين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأُمَّة. وقال أبو أمامة: هم الحرورية؛ وتلا الآية)[14].

 

(ومن العجائب أنَّ اختلافهم {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ } ﴾ المُوجِبة لعدم التَّفرُّق والاختلاف، فهم أَولى من غيرهم بالاعتصام بالدِّين، فعكسوا القضِيَّةَ مع علمهم بمخالفتهم أمرَ الله، فاستحقوا العقابَ البليغ، ولهذا قال تعالى: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ})[15].

 

 

تكريمُ أهلِ السُّنَّة والجماعة، وإهانةُ أهلِ البدعة والفُرقة:

عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما - قوله تعالى: {يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، قال: (يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَة، حِينَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَة)[16]. وقال ابنُ وهبٍ: سمعتُ مالكاً يقول: (ما آيةٌ في كتاب الله أشدُّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، قال مالكٌ: فأيُّ كلامٍ أبْيَنُ من هذا؟ فرأيتُه يتأوَّلُها لأهلِ الأهواء)[17].

 

(يُخبِرُ تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من آثارِ الجزاء بالعدل والفَضْل، ويتضمَّن ذلك الترغيب والترهيب، الموجب للخوف والرجاء فقال: {يَوْم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} وهي: وجوهُ أهلِ السعادة والخير، أهلِ الائتلاف والاعتصام بحبل الله، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وهي: وجوهُ أهلِ الشَّقاوة والشَّر، أهلِ الفُرقة والاختلاف، هؤلاء اسودَّت وجوهُهم؛ بما في قلوبهم من الخِزْي والهَوَان والذِّلة والفضيحة، وأولئك ابيضَّت وجوهُهم؛ لما في قلوبهم من البهجةِ والسُّرور والنَّعيم والحُبور، الذي ظهرت آثاره على وجوههم؛ كما قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، نضرةً في وجوههم، وسروراً في قلوبهم، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27].

 

{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم - على وجه التوبيخ والتقريع: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: كيف آثَرْتُمْ الكفرَ والضَّلالَ على الإيمان والهدى؟ وكيف تركْتُم سبيلَ الرَّشاد وسلكْتُم طريق الغي؟ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فليس يليق بكم إلاَّ النارُ، ولا تستحِقُّون إلاَّ الخزي والفضيحة والعار.

 

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيُهَنَّئون أكملَ تهنئةٍ، ويُبَشَّرون أعظمَ بِشارةٍ؛ وذلك أنهم يُبَشَّرون بدخولِ الجنَّاتِ، ورِضَى ربِّهم، ورحمته {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإذا كانوا خالدين في الرَّحمة، فالجنةُ أثَرٌ من آثار رحمتِه تعالى، فهم خالدون فيها بما فيها من النَّعيم المُقيم، والعيش السَّليم، في جِوارِ أرحمِ الراحمين)[18].

 

2- وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. وجه الدلالة: أنَّ الدِّين يأمر بالاجتماعِ والائتلاف، وينهى عن التَّفرُّقِ والاختلاف في أهل الدِّين، وفي سائرِ مسائله الأصولية والفرعية.

 

قال السعدي رحمه الله: (يتوعَّد تعالى الذين فرَّقوا دينهم، أي: شَتَّتُوه وتفرَّقوا فيه، وكلٌّ أخَذَ لنفسه نصيباً من الأسماء التي لا تُفيد الإنسان في دينه شيئاً؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية. أو لا يَكْمُلُ بها إيمانُه، بأنْ يأخذَ من الشريعة شيئاً ويجعله دينَه، ويَدَعَ مِثْلَه، أو ما هو أَولى منه؛ كما هو حالُ أهلِ الفُرقة من أهل البدع والضَّلال، والمُفرِّقين للأُمَّة)[19].

 

3- وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. قال السعدي رحمه الله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: الطُّرُقَ المخالفةَ لهذا الطريق، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: تُضِلُّكم عنه، وتُفَرِّقُكم يميناً وشمالاً، فإذا ضَلَلْتُم عن الصراط المستقيم، فليس ثَمَّ إلاَّ طُرُقٌ تُوصِلُ إلى الجحيم.

 

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنَّكم إذا قُمْتُمْ بما بَيَّنَه اللهُ لكم عِلْماً وعَمَلاً؛ صِرْتُم من المتقين، وعبادِ اللهِ المفلحين، ووَحَّدَ الصِّراطَ، وأضافَهُ إليه؛ لأنَّه سبيلٌ واحِدٌ، مُوصِلٌ إليه، واللهُ هو المُعِينُ للسالكين على سلوكه)[20].

 

4- وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»[21]. وجه الدلالة: أنَّ الناجين يوم القيامة من النار - من أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم - هم المُوافِقون لِجَماعةِ الصحابة، الآخِذُون بعقائدهم، المُتمَسِّكون بمنهجهم.

 

قال ابن تيمية رحمه الله: (وسُمُّوا أهلَ الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماع، وضِدُّها الفُرقة)[22]، وهذا مع تقديرٍ محذوف، وهو (المُوافِقة للحق)، إذاً يُقصد بالجماعة المُجتمِعة على الحق.

 

وقال ابن الجوزي رحمه الله: (فإنْ قيل: وهل هذه الفِرَقُ معروفة؛ فالجواب: إنَّا نَعْرِفُ الافتراقَ، وأصولَ الفِرَق، وأنَّ كلَّ طائفةٍ من الفِرَقِ انقسمت إلى فِرَقٍ، وإنْ لم نُحِطْ بأسماءِ تلك الفِرَقِ ومَذاهِبِها، فقد ظهر لنا من أصول الفِرَقِ؛ الحَرورية، والقَدَرِية، والجهمية، والمُرجئة، والرافضة، والجبرية)[23].

 

 

نماذج من تأليف أهل السنة للقلوب وجمعهم للكلمة:

تاريخ أهل السنة مليء باتباع الحقِّ، ونبذ كل ما يُخالف ذلك من العصبيات وأمور الجاهلية؛ لأنهم جمعوا بين العلم والعمل، وصحةِ المعتقد، واستقامةِ السلوك، وحُسنِ العبادة؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله - واصفاً حالهم: (وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ النَّاسِ اتِّفَاقًا وَائْتِلافًا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الطَّوَائِفِ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ كَانَ إلَى الاتِّفَاقِ والائتلاف أَقْرَبَ)[24]. ومن الشواهد المهمة، والنماذج المباركة، والصور الرائعة في تأليفِ أهل السنة للقلوب، وجَمعِهم للكلمة ما يلي:

 

النموذج الأوَّل: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه (اعْتَزَلَ اخْتِلافَ الناس بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وذهب إلى مكان بعيد، وحفر فيه بئراً فأَعْذَبَ، وأمَرَ أهلَه ألاَّ يُخبروه من أخبارِ الناس شيئاً حتى تجتمع الأُمَّة على خليفة، ولمَّا جاءه ابنه عمر بن سعد، فقال له: أرَضيتَ لنفسك أنْ تُقيم بهذا المَنْزِل، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في الخلافة؟ فقال له: إنْ جئتني بسيفٍ يَعرف المؤمنَ من الكافر؛ فإذا ضربتُ به فعلتُ)[25].

 

وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ رحمه الله قَالَ: (قِيلَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَلا تُقَاتِلُ؛ فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ غَيْرِكَ، فَقَالَ: لا أُقَاتِلُ؛ حَتَّى تَأْتُونِي بِسَيْفٍ لَهُ عَيْنَانِ، وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ، يَعْرِفُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَنَا أَعْرِفُ الْجِهَادَ)[26].

 

 

النموذج الثاني:عن علي بن الأقمر رحمه الله قال: (قال مروانُ بنُ الحكم لابن عمر: ألا تخرج إلى الشام فيبايعوك؟ فقال: كيف تصنع بأهل العراق؟ قال: تُقاتِلهم بأهل الشام. قال: واللهِ، ما يَسُرُّني لو بايعني الناسُ كلُّهم، إلاَّ أَهْلُ فَدَكٍ، وإني قاتلْتُهم فقُتِلَ منهم رجلٌ)[27].

 

 

النموذج الثالث:عن مالكِ بن دينارٍ رحمه الله قال: (لَمَّا وقعت الفِتنةُ، أتيتُ الحَسَنَ البصريَّ أياماً أسأله: يا أبا سعيدٍ! ما تأمرني؟ فلا يُجِيبُني. قال: فقلتُ: يا أبا سعيدٍ! أتيتُك ثلاثةَ أيامٍ أسألك، وأنت مُعَلِّمي، فلا تُجِيبُني، واللهِ، لقد هممتُ أنْ آخُذَ الأرضَ بقدمي، وأشْرَبُ من أفواهِ الأنهار، وآكُلَ من بَقْلِ البَرِّيَّة؛ حتى يَحْكُمَ اللهُ بين عِبادِه. فقال: فأرسلَ الحَسَنُ عَينَيهِ باكياً، ثم قال: يا مالِكُ! ومَنْ يُطيقُ ما تُطيق، لَكِنَّا واللهِ، ما نُطيقُ هذا)[28].

 


[1] التحرير والتنوير، (4/31).

[2] تفسير الطبري، (7/70).

[3] تفسير السعدي، (1/141) باختصار.

[4] تفسير القرطبي، (4/195).

[5] انظر: تفسير السعدي، (1/218).

[6] رواه أحمد في (المسند)، (14/399)؛ (ح8799)؛ وابن حبان في (صحيحه)، (8/182)، (ح3388). وصححه الألباني في (صحيح الجامع)، (1/278)، (ح2776).

[7] شرح النووي على صحيح مسلم، (12/11).

[8] (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ): أي: أنَّ الشيطان مُقارِنٌ للفرد الذي تفرَّد برأيه.

[9] (بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ): أي: وسَطُها، وخِيارُها. انظر: مرقاة المفاتيح، (17/310).

[10] رواه أحمد في (المسند)، (1/268)، (ح114)؛ والترمذي، (4/465)، (ح2165) وقال: (حسن صحيح)؛ وابن حبان في (صحيحه)، (10/436)، (ح4576)؛ وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)، (2/457)، (ح2165).

[11] انظر: فتح الباري، (13/316)؛ مرقاة المفاتيح، (17/310).

[12] انظر: أهل السنة والجماعة، (ص444).

[13] تفسير ابن كثير، (8/457).

[14] تفسير القرطبي، (4/166).

[15] تفسير السعدي، (1/142).

[16] رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره)، (2/465)؛ واللالكائي في (السُّنَّة)، (1/72)؛ والخطيب في (تاريخه)، (7/379). وذَكَرَه الواحدي في (الوسيط)، (1/475-476)، وابن كثير في (تفسيره)، (3/139)؛ والسيوطي في (الدر المنثور)، (3/721).

[17] الاعتصام، للشاطبي، (1/36).

[18] تفسير السعدي، (1/142، 143).

[19] تفسير السعدي، (1/282).

[20] تفسير السعدي، (1/280).

[21] رواه ابن ماجه، (1/577)، (ح4127). وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه)، (3/307)، (ح3241).

[22] العقيدة الواسطية، (ص46).

[23] تلبيس إبليس، (ص19).

[24] مجموع الفتاوى، (4/51).

[25] رواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق)، (20/287) بتصرف يسير.

[26] رواه عبد الرزاق في (مصنفه)، (11/357)، (رقم20736)؛ وأبو نعيم في (حلية الأولياء)، (1/94)؛ و(معرفة الصحابة)، (1/135)، (رقم512)؛ والطبراني في (الكبير)، (1/144)، (رقم322). وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (7/584)، (رقم12318): (رجاله رجال الصحيح)،

[27] رواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق)، (31/185، 186).

[28] رواه ابن نعيم في (حلية الأولياء)، (2/367)؛ وابن الجوزي في (صفة الصفوة)، (3/284)؛ وابن عساكر في (تاريخ دمشق)، (56/409).

  • 1
  • 0
  • 2,254

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً