فضل العلم والفقه في الدين (فوائد من مصنفات السعدي) -1
هذا العلم هو الذي يثمر اليقين وتحصل به الطمأنينة وتتم به السعادة والفلاح ويثمر الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة المُصلحة للدين والدنيا.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فهذه فوائد عن فضل العلم, والفقه في الدين, منتقاة من مصنفات العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي, رحمه الله, أسأل الله الكريم أن ينفعني وجميع القرّاء بها.
- فضل العلم:
العلم يقصر التعبير عن كنه وفضله, وعلو مرتبته, ويكفي في هذا أن جميع الأقوال والأفعال والإرادات متوقفة في صحتها وفسادها وكمالها ونقصها وفي جميع صفاتها على العلم. ما حَكَمَ به العلم من ذلك فهو كما قال, وإن العلم نور للصدور وحياة للقلوب, به يعرف الله, وبه يُعبد, وبه يعرف الحلال من الحرام, والطيِّب من الخبيث, وبه يميز بين الأبرار والفجار, وأهل الجنة وأهل النار.
والعلم يقوّم ما اعوج من الصفات, ويكمل ما نقص من الكمالات, ويسد الخلل, ويصلح العمل, وبه صلاح الدين والدنيا, وبضده فساد ذلك ونقصه. العلم ميراث الرسول, والعلماء ورثة الأنبياء, فإن الأنبياء لم يورثوا إلا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظ وافر, ولولا العلم لكان الناس كالبهائم, والحاجة إلى العلم أعظم من الحاجة إلى الطعام والشراب.
- فوائد الاشتغال في الفقه في الدين:
الاشتغال في الفقه في الدين فيه فوائد عظيمة لا يشاركه فيها شيء.
منها: أنه من أكبر القرب التي يتقرب بها إلى رب العالمين, وينال بها رضاه ويدرك بها ثوابه, وقد فضله أكثر العلماء على كل العبادات, فكيف عند أشد الحاجات إليه.
ومنها: أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً, طريقاً حسياً أو معنوياً, سلك الله وسهل له طريقاً إلى الجنة.
ومنها: أن من يرد الله به خيراً يفقه في الدين, فمن أعظم علامات الخير للعبد, وأن الله أراد فلاحه وسعادته, أن يرزقه السعي في تحصيله ويعلمه إياه.
ومنها: أنه ميراث النبي صلى الله عليه وسلم, فليستقل العبد منه أو يستكثر, فله من إرث النبي صلى الله عليه وسلم, ومن النيابة عنه بحسب حاله.
ومنها: أن جميع الأمور الدينية والدنيوية توزن بميزان العلم, فيُبين العلم مراتبها ودرجاتها في الصحة والكمال وضدها, والحق والصدق وضده, وفي جميع أوصاف الأشياء, فكل شيء مضطر إليه.
ومنها: عموم نفعه, وشمول ثمرته, فالاشتغال به خير نفسه, وحصوله في القلب وفقه خير آخر, لأنه يخرج القلب من دائرة الجهل إلى دائرة العلم, وهو كالنور بين يدي العبد يعرف به أحوال نفسه وصفات ظاهره وباطنه.
ثم من حيث تعديه إلى الغير, فنفس تعليمه للمسترشدين وإلقاء الدروس على الطالبين والنظر في فتاوى المستفتين
ثم كل من انتفع به في نفسه, ونفع به غيره بسببك, فهو حسنات جارية لك حياً وميتاً
- العلوم قسمان:
العلوم قسمان: علوم نافعة تزكي النفوس, وتهذب الأخلاق, وتصلح العقائد, وتكون بها الأعمال صالحة مثمرة للخيرات, وهي العلوم الشرعية, وما يتبعها مما يعين عليها من علوم العربية.
والنوع الثاني: علوم لا يقصد بها تهذيب الأخلاق, وإصلاح العقائد والأعمال, وإنما يقصد بها المنافع الدنيوية فقط, فهذه صناعة من الصناعات, وتتفاوت بتفاوت منافعها الدنيوية, فإن قُصد بها الخير, وبُنيت على الإيمان والدين, صارت علوماً دنيوية دينيه, وإن لم يقصد بها الدين, صارت علوماً دنيوية محضة, لا غاية شريفة لها, بل غاياتها دنية ناقصة جداً, فانية, وربما ضرّت أهلها من وجهين:
أحدهما: قد تكون سبباً لشقائهم الدنيوي, وهلاكهم, وحلول المثلات بهم, كما هو مشاهد في هذه الأوقات, حيث صار ضرر العلوم التي أحدثت المخترعات والأسلحة الفتاكة شراً عظيماً على أهلها وغيرهم.
والثاني أن أهلها تحدث لهم الزهو والكبر والإعجاب بها, وجعلها هي الغاية المقصودة من كل شيء. فيحتقرون غيرهم, وتأتيهم علوم الرسل التي هي العلوم النافعة فيدفعونها ويتكبرون عنها, فرحين بعلومهم التي تميزوا بها عن كثير من الناس, فهؤلاء ينطبق عليهم أتم الانطباق قوله تعالى ( {فلما جاءتهم رُسُلُهُم بالبينات فرحُوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} ) [غافر:83] فنعوذ بالله من علم لا ينفع
- أنواع العلوم الشريعة:
العلوم الشرعية نوعان: مقاصد, وهي علم الكتاب والسنة.
ووسائل إليها, مثل: علوم العربية بأنواعها, فإن معرفة الكتاب والسنة وعلومهما تتوقف أو يتوقف أكثرها على معرفة علوم العربية, ولا تتم معرفتهما إلا بها, فيكون الاشتغال بعلوم العربية لهذا الغرض تابع للعلوم الشرعية.
- العلم النافع وعلامته:
أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح, المثمر لسعادة الدارين, وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه, وما يعين على ذلك من علوم العربية.
والعلوم النافعة هي العلوم الشرعية, وما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها, ومن العلوم الشرعية تعلم الفنون المعينة على الدين, وعلى قوة المسلمين, وعلى الاستعداد للأعداء للمقاومة والمدافعة, فإنها داخلة في الجهاد في سبيل الله, فكل أمرٍ أمرَ به الشارع, وهو يتوقف على أمور كانت مأموراً بها, والله أعلم.
**منن الله على العباد كثيرة, وأفضل ما منَّ الله على عبده به هو: العلم النافع
** وعلامة كون العلم نافعاً...أنه يزيل عن القلب شيئين, وهما: الشبهات, والشهوات. فالشبهات تورث الشك, والشهوات تورث درن القلب وقسوته, وتثبط البدن عن الطاعات.
وأن يجلب للعبد في مقابلتهما شيئين, وهما: اليقين الذي هو ضد الشكوك, والإيمان التام الموصل للعبد لكل مطلوب, المثمر للأعمال الصالحة, الذي هو ضد الشهوات فكلما ازداد الإنسان من العلم النافع, حصل له كمال اليقين, وكمال الإرادة, ولا تتم سعادة العبد إلا باجتماع هذين الأمرين, وبهما تنال الإمامة في الدين, قال تعالى: ﴿ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ﴾ [السجدة:24]
العلم شجرة تثمر كل قول حسن, وعمل صالح, والجهل شجرة تثمر كل قول وعمل خبيث, وإذا كان العلم بهذا المثابة فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص, ويجتهد في تحصيله, وأن يديم الاستعانة بالله في تحصيله, ويبدأ بالأهم فالأهم منه.
**يقول كثير من الناس: هذا وقت العلم والمعارف والرقي, ومقصودهم بهذا الإعراض عن الماضي وعن علوم الدين والتزهيد فيها, وقد صدقوا من جهة وكذبوا من جهات أخر.
قد صدقوا أنه وقت ترقت فيه علوم الصناعات والمخترعات وما يرجع إلى الماديات والطبيعيات, وقد كذبوا أفظع الكذب حيث حصروا العلم بهذا النوع ولم يعلموا أن العلم الحقيقي النافع بما جاء به الكتاب والسنة الكفيل بكل خير ديني ودنيوي وأخروي.
والعلم النافع من علوم الصناعات والمخترعات داخل في ضمن هذا, بل العلم الديني هو الذي يصير العلوم الطبيعية والصناعية نافعة نفعاً صحيحاً, وهو الذي يوجهها إلى نفع العلوم الإنساني ويمنعها من التهور المهلك, ولهذا نقول وقد كذبوا أيضاً من جهة أن هذه العلوم التي افتخروا بها لم يوجهوها التوجيه النافع, بل استعملوها فيما يضر الخلق في الإهلاك والإفناء والتدمير, فهي من أعظم النعم ولكنها باستعمالهم إياها كانت من أكبر النكبات والنقم.
وقد صدقوا أنه زمان ترقي الماديات الجافة, وقد كذبوا في إطلاقهم الترقي, فيظن الظان أنه ترق في كل شيء, إنما ترق في الصناعات والمخترعات لا في الأخلاق الفاضلة والديانات, فلا ينفع الترقي في الماديات إذا هبطت الأخلاق التي عليها المدار في كل شيء, وهي التي تصلح الأشياء ولا تصلح الأمور بدونها كما هو مشاهد محسوس, فأي ترقي صيَّر أهله بمنزلة السباع الضاربة, دأبها الظلم والفتك والاستعمار للأمم الضعيفة وسلبها حقوقها؟
فالترقي الصحيح الذي هو من آثار الدين, من آثاره: العدل, والرحمة, والوفاء بالحقوق, والحث على كل خير, والتحذير من كل شر, هذا هو الترقي الذي لم يشموا له رائحة ولا خطر بقلوبهم, وكيف يخطر بقلوبهم وقلوبهم ملأى بالهلع, والجشع, والزهو, والكبر, والغرور, ومن كل خلق رذيل.
وقد كذبوا أيضاً في زعمهم أن العلوم العصرية والفنون الاختراعية النافعة هم الذين ابتدؤها, وأن الشريعة الإسلامية لم تهد إليها ولم ترشد إلى أصولها. وهذا بهت عظيم ومكابرة يعرفها من له أدنى نظر في الدين الإسلامي, وكيف أصَّل للعباد أصولاً عظيمة نافعة بها صلاح دنياهم, كما أصَّل لهم أصولاً نافعة فيها صلاح دينهم.
فنسأل الله أن يرزقنا العلم الصحيح المؤيد بالعقل والنقل والفطرة, وهو العلم النافع الذي يعرفه العبد من جميع نواحيه, وهو العلم الذي يربط الفروع بأصولها ويرد الأسباب وآثارها ونتائجها إلى مسببها, وإلى الذي جعلها كذلك, وهو العلم الذي لا ينقطع صاحبه بالمخلوق عن خالقه, وبالآثار عن مؤثرها, بالحكم والأسرار والنظامات العجيبة عن محكمها ومنظمها ومبدعها.
هذا العلم هو الذي يثمر اليقين وتحصل به الطمأنينة وتتم به السعادة والفلاح ويثمر الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة المُصلحة للدين والدنيا.
- التصنيف: