الزارع المجد
فقال النبي عليه الصلاة والسلام { ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة}
أيها الإخوة الكرام: من أسباب المعاش التي يسرها الله تعالي للعباد ومن أبواب الكسب الحلال التي فتحها الله للناس بواسع رحمته وكرمه ( الزراعة )..
هذا السبب من أسباب المعاش وهذا الباب من أبواب الكسب الحلال فيه حراثة الأرض وفيه بذر الحب وفيه السقيا وفيه الرعاية وفيه الحصاد . هذا الباب من أبواب الرزق الحلال كفل الحياة المستقرة للإنس والجن والبهائم والهوام..
قال الله تعالى ﴿ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُۥٓ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّٰرِعُونَ، لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَٰهُ حُطَٰمًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾
انفلاق الحب وإنبات النوى وخروج الأعواد واستوائها على سوقها بصورة تعجب الزراع وتسر الناظرين كل ذلك نعمة من نعم الله الجليلة {فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ، أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَآئِقَ غُلْبًا، وَفَٰكِهَةً وَأَبًّا، مَّتَٰعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَٰمِكُمْ }
انفلاق الحب وإنبات النوى وخروج الأعواد واستوائها على سوقها كل ذلك آية من آيات القدرة المطلقة لله رب العالمين.. {إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَىِّ ۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ}
ثم إن اختلاف الزرع في لونه فهذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر وهذا أخضر وهذا أصفر وهذا بين ذلك..
ثم إن اختلافا آخر في الطعم فهذا حلو وهذا حامض وهذا بين ذلك..
ثم يأت اختلاف حجم النبات والثمر فمنها الكبير ومنها الصغير ومنها بين ذلك وفي جميع ثمار الأرض من الفوائد والمنافع ما لا يحصى..
اختلاف في اللون والطعم والحجم والفوائد رغم أن التراب واحد وأن الماء واحد..
قلت: إن في هذا لأكبر دليل علي بديع صنع الخالق العظيم سبحانه وتعالى {وَفِى ٱلْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَٰحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
مهارة الغرس مهارة السقيا مهارة الرعاية مهارة الحصاد، مهارة التخزين ..
مهارات علمها الله تعالي أول ما علمها لآدم عليه السلام فقد كان آدم عليه السلام مزارعا، وعمل أولاد آدم أول ما عملوا بالزراعة ومع الزراعة عملوا برعي الغنم {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْءَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ}
قال الجمهور من المفسرين وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما ..
كانا من صلب آدم وهما قابيل وهابيل ، وكان قربان قابيل حزمة من سنابل القمح - لأنه كان صاحب زرع - واختار قابيل قربانه من أردأ الزرع ، حتى أنه وجد في الحزمة سنبلة طيبة ففركها وأكلها..
أما هابيل فكان قربانه كبشا أقرن كأحسن ما تكون الكباش - لأنه كان صاحب غنم - فأخذ القربان من أجود غنمه. .
فتقبل الله تعالى قربان هابيل ولم يتقبل من الآخر، نزلت نار من السماء فرفعت قربان قابيل مقبولا إلى الجنة ، فلم يزل يرعى في الجنة إلى أن فدي الله به الذبيح إسماعيل ابن إبراهيم عليهم جميعا وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام .
ولم يزل الصحابة رضوان الله تعالي عليهم من الأنصار وممن قسم له رسول الله أرضا من فتوحات بني قريظة ومن أقطعه رسول الله أرضا من المهاجرين يزرعون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وكل من أسلم من أهل اليمن والبحرين والطائف..
ولما كاتب سلمان الفارسي مولاه ( أن يعتق رقبته على عوض) اشترط عليه مولاه أن يسدد إليه مبلغا معلوما من المال وأن يغرس له خمسمائة نخلة وأن يعمل في النخل حتي تعيش ويثمر..
فقال النبي أعينوا أخاكم فجمع المسلمون لسلمان المال فدفعه سلمان إلى مولاه وجعل الصحابة يأتون بفسائل النخل ورَسُولُ اللَّهِ يغرس الفسيلة بعد الفسيلة بيديه المباركتين..
إِلَّا نَخْلَةً وَاحِدَةً بقيت فغَرَسَهَا عمر رضى الله عنه، فَحَمَلَتِ النَّخْلُ كلها وأثمرت مِنْ عَامِهَا إلا نخلة وحيدة فريدة فلم تحمل ولم تثمر .. وبقي سلمان عبدا مملوكا لم تفك رقبته لأن من بين النخل نخلة لم ثمر..
فشكى سلمان إلى رسول الله أن رقبته لن تفك ما دامت هذه النخلة لم تثمر..
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: من غرس هذه النخلة ؟
فقَالَ عُمَرُ: أَنَا غَرَسْتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَأتى رسول الله النخلة فنزَعَهَا من موضعها ثُمَّ غَرَسَهَا من جديد فَحَمَلَتْ وأثمرت النخلة مِنْ عَامِهَا وفكت رقبة سلمان رضي الله عنه وأرضاه »
حراثة الأرض بالزرع والغرس مهارة لكل شيء فيها حساب ( بذر الحب بحساب، سقيا الماء بحساب، تعطيش النبات بحساب، وقايته من الآفات بحساب، حصاده بحساب، تخزينه بحساب مهارات أوحي الله بها إلينا وألهمنا فنها والبراعة فيها، وتوارثها الناس جيلا من بعد جيل { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ }
هذه الآية نزلت في شأن يوسف عليه السلام ونزلت تتكلم عن الزراعة في أرض مصر وقد برع وأبدع أهل مصر في تقسيم مواسم الزراعة والحصاد وأوقات الفيضان والجفاف أيما إبداع.. وقد كانت الزراعة كفيلة في وقت من الأوقات بنجاة مصر ومن حولها العباد والبلاد من القحط والهلاك...
قال سعيد بن هلال مصر أم البلاد وغوث العباد وإن مصر مصورة فى كتب الأوائل وقد مدت إليها سائر المدن يدها تستطعمها وذلك لأن خيراتها كانت تفيض على من حولها..
وقال الجاحظ رحمه الله أهل مصر يستغنون بما فيها من خيرات عن سائر البلدان حتى لو بنى أهل مصر بينهم وبين سائر البلدان سوراً ما ضرهم..
{ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَٰتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٍ لَّعَلِّىٓ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }
ولأن عموم الناس لم يكن بينهم ( يوسف) عليه السلام، لم يعلموا بالخطر القادم لم يعلموا بالجفاف والجوع القادم، ولم يأخذوا بالأسباب، فلم يغرسوا الحب، ولم يزرعوا الأرض، ولم يخزنوا الحصاد..
فجاع الناس في وقت من الأوقات، وهلك بين أيديهم الزرع والضرع، وهم لا حول لهم ولا قوة، ولم يكن لهم في الحياة مغيث بعد الله تعالى إلا مصر حفظها الله {فَلَمَّا دَخَلُوا۟ عَلَيْهِ قَالُوا۟ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَٰعَةٍ مُّزْجَىٰةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِى ٱلْمُتَصَدِّقِينَ}
جاؤا إلى مصر يسألون النجدة، يسألون الصدقة، وكان أهل مصر أكرم الناس {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ٱئْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّىٓ أُوفِى ٱلْكَيْلَ وَأَنَا۠ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ }
من بركات الزرع والغرس:
أن الله تعالى جعلها بابا من أبواب العبادة، ففيها بذل المعروف، وفيها الزكاة يوم الحصاد، وفيها الصدقة..
دخل النبي صلى الله عليه وسلّم بستان نخل بالمدينة لامرأة من الأنصار يقال لها أم مبشر فقال النبي من غرسه؟ مسلم أم كافر؟
قالوا: غرسه مسلم..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام { ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في صاعنا ومدنا وأن يجعل البركة في أرزاقنا إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير ...
الخطبة الثانية..
بمناسبة أننا اليوم نتحدث عن الزرع والغرس تلكم المهارة التي علمها الله تعالي لآدم وذريته نود أن نأخذكم ونذهب بكم إلى الجنة..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا جميعا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل..
في الجنة أيها الكرام من صور النعيم ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ، لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَٰغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ } { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَآ أَنْهَٰرٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَٰرٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُۥ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنْهَٰرٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ}
{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا۟ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا۟ هَٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَٰبِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }
وعلى الرغم من كل ذلك إلا أنه وفي الجنة كلم أحدهم ربه، واسأذنه في أن يسمح له أن يزرع ويقلع!!
في الجنة بين الأنهار والأشجار والقصور والأزهار والثمار يود ذلك الإنسان أن يزرع!! هذه أمنيتة يود لو يسمح له ربه في الجنة أن يزرع..!!
وفي الجنة لا أحزان ولا حرمان،( نسأل الله الكريم من فضله) في الجنة كل ما تشتهيه الأنفس.. وذلك الإنسان اشتهى أن يزرع!!
في الجنة جبر الخواطر منحة من رب العالمين وعطية من أرحم الراحمين..
ورد في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ أعرابي مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ..
فقال: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ ربه أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ.. فَيَقُولُ اللَّهُ دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ!!
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَجِدُ هَذَا الرجل إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم »
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسعد قلوبنا وأن يجبر خواطرنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد..
- التصنيف: