فوائد من اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب

منذ 2022-02-27

** قال لقمان لابنه: يا بني لتكن كلمتك طيبة, ووجهك مبسطاً, تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة

{بسم الله الرحمن الرحيم }
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فللحافظ ابن رجب رحمه الله مؤلفات عديدة في شرح بعض الأحاديث النبوية, منها: شرحه لحديث " اختصام الملأ الأعلى ", وشرحه لهذا الحديث فيه الكثير من الفوائد, وقد يسّر الله الكريم لي فاخترت بعضاً منها, أسأل الله أن ينفعني والقرّاء بها.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: خرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه, قال: « احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة وصلى, وتجوز في صلاته, فلم سلَّم قال: ( كما أنتم على مصافكم ) ثم أقبل إلينا فقال: (( إن سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قُمتُ من الليل فصليت ما قُدِّر لي, فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ. فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة, فقال: يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلتُ: لا أدري ربّ. قال: يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلتُ: لا أدري ربِّ. قال: يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قالتُ: لا أدري ربِّ. فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري, وتجلي لي كلُّ شيء وعرفتُ, فقال: يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: في الكفارات والدرجات. قال: وما الكفارات ؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجُمعات, والجلوس في المساجد بعد الصلوات, وإسباغُ الوضوء على الكريهات. فقال: وما الدرجات ؟ قلت: اطعام الطعام, ولين الكلام, والصلاة والناس نيام, قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات, وترك المنكرات, حب المساكين, وأن تغفر لي وترحمني, وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون, وأسألك حُبّك وحُبّ من يُحبُّك وحُبّ عمل يقربني إلى حبك. )) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنها حق فادرسوها وتعلموها )) »

[خرجه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح, وقال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا, فقال: هذا حديث حسن صحيح. ]

ومن الفوائد التي ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله لهذا الحديث:

  • محبة الله عز وجل:

** من امتلأ قلبه من محبة الله عز وجل أحبَّ ما يُحبّه وإن شقَّ على النفس وتألمت به, كما يُقال: المحبة تهوِّن الأثقال, وقال بعض السلف في مرضه: أحبُّهُ إليَّ أحبُّهُ إليه.

**قوله صلى الله عليه وسلم «(وأسألك حبك وحُبَّ من يُحبك وحُبَّ العمل الذي يبلغني حُبك)» هذا الدعاء يجمع كل خير فإن الأفعال الاختيارية من العباد إنما تنشأ من محبة وإرادة, فإذا كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح, فكانت تحب ما يحبه الله ويرتضيه, فأحب ما يحبه الله عز وجل, من الأعمال والأقوال كلها ففعل حينئذ الخيرات كلها, وترك المنكرات كلها, وأحب من يحبه الله من خلقه.

** متى أخل العبد ببعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات, فمحبته لربه غير تامة, فالواجب عليه المبادرة بالتوبة, والاجتهاد في تكميل المحبة المفضية لفعل الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها, وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فإن الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله, وكراهة ما يكرهه الله عز وجل, والعمل يقتضي ذلك, فلا يرتكب أحد شيئاً من المحرمات, أو يخل بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس.

الدرجة الثانية من المحبة: درجة المقربين: وهي أن يمتلئ القلب بمحبة الله تعالى حتى توجب له محبة النوافل, والاجتهاد فيها, وكراهة المكروهات, والانكفاف عنها, والرضا بالأقضية والأقدار المؤلمة للنفوس بصدورها من المحبوب, كما قال عامر بن عبد القيس: أحببت الله حباً هوَّن عليَّ كل مصيبة, ورضَّاني بكل بلية, فلا أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت, وعلى ما أمسيت.

وقال عمر بن عبدالعزيز لما مات ولده الصالح: إن الله أحب قبضه, وإني أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله, وكان يقول: أصبحت فما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.

ولما كانت محبة الله عز وجل لها لوازم, وهي محبة ما يحبه الله عز وجل من الأشخاص والأعمال, وكراهة ما يكرهه من ذلك, سأل النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى مع محبته محبة شيئين آخرين:

إحداهما: محبة من يحب الله تعالى, فإن من أحبَّ الله أحب أحباءه فيه, ووالاهم, وأبغض أعداءه وعاداهم.

الثاني: محبة ما يحبه الله تعالى من الأعمال, وبها تبلغ إلى حبه, وفي هذا إشارة إلى أن درجة المحبة لله تعالى إنما تنال بطاعة الله وبفعل ما يحبه, فإذا امتثل العبد أوامر مولاه وفعل ما يحبه أحبه الله تعالى, ورقاه إلى درجة محبته. 

فأفضل ما تستجلب به محبة الله عز وجل, فعل الواجبات وترك المنكرات.

ومن أعظم ما يحصل به محبة الله تعالى من النوافل: تلاوة القرآن, وخصوصاً مع التدبر.

ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين: كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان.

قال بعضهم: من أدمن ذكر الله قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه.

قال بعض التابعين: علامة حب الله كثرة ذكره, فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره.

فالمحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر, وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر.

**  كلما قرب الزمان من الساعة كثرت الفتن.

** فتنة السراء أشد من فتنة الضراء, قال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر, ولا يصبر على فتنة السراء إلا صديق.

** لما ابتلى الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع, وقال: كنت زيادة في إيماني, فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحاً مساء وخشى أن يكون نقصاً في دينه.

** المؤمن لا بد أن يفتن بشيء من الفتن المؤلمة الشاقة عليه, ليمتحن إيمانه, كما قال الله تعالى: {﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾} [العنكبوت:1_2]  ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتنة, ويصبرهم عليها, ويثيبهم عليها, ولا يلقيهم في فتنة مضلة مهلكة تذهب بدينهم, بل تمّر عليهم الفتن, وهم منها في عافية.   

** قوله صلى الله عليه وسلم: « ( وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)» المقصود من هذا الدعاء: سلامة العبد من فتن الحياة مدة حياته, فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها, وهذا من أهم الأدعية, فإن المؤمن إذا عاش سليماً من الفتن, ثم قبضه الله تعالى إليه قبل وقوعها, وحصول الناس فيها كان ذلك نجاة له من الشر كله, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

  • الرؤى:

** من رأى رؤيا تسرُّه فإنه يقصها على أصحابه وإخوانه المحبين له, ولا سيما إن تضمنت رؤياه بشارة لهم, وتعليماً لما ينفعهم, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر يقول لأصحابه: «( من رأى منكم الليلة رؤيا )»

** من استثقل نومه في تهجده بالليل حتى رأى رؤيا تسره فإن في ذلك بشرى له.

  • المساكين:

اعلم أن المسكين إذا أطلق يراد به غالباً من لا مال له يكفيه, فإن الحاجة توجب السكون والتواضع, بخلاف الغنى فإنه يوجب الطغيان...ولهذا ذم الفقير المختال وعظم وعيده لأنه عصى بما ينافي فقره, وهو الاختيال والزهو والكٍبر.

وقد يطلق اسم المسكين, ويراد به من استكان قلبه لله عز وجل, وانكسر له, وتواضع لجلاله, وكبريائه, وعظمته, خشيته, ومحبته ومهابته...فمن انكسر قلبه لله عز وجل, واستكان وخشع وتواضع, جبره الله عز وجل, ورفعه بقدر ذلك.

فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ومحبته, ولا يكون المسكين ممدوحاً بدون هذه الصفة, فإن لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار.

فالمؤمن يستكن قلبه لربه ويخشع له, ويتواضع, ويظهر مسكنته وفاقته إليه في الشدة والرخاء, أما في حال الرخاء فإظهار الشكر, وأما في حال الشدة فإظهار الذل والعبودية والفاقة والحاجة إلى كشف الضر. 

  • حبّ المساكين والإحسان إليهم:

** حب المساكين أصلُ الحب في الله تعالى, لأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يُوجب محبتهم لأجله, فلا يحبون إلا لله عز وجل (والحبُّ في الله من أوثق عُرى الإيمان) و( من علامات ذوق حلاوة الإيمان) وهو (صريح الإيمان) وهو (أفضل الإيمان)  ويروى عن داود عليه السلام كان يجالس المساكين, ويقول: يا رب مسكين بين مساكين, ولم يزل السلف الصالح يُوصون بحُبِّ المساكين.

** حُبُّ المساكين مستلزم إخلاص العمل لله تعالى, والإخلاص هو أساسُ الأعمال الذي لا تثبت الأعمال إلا عليه, فإن حبَّ المساكين يقتضى إسداء النفع إليهم بما يمكن من منافع الدين والدنيا, فإذا حصل إسداءُ النفع إليهم حُباً لهم والإحسان إليهم كان هذا العمل خالصاً.  

** كانت زينب بنت خزيمة, أم المؤمنين, تسمى أم المساكين, لكثرة إحسانها إليهم, وقال ضرار بن مرة في وصف على بن أبي طالب في أيام خلافته: كان يعظم أهل الدين, ويحبُّ المساكين.

** كان كثير من السف يؤثر بفطوره وهو صائم ويصبح صائماً, منهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما,...وكان لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين, وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة.

  • من فضائل المساكين:

من فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «(قمتُ على باب الجنة فإذا عامةُ من دخلها المساكين)» وقال صلى الله عليه وسلم: «(تحاجت الجنة والنار, فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين)»  وهم أول الناس دخولاً الجنة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «( إن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين عاماً ) » وفي رواية: «( أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم, وهو خمسمائة سنة ) » وهم أول الناس إجازة على الصراط كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: من أول الناس إجازة على الصراط ؟ فقال: فقراء المهاجرين ) ومنهم من لو أقسم على الله لأبره كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أهل الجنة: «( كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره )» وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العلماء أو أكثرهم, وقد دلّ على ذلك أدلة كثيرة, منها قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرّ به الغني والمسكين: ( هذا- يعني: المسكين_ خير من ملء الأرض من هذا_ يعني: الغني) وقد خرجه البخاري

  • فوائد محبة المساكين:

واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة.

منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل, لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل, لأن نفعهم لا يُرجى غالباً, فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فما أحسن إليهم حباً لهم بل حباً للدنيا, وطلباً لمدحهم له بحب المساكين.

ومنها: أنها تزيل الكِبر, فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين...ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جداً, فإن مجالس الذكر والعلم يقع فيها كثيراً مجالسة المساكين, فإنهم أكثر هذه المجالس, فيمتنع المتكّبر من هذه المجالس بتكبره.

ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه.

ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضي من يجالسهم برزق الله عز وجل, -وتعظم عنده نعمة الله عز وجل- عليه بنظره في الدنيا إلى من دونه.

  • متفرقات

**من رأى رؤيا تسره فإنه يقصُّها على أصحابه وإخوانه المحبين له, ولا سيما إن تضمنت رؤياه بشارة لهم, وتعليماً لما ينفعهم.

** من استثقل نومه في تهجده بالليل حتى رأى رؤيا تسره فإن ذلك بشرى له.

** قال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا مات ابن آدم قال الناس: ما خلف؟ وقالت الملائكة ما قدَّم؟ فالملائكة يسألون عن أعمال بني آدم ولهم اعتناء بذلك واهتمام به  

** الكفارات إسباغ الوضوء في الكريهات, ونقل الأقدام إلى الجُمُعات أو الجماعات, والجلوس في المساجد بعد الصلوات, وسميت هذه كفارات لأنها تُكفّر الخطايا

**  كلُّ ما يؤلمُ النفسَ ويشقُّ عليها فإنه كفارة للذنوب, وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض ونحوه كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.

** إنما كان ملازمة المسجد مُكفراً للذنوب لأن فيه مجاهدة النفس, وكفاً لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إلى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس ومحادثتهم أو التنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة...من حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله...وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد.

** قوله صلى الله عليه وسلم: «( أسالك فعل الخيرات, وترك المنكرات )» يتضمن طلب كل خير وترك كل شر, فإن الخيرات تجمع كل ما يحبه الله تعالى ويُقربُنه من الأعمال والأقوال من الواجبات والمستحبات, والمنكرات تشمل كل ما يكرهه الله تعالى ويباعد منه من الأقوال والأعمال, فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدنيا والآخرة.

** قال لقمان لابنه: يا بني لتكن كلمتك طيبة, ووجهك مبسطاً, تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة.

** مجالسة الأغنياء توجب التسخط بالرزق, ومدة العين إلى زينتهم وما هم فيه, وقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال تعالى:  { وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى ما مَتَّعنا بِهِ أَزواجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَياةِ الدُّنيا لِنَفتِنَهُم فيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقى}  [طه:131]  وكان عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود يجالس الأغنياء فلا يزال في غمٍّ, لأنه يرى من هو أحسن منه لباساً ومركباً ومسكناً ومطعماً, فتركهم وجالس المساكين فاستراح من ذلك. 

كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 2
  • 1
  • 3,073

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً