دلالةُ {كَافَّةً لِلنَّاسِ}، على عموم الرسالة لِلنَّاسِ كَافَّةً

منذ 2022-05-17

توجيهات بيانية لدلالة قول الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سورة سبأ: 28] على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة.

[دلالةُ {كَافَّةً لِلنَّاسِ}، على عموم الرسالة لِلنَّاسِ كَافَّةً].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
فقد جاء في حاشية الشمني على مغني اللبيب [2/ 122]، قوله: (وههنا حكاية أخبرنا بها إجازة - إن لم تكن سماعا - شيخنا العلامة أبو الفضل محمد ابن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم ابن الإمام التلمساني، قال: أخبرنا شيخنا القاضي أبو سعيد العقباني، قال: اجتمعت بمدينة مراكش بيهودي يشتغل بالعلوم، فقال لي: ما دليلكم على عموم رسالة نبيكم؟ قلت له: قوله: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، فقال: هذا خبر آحاد، فلا يفيد إلا الظن. والمطلوب في المسألة القطع، فقلت له: قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سورة سبأ: 28]، فقال: هذا لا يكون حجة إلا على قول من يقول بصحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، وأنا لا أقول به. انتهى).
وأجاب الشمني عن اليهودي، فقال: (والجواب عن اعتراض اليهودي على هذا الخبر الحق أنه - وإن كان آحادا في نفسه - متواترٌ معنى؛ لأنه نقل عنه – صلى الله عليه وسلم – من الأحاديث الدالة على عموم رسالته ما بلغ القدرُ المشترك منه حدَّ التواتر، وأفاد القطع بنسبة معناه إليه، وإن كانت تفاصيله آحادا، كجُود حاتم، وشجاعة عليّ، وإذا حصل القطع بنسبة معناه إليه، حصل القطع بحقيقته؛ لأن الرسول معصوم، وكل ما هو خبر للمعصوم حقٌّ. وعن اعتراضه على الآية هو الاستدلال على صحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف).
وظاهر كلام القاضي أبي سعيد، والشمني - رحمهما الله تعالى - أمران اثنان:
أحدهما: أنهما لم يستحضرا قوله – تعالى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) ولو استدل بها القاضي العقباني لبهت اليهودي، وانقطع، وليس هذا - أعني: عموم الرسالة المحمدية - محل بحث ونقاش، فهو مقطوع به، معلوم من الدين بالضرورة. 
والأمر الآخر: أنهما سَلَّما لليهوديّ أن الآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} لا تدل على عموم رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلا على القول بصحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف؛ فهاتان مسألتان، إحداهما: دلالة الآية على عموم الرسالة مطلقا، كما دل عليه غيرها من النصوص القطعية. والأخرى: الاستدلال على صحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، فالمسألتان هما موضوع هذا البحث المختصر.  
المسألة الأولى: إثبات أن قوله – تعالى -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ: 28)، يدل على عموم رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - مع عدم القول بصحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف؛ وذلك أن "كافَّةً" لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه، غير تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف:
أحدها: أنه حالٌ من كاف «أَرْسَلْناك» والمعنى : إلاَّ جامعاً للناس في الإِبلاغ. والكافَّةُ بمعنى الجامع، والهاءُ فيه للمبالغة مثلها في عَلاَّمة وراوِية، وإليه ذهب الزجاج في معاني القرآن، فقال: (معنى "كافة" الإحاطة في اللغة، والمعنى: أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ. فأرسل الله النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى العرب والعجم، وقال: "أنا سابق العرب إلى الإسلام، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق الفرس"، أي: الرسالة عامة، والسابقون من العجم هؤلاء).
الثاني: أنَّ «كافَّةً» صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: إلاَّ إرْسالةً كافَّةً للناس، قال الزمخشري: (إلا إرسالةً عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم). 
الثالث: أنَّ «كافَّة» مصدرٌ جاء على الفاعِلة كالعافِية والعاقِبَة. وعلى هذا فوقوعُها حالاً: إمَّا على المبالغةِ، وإمَّا على حذف مضافٍ، أي: ذا كافَّةٍ للناس. ذكره السمين في الدر المصون. أي: وما أرسالناك إلا محيطا بالناس جميعا، أو ذا إحاطة لهم.
قلت: وهو قريب من توجيه الزجاج، بل هو صريح قوله في بيان معنى قول الله – تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة: 36)، قال: (فـ "كافة" منصوب على الحال، وهو مصدر على فاعلة، كما قالوا: العاقبة، والعافية، وهو في موضع: قاتلوا المشركين محيطين بهم. 
فأنت ترى أن  الآية حجة في عموم رسالة نبينا محمد  – صلى الله عليه وسلم – على أي وجه حملت «كافَّة»؛ ولذلك تجد من لا يجيز تقدم حال المجرور من العلماء يحتج بهذا الآية على عموم رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم – فالزمخشري الذي بالغ في منع تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف - كما سيأتي - يقول في تفسير قوله – تعالى -: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}[النساء: 79]: (أي: رسولا للناس جميعا، لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ 28) {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف 158])، فجعل الآية حجة على عموم الرسالة، مع عدم قوله بجواز تقدم حال المجرور بالحرف.
والرازيّ لم يذكر أصلا وجه إعراب "كافة" حالا مقدمة في آية سبأ {وما أرسلناك إلا كافة للناس}، بل اقتصر على توجيه الزمخشري، وتوجيه الزجاج، فقال: (فيه وجهان أحدهما: "كافة" أي: إرسالةً كافةً، أي: عامة لجميع الناس تمنعهم من الخروج عن الانقياد لها. والثاني: كافة، أي: أرسلناك كافة تكف أنت من الكفر. والهاء للمبالغة على هذا الوجه). 
ومع ذلك احتج بالآية على عموم رسالة نبينا محمد  – صلى الله عليه وسلم – في مواضع من تفسيره، منها قوله [6/ 521]: (الحجة الثامنة : أنه - عليه السلام - بعث إلى كل الخلق، وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر، فوجب أن يكون أفضل، أما أنه بعث إلى كل الخلق فلقوله – تعالى - : {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ : 28]).
 وقال [9/ 415]: (المسألة الثانية: أن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين؛ وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله، ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين؛ لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال – تعالى -: {وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ}).
فدل هذا على أن كون آية سبأ حجة ودليلا على عموم رسالة نبينا – صلى الله على وسلم – إلى العالمين، ليس متوقفا على القول بجواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، فبطل قول اليهودي: إن الآية لا تكون حجة إلا على قول من يقول بصحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف. 
وهذه طريقة في الإلزام قوية؛ لأنها تلزم الخصم بما فرَّ منه، من الجهة التي فَرَّ إليها، ولا يحتاج معها إلى إيراد دليل آخر، ولا إلى تصحيح تقدم حال المجرور بالحرف.
المسالة الثانية: تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف.
لا خلاف في أن الأصل مجيء الحال متأخرة عن صاحبها، وأن الأكثر في كلام العرب تأخر الحال عن صاحبها المجرور بالحرف، وهذا أساس تقعيد متقدمي البصريين قاعدة أن الحال لا تتقدم على صاحبها المجرور بالحرف، ثم التمسوا عِلَلاً لذلك؛ منها أن العرب لا تقدم الحال على صاحبها إلا حيث يصح أن يتقدم صاحبها، والمجرور بالحرف لا يتقدم على جارِّه؛ لأنه لا يتصرف تصرف الفعل، ولا بمنزلة ما يتصرف تصرفه، فكذلك لا تتقدم حاله عليه، وهي علة قديمة، ذكرها سيبويه - رحمه الله – فقال: (واعلم أنه لا يقال: قائما فيها رجل، فإن قال قائل: أجعله بمنزلة: راكبًا مَرَّ زيدٌ، وراكبًا مَرَّ الرجل. قيل له: فإنه مثله في القياس؛ لأن "فيها" بمنزلة "مَرَّ"، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل؛ لأن "فيها" وأخواتها لا يتصرفن تصرف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغنى به الاسم من الفعل، فأجره كما أجرته العرب واستحسنت. ومن ثم صار: "مررتُ قائمًا برجلٍ" لا يجوز؛ لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء).
قال السيرافي في شرح كلام سيبويه 2/ 452: (إذا عمل في الاسم الذي الحالُ منه عاملٌ لا يجوز تقديمه عليه، نحو حروف الجر، لم يجز تقديم الحال على عامله. لا تقول: مَرَّ زيدٌ قائمةً بهندٍ؛ لأن "هندا" لا يجوز تقديمها على الباء، والحال تابعة للاسم، فلم يجز تقديمها عليه، وإن كان العامل فيها الفعل).
ولهم علل غير ذلك، ذكرها ابن مالك في شرح التسهيل 2/ 252، وردَّها، وبيَّن ضعفها في ص: 255.
وعلى هذا جمهور البصريين، والتزموا تأويل ما سمع بخلاف ذلك، أو حمله على الضرورة، ومما سمع من ذلك الآية الكريمة: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ: 28)، فحملوا "كَآفَّةً" على المحامل التي تقدم ذكرها في المسألة الأولى، قال الزمخشري:  (ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، ثم لا يقنع به حتى يضمّ إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا بالخطأ الثاني، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين).
وقال ابن هشام في باب الحال من الأوضح: (والْحقُّ أن البيت ضرورة، وأن "كَافّةً" حالٌ من الكاف، والتاء للمبالغة لا للتأنيث، ويلزمه تقديمُ الحال المحصورة، وتعَدِّي " أرْسَلَ" باللام، والأولُ ممتنعٌ، والثاني خلافُ الأكثر). 
وجوز الكوفيون التقديم إن كان صاحب الحال ضميرا، نحو: مررت ضاحكةً بكِ، أو ظاهرا، والحال فعل، نحو: مررت تضحك بهند. وإذا كان ظاهرا، وهي اسم، فلا يجوز التقديم، لا يجوز: مررت ضاحكةً بهند. وذكر ابن الأنباري الاتفاق على أن ذلك خطأ، وأن الإجماع منعقد على ذلك. التذييل والتكميل 9/ 74.
وليس ذلك صحيحا، فقد ذهب جماعة من البصريين، إلى الجواز مطلقا، والقياس على ما سمع من ذلك؛ لأنه بلغ عندهم مبلغ أن يقاس عليه، وإن كان أقل من الأول، وإليه ذهب ابن كَيْسانَ، وأبو عليّ، وابن بَرْهانَ. وبالغ في الانتصار له، والاحتجاج له ابن مالك، فقال- بعد أن أورد علل المنع -: وهذه شبه وتخيلات لا تستميل إلّا نفس من لا تثبّت له، بل الصحيح جواز التقديم في نحو: «مررت بهند جالسة» وإنما حكمت بالجواز؛ لثبوته سماعا، ولضعف دليل المنع، واستشهد بالآية الكريمة {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}، ورَدَّ إعراب الزمخشري "كافَّةً" صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديرُه: إلاَّ إرْسالةً كافَّةً للناس، بأن العرب لم تستعمله إلا حالا، وهذا شبيه بما فعل في خطبة المفصل من إدخال باء الجرّ عليه، وإضافته، والتعبير به عمّا لا يعقل.
وليته إذ أخرج "كافةً" عن استعمال العرب سلك به سبيل القياس، بل جعله صفة لموصوف محذوف لم تستعمله العرب مفردا، ولا مقرونا بصفة - أعني إرسالة - وحقُّ الموصوف المستغني بصفته أن يعتاد ذكره مع صفته قبل الحذف، وأن لا تصلح الصفة لغيره، والمشار إليه بخلاف ذلك، فوجب الإعراض عمّا أفضى إليه.
وردَّ توجيه الزجاج بأنّه جعل "كافّة" حالا من مفرد، ولا يعرف ذلك في غير محل النزاع، وجعله من مذكر مع كونه مؤنثا، ولا يتأتّى ذلك إلا بجعل تائه للمبالغة، وبابه مقصور على السماع، ولا يأتي غالبا ما هي فيه إلّا على أحد أمثلة المبالغة كنسّابة، وفروقة، ومهذارة، و"كافة" بخلاف ذلك، فبطل أن تكون منها؛ لكونها على فاعلة، فإن حملت على "رَاوِية" حملت على شاذ الشاذ؛ لأنّ لحاق تاء المبالغة لأحد أمثلة المبالغة شاذ، ولما لا مبالغة فيه أشذّ، فيعبر عنه بشاذ الشاذ، والحمل على الشاذ مكروه، فكيف على شاذّ الشاذّ.
قال: وإذا بطل القولان – يعني: قول الزجاج، وقول الزمخشري - تعيّن الحكم بصحة القول الثالث، وهو أن يكون الأصل: وما أرسلناك إلا للناس كافة، فقدّم الحال على صاحبه مع كونه مجرورا.
ثم استشهد على جواز ذلك بستة أبيات من الشعر، أعقبها ببيان ضعف علل المانعين من التقديم. انظر شرح التسهيل 2/ 252، وما بعدها. فقول ابن هشام: (والبيت ضرورة) فيه ما لا يخفى، فهي أبيات لا بيت. 
وأما قول الزمخشري السابق: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ... إلى آخر كلامه، فقال أبو حيان: إنه قول شنيع؛ (لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى "إلى"؛ لأن أرسل يتعدى بإلى، ويتعدى باللام، كقوله : {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}. ولو تأول اللام بمعنى "إلى"، لم يكن ذلك خطأ؛ لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى، وإلى قد جاءت بمعنى اللام، وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور).
وأما قول ابن هشام: (ويلزمه تقديمُ الحال المحصورة، وتعَدِّي " أرْسَلَ" باللام، والأولُ ممتنعٌ، والثاني خلافُ الأكثر)؛ فقد تقدم جواب أبي حيان في مسألة تعدية أرسل باللام، وأما كون تقديم الحال المحصورة ممتنعا، فقد دفعه الأزهري بأن تقديم المحصور بـ "إلا" ليس ممتنعا عند الجميع، كيف، وقد قال الموضح في باب الفاعل في المحصور بـ "إلا": وأجاز البصريون والكسائي، والفراء، وابن الأنباري تقديمه على الفاعل؟!. وأي فرق بين الحال والمفعول؟ لأن الاقتران بــ "إلا" يدل على المقصود.
وأما تعليل سيبويه السابق، فقد ناقشه ابن برهان في شرح اللمع [1/ 137] بأن العامل في الحال هو الفعل، ولا يفتقر الفعل إلى الباء في عمله في المفعول به، وإذا ساغ أن يعمل في الحال ما لا يعمل في صاحب الحال كان هذا أولى.
فثبت مما تقدم صحة تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف - كما طلبه الشمني -  وأن إعراب "كافَّةً" حال من "الناس" هو الصحيح، إن شاء الله تعالى؛ وهو التفسير المروي عن السلف، فعن عِكْرِمة قال: سمعت ابن عباس يقول: (إن الله فضل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا بن عباس، فيم فضله الله على الأنبياء؟ قال: إن الله قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، فأرسله الله إلى الجن والإنس). رواه الطبراني، والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
 وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف القاضي، حدثنا محمد بن جرير الفقيه، حدثنا أبو كريب، سمعت أبا أسامة - وسئل عن قول الله - عز وجل -: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}، فقال: حدثنا الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر - رضي الله عنه – قال: طلبت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم – ليلة، فوجدته قائما يصلي، فأطال الصلاة، ثم قال: أوتيت الليلة خمسا لم يؤتها نبي قبلي: أرسلت إلى الأحمر والأسود ...)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما أخرجا ألفاظا من الحديث متفرقة.
وقال الطبري: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، قال: أرسل الله محمدًا إلى العرب والعجم، فأكرمُهُم على الله أطوعهم له).
وفي الدر المنثور للسيوطي: أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}،  قال: إلى الناس جميعا.
 وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}، قال : للناس عامة.
فكل هذه التفاسير مبنية على أن "كافة" حال من الناس، كما هو واضح، وبعضه أوضح من بعض، فدل على أن تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف معهود معروف عند الصحابة، والتابعين.  
وحملُ "كافّة" على غير ذلك لا يخلو من بُعْدٍ وتكلف، قال الرضي في شرح الكافية 2/ 30: (وبعضهم يجعل "كافة" حالا من الكاف، والتاء للمبالغة، وهو تعسف).
 وفي المسألة مناقشات وإيرادات تنظر في حاشية الشهاب، وروح المعاني، وغيرهما.
فثبت بما تقدم صحة القول بتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، وإذا ثبتت صحة هذا القول، لزم اليهودي الإقرار بعموم نبوة نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – إلى الناس كافة؛ لأنه القولُ الذي وَقَفَ على صِحته كونَ قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} حجةً على عمومها، وقد صحَّ.  وبالله تعالى التوفيق.

أحمد بن محمد الحمزاوي

شيخ أصولي لغوي من بلاد المغرب العربي عمل لمدة 25 عاما في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ثم رجع إلى بلاد المغرب في عام 1440 من الهجرة.

  • 1
  • 1
  • 2,921

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً