حماية القدس واجب إسلامي مقدس
تقف القدس كدرة غالية وجوهرة ثمينة ومركز إشعاع لا يخبو ومثار دهشة لا ينقطع وصوت إيمان لا يغيب في أعماق كل إنسان عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها
يؤسس اليهود الصهاينة دعواهم الباطلة في فلسطين ويؤيدهم أنصارهم من الصليبيين والاستعماريين وأعداء الإسلام على الزعم بقيام حقيقة تاريخية مؤداها أن اليهود أسسوا مملكتهم في فلسطين قبل الميلاد وكانت عاصمتها القدس وهم يكررون هذه الدعوى الباطلة ويستندون إليها في ارتكاب جرائمهم البشعة في فلسطين وفي القدس الشريف محاولين تهويد المدينة العربية واتخاذها عاصمة لإسرائيل بكل السبل والوسائل الإجرامية ضاربين بكل النظم والقوانين والقرارات الدولية عرض الحائط.
ويقول التاريخ الذي تؤيده أسفار اليهود أنفسهم: إن الذي أسس مدينة القدس والدولة حولها منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد كان الكنعانيون العرب تحت اسم مدينة (يبوس) وكان فرع الكنعانيين النازح إليها يسمى (اليبوسيين) وكانت لهم فيها حضارة وإقامة مستمرة ودائمة وقد عرفت أرض فلسطين في التاريخ القديم وحتى عام 1200 ق. م بأرض كنعان، وإطلاق هذا الاسم جاء في التوراة نفسها في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين كما أطلق عليها هذا الإصحاح نفسه أرض فلسطين وكما تؤكد التوراة أيضا غربة اليهود عن القدس ففي سفر القضاة 19 نجد قصة رجل غريب ورد مع جماعة له إلى مشارف يبوس... وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جدا قال الغلام لسيده: تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها فقال له سيده: لا تميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بنى إسرائيل هنا.
وقد عاصرت المدينة حضارات كثيرة واختلفت أسماؤها فهي (يبوس) كما ورد اسمها في سجلات الفراعنة وهى (أوروسالم) كما كان اسمها عند الكنعانيين وهى (يروساليم) عند اليونانيين وهى (إيليا) عند الرومان وهى (بيت المقدس) كما سماها العرب المسلمون.
المهم أنها بأهلها العرب كانت تصارع الغزاة الوافدين وتنتصر عليهم أحيانا وتخضع لهم أحيانا أخرى ولكن يظل فيها أهلها الأصليون ضعافا أو أقوياء.
وقد خضعوا لسلسة من فراعنة مصر: تحتمس الثالث 1479ق.م وأمنحتب الثالث 1413ق. م. وإخناتون 1375 ق. م. وتوت عنخ آمون 1351ق. م. وسيتي الأول 1314 ق. م. ورمسيس الثاني 1292 ق. م. وكان الشعب العربي فيها متماسكا يمارس حقوقه في حكم نفسه ويكتفي المصريون بفرض الجزية.
وممن وفدوا عليها من الشرق وعبروا نهر الأردن وسموا العبرانيين قوم إبراهيم عليه السلام الذي ولد ونشأ في بلده أور في العراق ثم غادرها متجها إلى مصر ثم عاد العبرانيون ثانية واستطاعوا بقيادة داود عليه السلام 1049 ق. م. أن يسيطروا على المنطقة ويتولوا حكم شعبها على يد داود عليه السلام ثم الملك سليمان الحكيم عليه السلام الذي أنشأ هيكل سليمان واستمر حكمه حتى مات 975ق. م. واختلف أبناؤه وانقسمت المملكة إلى إسرائيل ويهوذا وتحاربوا وانتهى ملكهم الذي استمر 70 سنة فقط وهناك من المؤرخين من يقول: إن هذه المملكة كانت ولاية تحت السيطرة المصرية وإذن فالعبرانيون أو اليهود لم يؤسسوا القدس إنما وفدوا إليها فيما بعد.
وفى 599 ق. م الميلاد دمر نبوخذ نصر مملكة اليهود وسبى أهلها وأرسلهم إلى بابل حيث عاش اليهود كطائفة يرأسها كاهن وخضعت المنطقة للفراعنة والآشوريين والحيثيين والبابليين والعمونيين والعرب والفرس والرومان واليونان وقد تعرض اليهود على يد القائد الروماني (بومبي) إلى حركة إبادة قاسية وتبعه (أدريانوس) فأبادهم وطردهم من البلاد ودمر المدينة تدميرا كاملا وهدم المعبد (الهيكل) ولم يترك لها أثرا وأنشأ مدينة جديدة مكانها هي (إيلياء) وأصبحت خاضعة خضوعا تاما لأباطرة الروم في عهد قسطنطين 313م وعلى عهده بنت أمه الملكة هيلانة كنيسة القيامة 335م.
ومن هذا يتضح أن هذه المملكة قصيرة الأجل التي لم يتجاوز بقاؤها سبعين عاما منذ 3 آلاف سنة والتي طرأت على مدينة القدس بعد تأسيسها بعشرين قرنا من الزمان لا يمكن أن تشكل حقا تاريخيا، والصهاينة أنفسهم أول من يعرف ذلك بدليل أن الصهيونيين عندما بدءوا يفكرون في إقامة وطن قومي لهم اتجه بعضهم إلى التفكير في بلاد أخرى غير فلسطين، فالبارون (هيرشي) اليهودي الألماني كان يرى أن الأرجنتين أصلح مكان يمكن أن تقام فيه دولة لليهود بينما (هرتزل) نفسه كان على استعداد لقبوله في سوريا أو البرتغال أو سيناء أو قبرص أو العريش أو موزمبيق أو أوغندا أو الكونغو أو الأرجنتين لولا أن المطامع الاستعمارية التقت مع المطامع الصهيونية واتجهت إلى فلسطين.
القدس في الضمير العربي الإسلامي:
تقف القدس كدرة غالية وجوهرة ثمينة ومركز إشعاع لا يخبو ومثار دهشة لا ينقطع وصوت إيمان لا يغيب في أعماق كل إنسان عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها فقد جاءت كموقف فعال مؤثر طارئ وباعث على التغيير الكبير في نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفى مسار الدعوة الإسلامية فقد لمعت في حياته عليه الصلاة والسلام في عام الحزن بعد فقد ركنين كبيرين من أركان الدعوة متمثلين في أول زوجاته وأول من آمنت به وساندته وأسلمت إنها السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وفي أكبر حصونه وهو عمه وراعيه أبو طالب في هذا الوقت والنفس البشرية الشريفة في ظلال حزنها لمعت القدس، فإذا البراق وإذا بيت المقدس وإذا الأنبياء جميعا وإذا المعراج إلى السماء وإذا بلوغ المنتهى وإذا الدنو من العلي الأعلى وإذا تجاوز مرتبة جبريل وإذا رؤيته ما لا يدركه بشر وإذا الحقائق الكونية والمدركات العلوية وإذا ما لا يمكن وصفه والذي تجرى به آيات القران الكريم فيفهم منها العقل البشرى العام ما يستطيع ويقف دون ما هو فوق طاقته مما لم يدركه إلا صاحبه صلى الله عليه وسلم ويبقى ويخلد القران الكريم ليقول: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}. [سورة الإسراء].
ثم يقول عن المعراج ما يذهل حين يقول في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [سورة النجم].
وعاد صلى الله عليه وسلم في نفس الليلة إلى مكة وقد امتلك قوة كبيرة وتلقى تعاليم الصلاة ركن الدين وقد فاضت نفسه بالإيمان وهو يحس أنه أقوى من كل معانديه، وأنه أقدر على أداء رسالته في هداية الكافرين وأن في يده معجزة لم يؤتها إلا هو، وكانت صيحة نفاذة في آذان أهل مكة زادت المؤمنين إيمانا فمثلهم أبو بكر حين صاح في وجه الكافرين قبل أن يلقاه: إن كان قالها فقد صدق، ووقف المعاندون يكابرون ويدورون ويسألون، وفى حديث مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أتثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط قال: فرفعه الله لي انظر إليه ما يسألون عن شئ إلا أنبأتهم به…» (الحديث).
هل بعد هذا يتأتى لمسلم أن يجهل أبعاد مدينة القدس في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أُمِر أن يتخذها قبلة في صلاته وصلاة المسلمين ستة عشرا شهرا حتى قضى الله بحكمته أن تكون قبلة المسلمين الكعبة المشرفة؟ أليس بيت المقدس ثاني المسجدين في الآية الأولى في سورة الإسراء؟ أليس أولى القبلتين لكافة المسلمين؟ أليس ثالث الحرمين الشريفين بعد البيت الحرام ومسجد النبي صلى الله عيه وسلم في المدينة المنورة والثلاثة هي المساجد التي تشد إليها الرحال حسب الحديث النبوي الشريف؟.
أليس من البديهي والطبيعي والواجب أن تملا القدس وجدان كل عربي وكل مسلم وأن تصبح لدية أعز من عينية وأن يصونها ويحميها ويدافع عنها وأن يبذل الروح والمال والولد وأعز ما يملك في سبيل حمايتها ورد العدوان عنها إن تعرضت لعدوان وذلك تأسيا برسول الله وجريا على سنته؟ ولذلك يمكن القول دون مبالغة: إن الجهاد في سبيل حماية القدس وحرمة مقدساتها وضمان بقائها والتضحية في سبيل ذلك بالنفس والمال والجهد والعمل والكلمة فرض عين على كل مسلم قادر أيا كان موقعه وإن الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ورد الظلم والعدوان وإقامة موازين العدالة هو الروح الصحيحة للإسلام.
يقول فضيلة الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار الأمين العام الأسبق لمجمع البحوث الإسلامية: إن الجهاد مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية التي تصور الجو الإسلامي في طبيعته الصافية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه والذي كان في كثير من الأحيان يواصل في الصيام هو الذي يقول: «والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل ثم أغزو فأُقتل ثم أغزو فأُقتل» هو القائل كذلك: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق». لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عابدا أخص ما تكون العبادة وكان كذلك المكافح أسمى ما يكون الكفاح وهو نبي الرحمة وهو نبي الجهاد وما كان الجهاد قط في الإسلام إلا في سبيل الله فإذا ما خرج عن سبيل الله لم يكن إسلاميا وكل ما في سبيل الله فهو رحمة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دانت شبه الجزية العربية بالإسلام يتطلع إلى التحرك إلى القدس الشريف باتجاه تخليصها من أيدي الروم وعسفهم وفى هذا السبيل وجه غزوة موتة ثم قاد الرسول الكريم بنفسه غزوة كبرى بعدها هي غزوة (تبوك) التي بلغت مشارف الشام ثم كان آخر عمل له صلى الله عليه وسلم أن جهز جيش أسامة بن زيد ليتوجه لحرب الروم ولكنه عليه الصلاة والسلام لقي ربه الكريم قبل خروج هذا الجيش فتولى إتمام المهمة الخليفة الأول أبو بكر الصديق ليبدأ المسلمون تحركهم نحو الشام لتخليص القدس إحدى أهم مقدساتهم.
___________________________________________________
اسم الكاتب: محمد التهامي
- التصنيف: