قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

منذ 2022-03-17

وقفات مع القاعدة القرآنية: ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 50]

وقفات مع القاعدة القرآنية:

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه: 50]

المقدمة:
فهذه وقفة مع قاعدة من أعظم قواعد القرآن الكريم، وقد جمعت من المعاني الكثيرة في كلماتها القليلة، وهي عبرة وعظة للمؤمنين وحجة على الكافرين والمعاندين والمستكبرين، وعلى الخلق أجمعين، والله أسأل أن ينفع بها ويتقبلها.

الوقفة الأولى:
في دلالة الآية على أن الله تعالى هو الذي أعطى جميع المخلوقات خلقها وصورتها اللائقة بها، ومن صفات متنوعة من جوارح خارجية أو أعضاء داخلية، من الإنس والجن والطير والحوت، وجميع المخلوقات في السماء والأرض، وجعل من كل شيء زوجين، وكل نوع أعطاه ما يناسبه.

قال العلامة محمد صديق خان في تفسيره على هذه الآية، في كتابه فتح البيان في مقاصد القرآن:
أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق بالمنفعة المنوطة به المطابقة له؛ كاليد للبطش والرجل للمشي، واللسان للنطق والعين للنظر، والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره، قال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه؛ انتهى.

وذكر الإمام الطبري في تفسيره على هذه الآية: عن ابن عباس، قوله:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، يقول: خلق لكل شيء زوجه، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده.

الوقفة الثانية:
في دلالة الآية على هداية الله لجميع المخلوقات إلى ما يصلحها ويضمن لها البقاء.

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: {ثُمَّ هَدَى} كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق، تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به على ذلك؛ انتهى.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: فهدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها ودفع ما يضرها ويفسدها، وخص النوع الإنساني بأنواع أُخَر من الهداية التي يعرفها ويتمكن من النطق بها لهداية غيره، ومن أعلى أنواع هذا الهدى هدى البيان والدلالة وتعريف الإنسان ومعرفته مراده ومراد غيره، وذلك إنما هو بصفة النطق التي هي أظهر ما في الإنسان، ولذلك شبَّه الله سبحانه بها ما أخبر به من الغيب، فقال: {فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ} [الذاريات: ٢٣]؛ الصواعق المرسلة (ص،٤٥٦).

الوقفة الثالثة:
في دلالة الآية في الرد على الملحدين والمستكبرين على الحق، وقد جاءت هذه الآية في سياق رد موسى عليه السلام على سؤال فرعون وكِبر فرعون على الحق، وهي أيضًا لكل متكبر على الحق.

فإن لهذه المخلوقات مدبر يدبرها ولا بدَّ، ، فإنك إذا نظرت إلى العالم العلوي والسفلي رأيتَ فيه التدبير المتقن، وكل شيء قد وُجد على هيئته اللائقة به، وأن كل المخلوقات قد هُديت إلى ما يصلحها ويضمن بقائها.

وهذا الإتقان قد تكرَّر في جميع المخلوقات في صور وأشكال لا تُحصى، ويستحيل معه نظرية الصدفة والعشوائية!

وقد نبَّه الله تعالى إلى هذا، فقال سبحانه:  {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل: ٨٨].

ويروى أن طائفةٌ من الملاحدة اجتمعوا بأبي حنيفة فقالوا: ما الدلالةُ على وجودِ الصانع؟ فقال لهم: دعوني فخاطري مشغولٌ بأمر غريب، قالوا: ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلةَ سفينةً عظيمةً مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحدٍ يحركها، ولا رُبَّانٍ يقوم عليها.

فقالوا له: مجنونٌ أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: هذا يصدقه عاقل؟ فقال لهم: فكيف صدقت عقولُكم أن هذا العالمَ بما فيه من الأصناف والأنواع والحوادثِ العجيبة، وهذا الفَلَكَ الدوارَ السيَّارَ يجري وتجري هذه الحوادثُ بغير محدِث، وتتحرك هذه المتحركاتُ بغير محرِّك، فرجعوا على أنفسهم بالملام.

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فلو قدِّر أن الإنسان أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر، كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك، ولهذا لما لم يمكن فرعون، أن يعاند هذا الدليل القاطع، عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود؛ انتهى.

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ الِاحْتِجاجِ عَلى فِرْعَوْنَ مِن هَذا؟ فالجَوابُ: أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وُجُودُ خَلْقٍ وهِدايَةٍ، فَلا بُدَّ مِن خالِقٍ وهادٍ؛ انتهى.

الوقفة الرابعة:
في دلالة الآية على ربوبية الله تعالى على جميع خلقه، وأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر إلا الله.

وكما قيل:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

فهو وحده الذي أعطى كل شيء ما يصلحه ويضمن له البقاء، لا شريك له.

وذكر الإمام الطبري في تفسيره على هذه الآية: عن قتادة، قوله {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قال: أعطى كل شيء ما يُصلحه، ثم هداه له.

الخاتمة:
وهذا النوع من الهداية المذكور في الآية هو الهداية العامة لجميع الخلق، وذلك بهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

نسألك اللهم أن ترزقنا إيمانًا كاملًا، ويقينًا صادقًا، وتنفعنا بآياتك المسموعة، وآياتك المشهودة، فإنها براهين للموقنين، وآيات للمستبصرين، وحجة على المعاندين والمكابرين، ورحمة منك وإحسان على الخلق أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبها :
يزن الغانم

  • 3
  • 0
  • 1,576

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً