الرؤيا الصالحة: بشرى أو إنذار أو معاتبة

منذ 2022-05-29

القسم الثالث: رؤيا حق, وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «الرؤيا الصالحة جُزء من ستة وأربعين جُزءاً من النبوة» .


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالرؤيا وهي يراه النائم في نومه ثلاثة أقسام, قال العلامة العثيمين رحمه الله: الرؤيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: من وحي الشيطان وهي الحلم وهذه غالباً ما تكون فيما يحزنُ الإنسان ويضيقُ صدرهُ، ويقلقُ نفسه، فيضربُ الشيطان للنائم أمثالاً تزعجه، ويرى مثلاً في المنام عقارب تلدغه، وحياتٍ وذئاباً تعدو عليه، وجمالاً تنهشُه، فتجدُهُ يقوم فزعاً.

القسم الثاني: رؤيا هي حديث النفس, يعني الإنسان يهتمُّ بشيءٍ وبشغلُ باله في اليقظة فيراهُ في المنام، فتجده مثلاً يريدُ أن يقوم برحلة مع زملائه، فإذا نام في الليل رأى أنه يهيئُ لهذه الرحلة، ويشترى المتاع، ويهيئُ السيارة.

القسم الثالث: رؤيا حق, وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «الرؤيا الصالحة جُزء من ستة وأربعين جُزءاً من النبوة» .

والرؤيا التي من الشيطان ينبغي لمن رآها: أن يستعيذ بالله من شرها, ومن شر الشيطان, وأن ينفث عن يساره ثلاثاً, وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر, وأن يصلي, وأن لا يذكرها لأحد فإنها لن تضره

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: نهي من رأى رؤيا يكرهها أن يتحدث بها، فإنه ذريعة إلى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي إلى الوجود الخارجي، كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظي، وهكذا عامة الأمور تكون في الذهن أولًا، ثم تنتقل إلى الذكر، ثم تنتقل إلى الحس، وهذا من ألطف سدِّ الذرائع وأنفعها، ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلًا في درجات الظهور طبقًا بعد طبقٍ من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج.

ومن رأى رؤيا حسنة, فليحمد الله عز وجل عليها, وليستبشر بها, وليخبر بها من يحب, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من رأى رؤيا تسره فإنه يقصُّها على أصحابه وإخوانه المحبين له.

وقال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا المحبوبة الحسنة لا تخبر بها إلا من تحب فسببه أنه إذا أخبر بها من ما لا يحب ربما حمله البغض أو الحسد على تفسيرها بمكروه فقد يقع على تلك الصفة...فيحصل له في الحال حزن ونكد من سوء تفسيرها.

ومن رغب في تفسيرها فليكن من عالم ناصح أمين, فالحذر من سؤال من يفسرون الرؤي وهم ليسوا لها بأهل, فتعبير الرؤيا قد يترتب عليه أمور خطيره, يحكي أن شريك بن عبدالله القاضي دخل على المهدي, فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع, قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين ؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني, فقصصت رؤياي على عبرها, فقال: يظهر لك طاعة ويضمر معصية, فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام, ولا ان معبرك بيوسف الصديق عليه السلام, فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين, فقال: اخرج, ثم صرفه وأبعده.

قيل للإمام مالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيراً أخبر به وإن رأى مكروهاً فليقل خيراً أو ليصمت

وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الرؤيا لا يجوز لأحد أن يؤولها وليس من أهل التأويل بمعنى أن يعبُرها ويفسرها وهو ليس من أهل التأويل والتفسير والمعرفة, لأنه قد يؤولها على خلاف ما هي له, ويقع الأمر على حسب ما أوَّل, ويكون في هذا ضرر عظيم

والحذر كذلك من كتب تفسير الأحلام, فالرؤيا يختلف تعبيرها مما يقترن بها من أحوال, قال الحافظ ابن بطال رحمه الله: رؤيا المرأة في المنام يختلف من وجوه: منها أن يتزوج الرائي حقيقة بمن يراها أو شبهها, ومنها أن يدل على حصول دنيا أو منزلة فيها أو سعة في الرزق...وقد تدل المرأة بما يقترن بها في الرؤيا على فتنة تحصل للرائي

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من المهم ألا نعتمد على ما يوجد في بعض الكتب ككتاب تفسير الأحلام لابن سيرين وما أشبهها فإن ذلك خطأ وذلك لأن الرؤيا تختلف بحسب الرائي وبحسب الزمان وبحسب المكان وبحسب الأحوال.

ومن رام أن تصدق رؤياه فعليه بأمور, ذكرها أهل العلم , قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد أن تصدق روياه: فليتحرَّ الصدق وأكل الحلال, والمحافظة على الأمر والنهي, ولينم على طهارة كاملة, مستقبل القبلة, ويذكر الله حتى تغلبه عيناه, فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة. وقال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: من خلصت نيته في عبادة ربه, ويقينه, وصدق حديثه, كانت رؤياه أصدق, وإلى النبوة أقرب.

والرؤيا الصالحة قد يراها الكافر والفاسق, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة فإنها تكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان مثلاً, أو التوبة, أو إنذاراً من بقائه على الكفر أو الفسق.

والغالب في الرؤيا الصادقة وقوعها متأخرة, ففي قصة رؤيا نبي الله يوسف عليه السلام, قال ابن أبي حاتم الرازي: عن سليمان قال: كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاماً.

والرؤيا الصالحة أنواع, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال الحكيم الترمذي: الرؤيا الصادقة أصلها حق تخبر عن الحق, وهو بشرى وإنذار ومعاتبة.

فالرؤيا الصالحة قد تكون منذرة ليستعد العبد لما ينزل به من بلاء قال الإمام القرطبي رحمه الله: الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى, لا تسرّ رائيها, وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقاً به ورحمة, ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه, فإن أدرك تأولها بنفسه, وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل, تدل على محنته, فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك.

فالإنسان قد يرى رؤيا فيها إنذار له بما سيقع له مما يكرهه, وتكون رؤيا حسنة له, لأن من أنذر بما سيقع له ولو كان مما لا يسره أحسن حالاً ممن هجم عليه ذلك الأمر.

وقد تكون معاتبةً على معصية وذنب وقع فيه لكي يبادر إلى التوبة عاجلاً مما وقع منه من ذنوب ومعاصي, بعث أمير الكوفة, المسيب بن زهير الضبي, إلى عمار بن سيف بألفين فردها, فطلبتها زوجته, فأنفذ إليها المسيب بالألفين, فباتت عندها, فأصبح عمار يقول: قد أحدثت في هذه الخزانة حدثاً, لقد رأيت في النوم كأنها تضطرم علينا ناراً, فقالت: الألفين أخذتها فهي في الخزانة, قال: كدت أن تحرقينا, رديها, فردتها.  

قال العلامة محمد بن صالح  العثيمين رحمه الله: واعلم أنه يمكن أن تكون الرُّؤى المكروهة تنبيهاً للإنسان, فتسُرُّ الإنسان باعتبار نتائجها, لأن الإنسان أحياناً قد يتلبسُ بمعصية. أو بأكل مالٍ لأحد, أو بظلم أحد, ويرى في الرؤيا ما يُنبهُهُ, فهذه لا تكون مكروهةُ في نفسه, بل يحمدُ الله سبحانه وتعالى أن نبَّههُ على هذا الأمر بهذه الرؤيا.

وقد تكون تنبيهاً على ترك العبد لعبادة له فيها خير, فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه إذا رأى رؤيا قصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتمنيت أن أرى رؤيا فأقُصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنتُ غلاماً شاباً, وكنتُ أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار, فإذا هي مطوية كطيّ البئر, وإذا لها قرنان, وإذا فيها أناس قد عرفتهم, فجعلت أقولُ: أعوذ بالله من النار. فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع.

فقصصتها على حفصة, فقصّتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل.)) فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً.   

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال القرطبي: عبدالله...عُرض على النار ثم عوفي منها, وقيل له: لا روع عليك. وذلك لصلاحه. غير أنه لم يكن يقوم من الليل, فحصل لعبدالله من ذلك تنبيه على أن قيام الليل مما يتقى به النار والدنو منها, فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك.  

وقد تكون الرؤيا الصالحة بشرى بأمور طيبة تحدث له في المستقبل فخالد بن عيد بن العاص, رضي الله عنه, كان بدء إسلامه: أنه رأى في المنام: أنه وقِفَ به على  شفير النار, فذكر من سعتها ما الله أعلم به, ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها, ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بحقويه ولا يقع, ففزع من نومه, فقال: احلف بالله إن هذه لرؤيا حق, فلقي أبا بكر بن أبي قحافة, فذكر له, فقال: أُريد بك خيراً, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه, فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام, وأبوك واقع فيها, فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسلم.

وأم المؤمنين جويرية بنت الحارث, رضي الله عنها, قالت: رأيت قبل قدوم النبي  بثلاث ليال, كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري, فكرهت أن أخبر به أحداً من الناس, حتى قدم رسول الله فلما سُبينا رجوت الرؤيا فاعتقني رسول الله وتزوجني.

وأم الشافعي لما حملت به, رأت كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر, ثم وقع في كل بلد منه شظية, فتأول المعبرون أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر, ثم يتفرق في سائر البلدان.

وعلى بن المديني, العالم بمعرفة الحديث والعلل, قال أبو قدامة السرخسي: سمعته يقول: رأيت فيما يرى النائم, كأن الثريا تدلت حتى تناولتها. قال أبو قدامة: فصدق في رؤياه, بلغ في الحديث مبلغاً لم يبلغه كبير أحد.

وختاماً فالعبرة ليست بالرؤيا, بل بالخاتمة,  قال الإمام ابن مفلح رحمه الله, في كتابه النافع المفيد " الآداب الشرعية " : قال المروذي: أدخلت إبراهيم الحميدي على أبي عبدالله وكان رجلاً صالحاً, فقال: إن أمي رأت لك كذا وكذا, وذكرت الجنة, فقال: يا أخي, إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا, وخرج سهل إلى سفك الدماء, وقال: الرؤيا تسرّ المؤمن, ولا تغره.

فلا ينبغي لأحد أن يغتر برؤيا  يراها, أو يراها غيره له, ومن ثم يزكي نفسه, أو غيره, بأنه من أهل الورع والصلاح, قال الحافظ الذهبي رحمه  الله في كتابه الكبير  " تاريخ الإسلام ": وهيب بن الورد, كانوا يرون له الرؤيا أنه من أهل الجنة. فإذا أخبر بها اشتد بكاؤه, وقال: قد خشيت أن يكون هذا الشيطان.

نسأل الله الكريم أن يعفو وأن يتجاوز عنا, وأن يحسن لنا الخاتمة.

                           كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 3
  • 1
  • 3,653

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً