قيام الليل دأب الصالحين
«من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»؛(متفق عليه)، هل هناك جائزة أكبر من هذا؟ ومع ذلك هناك جائزة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوتها؛ لذة مناجاة الله والوقوف بين يديه، نشكو همومنا لربنا ونسأله من فضله العظيم
لأن نقطة انطلاقنا للتغيير تبدأ من رمضان، سنتكلم أولًا عن قيام الليل في رمضان، ثم كيف نحافظ ونداوم عليه طوال العام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»؛(متفق عليه)، هل هناك جائزة أكبر من هذا؟ ومع ذلك هناك جائزة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوتها؛ لذة مناجاة الله والوقوف بين يديه، نشكو همومنا لربنا ونسأله من فضله العظيم، لذة كانت تجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه – أي: تتشقق - كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والمتلذذون بقيام الليل يفهمون معنى الحديث؛ فإنه عليه الصلاة والسلام من لذته بالمناجاة ينسى نفسه فيؤخر الركوع، فلا يشعر بقدميه حتى تتفطر.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله، فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي"، لم يشبع من القيام والقرآن!
ولولا ما يجدونه من لذة في طول القيام والمناجاة، لأسرعوا الركوع، ولكن يمضي الليل كله وهم في مناجاتهم لا يشعرون بالتعب.
ولا ننسى لذة البكاء من خشية الله، شعور تعجز الكلمات عن وصفه، حتى إنه من شدة اللذة بمناجاته وبكائه لا يريد القائم بين يدي لله للفجر أن يطلع، فلا عجب أن يبتل مكانه بدموعه؛ كان الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى يبل موضع سجوده بدمعه كل ليلة، فدخلت امرأة على زوجته، قالت: "فرأيت الحصير الذي يصلي عليه مبلولًا، فقلت: يا أختي، أخاف أن يكون الصبي بال على الحصير، فبكت وقالت: ذلك دموع الشيخ، هكذا يصبح كل يوم".
وذكر الله عز وجل المتهجدين؛ فقال عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]، قال الحسن: "كابدوا الليل، ومدُّوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار"، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]؛ أي: هل يستوي من هذه صفته مع من نام ليله وضيَّع نفسه، غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده؟! وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]؛ قال مجاهد والحسن: "يعني: قيام الليل"، والأحاديث في الحث على قيام الليل كثيرة جدًّا؛ منها: «عليكُم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قبلَكُم، وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومَنهاةٌ عن الإثمِ، وتَكفيرٌ للسيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسَدِ»؛ (صحيح الجامع)، وذُكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه»؛ فكم جعلنا من آذاننا مراحيض للشيطان!
كان هذا حالهم، أما نحن - إلا من رحم ربي - محرومون من هذه اللذة حتى في رمضان، يحين وقت التراويح، فإذا بالمقاهي وقد مُلئت، وإذا بالبقية في البيوت مصطفون أمام التلفاز، مساكين لا يدركون عِظَمَ ما حرموا أنفسهم منه!
وحتى إن كثيرًا من الذين أنعم الله عليهم واختاروا قيام الليل وصلاة التراويح يبحثون عن المسجد الذي ينتهي من التراويح أسرع! هذا مع أن صلاة التراويح بعد صلاة العشاء في أول الليل، ولم يغلبنا النعاس بعد، فماذا لو تحدثنا عن الصلاة في ثلث الليل الأخير، وأن من الأفضل أن نجعل القيام في ثلث الليل الأخير؟
يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حتَّى إذا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، نَزَلَ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فيَقولُ: هلْ مِن مُسْتَغْفِرٍ؟ هلْ مِن تائِبٍ؟ هلْ مِن سائِلٍ؟ هلْ مِن داعٍ؟ حتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ»؛ (رواه مسلم).
هل عقدنا العزم على المحافظة على قيام الليل؟ لا تقلقوا، فالأمر ليس بالعسير، فوقتها من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، وأقلها ركعتين، ألا نستطيع في كل هذا الوقت الطويل أن نستقطع بضع دقائق نصلي فيها ركعتين ومعهما ركعة الوتر؟! يمكننا أن نصليها بعد صلاة العشاء أو قبل النوم، إذا كان الاستيقاظ في ثلث الأخير فيه مشقة، ولو استطعنا أن نستيقظ قبل صلاة الفجر بنصف ساعة فقط نصلي فيها ركعتين مع ركعة الوتر، ثم نستغفر وندعو الله حتى أذان الفجر، فذلك خير وأفضل، المهم ألَّا نترك قيام الليل أبدًا، لا في رمضان ولا غيره.
الأسباب الميسِّرة لقيام الليل:
ذكر أبو حامد الغزالي أسبابًا ظاهرة، وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل:
فأما الأسباب الظاهرة، فأربعة أمور:
الأول: ألَّا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.
الثاني: ألَّا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.
الثالث: ألَّا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.
الرابع: ألَّا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناجٍ ربه.
____________________________________________
الكاتب: هبة حلمي الجابري
- التصنيف: