حب الظهور
حب الظهور والتصدر مرض من أمراض النفوس، وآفة من آفاتها، فتجد الواحد يسعى للصدارة، ويتطلع للريادة، دائماً يريد أن يتقدم على غيره، وأن يترأس على غيره، وأن يكون هو الرئيس عليهم والمقدم فيهم...
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلاة وسلاماً على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فهذا فاتحة دروس تربوية في تزكية النفوس، وكم نحن بحاجة أن نزكي نفوسنا، إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الإنسان خلقه ظلوماً جهولاً، أي فيه الظلم والجهل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]، فالإنسان فيه صفة الجهل في المسائل العلمية، وفيه صفة الظلم في أموره العملية إن لم يزك نفسه بتقوى الله عز وجل، وعلى هذا المقصد العظيم خلقنا الله، خلقنا الله لنتدرج في منازل تزكية النفوس، لنسعى جميعاً في أن نزكي أنفسنا، نزكي عقائدنا وتصوراتنا، ونزكي أخلاقنا وسلوكنا، ونزكي عباداتنا ومعاملاتنا، قد أقسم الله عليها أحد عشر قسماً، فأقسم بالشمس، وأقسم بالضحى، وأقسم بالقمر، وأقسم بالنهار، وأقسم بالليل، وأقسم بالسماء، وأقسم بالأرض، بل وأقسم على هذه النفس أيضاً، فقال بعد أحد عشر قسماً {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]، فالفلاح كل الفلاح في تزكية هذه النفوس، والخيبة كل الخيبة - أيها الأخوة - أن تخسر نفسك؛ فلا تسعى في تزكيتها، فتتدنس أخلاقها، وتسوء عبادتها، وتنحرف فطرها، فتكون بذلك - والعياذ بالله! - قد دسيت نفسك، ولم تزكها.
أخي الكريم، إنك إذا أردت تزكية نفسك، فعليك أن تلتجئ إلى الله، وأن تتضرع إلى الله، كما التجأ إليه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان من دعائه: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها»، إنك إذا أردت أن تزكي نفسك فعليك أن تلجأ إلى منهج الكتاب والسنة، فهو منهج التربية الحقة، منهج مسلوك، جادة سلكها السلف الصالح رحمهم الله، فسمت أنفسهم، وارتقت أرواحهم، وتجملت أخلاقهم، وأخلصت لله عباداتهم، وكانت نفوسهم تقيةً زكيةً، لله عز وجل نقية، هذا المنهج هو الذي تزكي به نفسك {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
أيها الإخوة الكرام، لنستعذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإن النفس لها شرور وآفات، وأمراض، فأسال الله عز وجل أن يقيك شر نفسك، وأن يشفيك من مرض نفسك، وأن يقيك سيئات الأعمال، فإن أعمالنا فيها سيئات، وفيها تقصير، وفيها نقص، وسيئ الأعمال يؤثر بعد ذلك فيجلب سيئ الأعمال، والسيئة تأتي بالسيئة، إن لم تقف وقفة، فتحاسب نفسك وتراقبها، ثم تشارطها وتجاهدها، ثم تعاتبها وتحاسبها، حتى تسير لك إلى الله عز وجل.
وفي هذه الدروس - إن شاء الله - نقف مع دروس حول مداواة النفوس، كيف نداوي نفوسنا من شرورها؟ وكيف نسعى في علاج مرضها؟ وكيف نزكيها؟
المرض الأول: حب الظهور
أيها الإخوة، أول شر من شرور النفوس هو حب الظهور والتصدر.
تعريف المرض:
حب الظهور والتصدر مرض من أمراض النفوس، وآفة من آفاتها، فتجد الواحد يسعى للصدارة، ويتطلع للريادة، دائماً يريد أن يتقدم على غيره، وأن يترأس على غيره، وأن يكون هو الرئيس عليهم والمقدم فيهم، قد يظهر هذا المرض في بداياته في البحث عن الثناء، وطلب الشهرة، وهي الشهوة الخفية التي يطلبها كثير من الناس، البحث عن المدح، والبحث عن المنزلة في نفوس الناس، يقول الثوري رحمه الله، هذا الإمام العالم العابد الزاهد، يقول: " تجد الصالح يزهد في كل شيء، يزهد في المال، ويزهد في الطعام، ويزهد في المسكن، فإذا نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى"، مرض من أمراض النفوس، ومن الذي يسلم؟ إذا أردت أن تختبر نفسك أكثر، فلنتأمل هذا المرض.
علامات المرض:
فمن علامات وجود هذا المرض: أن يكون الإنسان كثير التزكية لنفسه، مع أننا ما أمرنا بهذا {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [سورة النجم: 32]، نهانا الله أن نزكي أنفسنا، وأن نثني عليها، سواء بيننا وبين أنفسنا، أو بيننا وبين الناس، لكن تجد هذا دائماً يمدح نفسه، ويزكي عمله، ودائماً تجد على لسانه الثلاثة القاتلة: أنا، لي، عندي، كثيراً ما يكررها؛ أنا كذا، ولي كذا وكذا، وعندي من المؤهلات كذا وكذا، فكثيراً ما يكرر هذه العبارات، وهذا دليل على أن المرض متأصل فيه.
من علامات هذا المرض: التضايق عند ذكر منجزات الآخرين، وأعمال الآخرين، فتجده يتضايق منها، ولا يريد أن تُذكر، ويحاول ما استطاع أن يشوهها، بل تجده كثيراً ما يتتبع سقطات الآخرين وعثراتهم، حتى ينشرها في المجالس، ويسقطهم لأجل أن يظهر هو، وأن يعلو هو، انظر لهذا المرض، كيف يجري بصاحبه كما يتجارى الكلب بصاحبه.
من ذلك أيضاً: أن الذي يحب الظهور والتصدر لا يتراجع عن الخطأ، ولا يقبل أبداً أن يعترف بخطئه؛ لأنه يرى في هذا نزول من مكانته التي وضع نفسه فيها، تجده كثيراً ما يستعجل في الأمور، يستعجل لكي تكون له الصدارة، وتكون له المكانة، لا يرضى أن يتأخر حتى يظهر غيره، أو حتى يتكلم غيره، بل هو كثيراً ما يستعجل.
ذم هذا المرض:
أخي في الله، إذا كانت هذه الأعراض فيك، فاسع لتزكية نفسك، اعلم أولاً أن هذا مرض، ليست صفة إيجابية، بل هي صفة سلبية جداً؛ جاء أبو ذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ يعني: تجعلني مسئولاً عن عمل، قائد فيه، متصدر في هذا العمل، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن ضرب بيده على منكب أبي ذر: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها، وأدى الذي عليه فيها» انظر كيف يوصيه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا تعرض نفسك لهذا الأمر؛ لأن من تولاه سوف يُسأل عنه، وعلى من تبعه فيه، ومقام السؤال يوم القيامة مقام عظيم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان والحاكم، قال عليه الصلاة والسلام: «ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا - يعني أطراف شعورهم - يُدلدلون بين السماء والأرض، وإنهم لم يألوا عملاً» وكم تكاثرت الأحاديث في ذم التقدم والتصدر، وتزكية النفس، لكن جاء في مدح هذا بعض النصوص الشرعية، فلنقف عندها قليلاً، لنفهم وجه المدح فيها.
منها قول يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، ومنها دعاء المتقين الصالحين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]، فكيف نفهم هذا؟.
أخي في الله، إن يوسف عليه السلام ما طلب الإمارة حتى اجتمعت فيه ثلاثة أشياء: أولاً: أنه كان كفؤاً لتحملها، وثانياً: أنه لم يوجد أحد أهل لأن يتولاها غيره، وثالثاً: أنه لم يكن معروفاً فيهم فأراد أن يعرّف بنفسه، فإن كنت كذلك فذاك شيء آخر، وإلا فالأصل ذم هذا الأمر وذم من طلبه وسعى فيه، وأما دعاء المتقين فهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين إماماً، لم يسألوا أحداً من الناس، والذم في هذه المسألة أن تسأل الناس أن يقدموك ويصدروك وتسعى في ذلك.
أسباب المرض:
أيها الأخوة، ما هي الأسباب التي جعلت كثيراً من الناس ابتلوا بهذا المرض؟ وبهذه الآفة؟
إن من الأسباب: أن بعضهم لا يرغب أبداً أن يتسلط عليه غيره، ولم يتعود أن يقوده غيره، ويوجهه غيره، فتجده دائماً يتطلع للصدارة، ولو أفسد، ولو خرب، ولو لم يكن أهلاً، ولو كان من هو أولى منه بهذا العمل متقدمًا فيه؛ لأنه لم يتعود أصلاً أن يُسلط عليه غيره أو أن يوجهه غيره.
إن من أسباب هذا المرض: أن يظن أن الصدارة تشريف وليست تكليفاً، فيظن أنها شرف ومكانة أن يكون هو المقدم، فيسعى لحظ الدنيا، ويسعى لجمع وجوه الناس إليه، ويسعى لطلب خدمتهم له، فيظنها تشريفاً وهي والله تكليف عظيم، سوف يُسأل عنه وعن كل واحد تحته ممن وليه، كيف شبع ولم يشبعوا، وكيف علم ولم يعلموا، وكيف ضلوا ولم يهتدوا، وهو مسئول عنهم؛ إنها المسئولية - أيها الأخوة - «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولة يده إلى عنقه» كل من تصدر سيأتي يوم القيامة على هذه الصفة ( مغلولة يده إلى عنقه ) نسأل الله السلامة! «فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة» هكذا يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ويقول كما عند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة»!.
أخي في الله، التصدر ليس فقط في أمور الدنيا، بل أخطر من هذا، وأعظم التصدر في أمور الدين، مسئولية عظيمة يوم القيامة، هنيئاً لمن كان أهلاً لها، ويا ويح ويا ويل من تقدم لها، ولم يكن لها بأهل {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
أيها الأخوة، إن من أسباب حبنا للتصدر، وحبنا للتقدم، وحبنا للظهور: كثرة المدح والإطراء، تتكلم كلمة فيمدحك الناس، ويثني عليك هذا، وتظن أن هذا من الحسنات، واللهِ كأنهم ذبحوك بسكين، ما تتصدر في شيء إلا يمدحك هذا، ويثني عليك ذاك، وما تتكلم في شيء إلا ويمدحك هذا ويثني عليك ذاك، فتسعى نفسك للمدح، وتنسى الثناء من الله، وتريد مدح الناس وثناءهم - والعياذ بالله! - قد أمرنا عليه الصلاة والسلام، فقال: «إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب»، (رواه مسلم عن المقداد رضي الله عنه)، إذا جاء الإنسان يمدحك، مباشرة اذهب إلى التراب وحثه في وجهه، شرده منك، فإنه يذبحك وأنت لا تشعر، يذبح دينك وإيمانك وتقواك، فتكون بعد ذلك تسعى إلى أن تسمع مدحه، وتنسى أن تسعى لنيل الأجر من الله والثناء من الله.
آثار المرض:
أيها الأخوة، إن لحب التصدر والظهور آثار كثيرة، فمنها: أن يُحرم العبد التوفيق والتسديد من الله، فيوكله الله إلى نفسه؛ لأنه هو الذي أراد هذه المنزلة، وهو الذي سعى فيها، فيتركه الله عز وجل، ومن لك إلا أن يهديك الله ويسددك، يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها» فالذي يتطلع لهذه الأشياء قد ينالها، لكن سيفقد بعدها توفيق الله وتسديده.
إن من آثار ذلك: وقوع الفتن بين الناس، فهذا يريد يتصدر، وهذا يريد يتقدم، وذاك يريد يترأس، وفيهم من ليس أهلاً، فإذا بهم يقعون في الفتنة، فيتسلط بعضهم على بعض، ويحقد بعضهم على بعض، ويحسد بعضهم بعضاً، ويتنازعون على الدنيا، ويتنازعون على شيء من أمور الدين، فيكثر بينهم السباب، والفرقة، والخلاف، ويضل الناس السبيل، ليس لأن الدين ليس بالواضح البين السمح، لا، لكن لأن هؤلاء - للأسف - ما زكوا أنفسهم، فكم سيكون عليهم من الإثم يوم القيامة؟.
علاج المرض:
أيها الأخوة، لنعالج هذا المرض في أنفسنا، ومن ذا الذي منا يسلم؟! لكن منا من قلّ عنده، ومنا من زاد، وعلينا بالعلاج، وأعظم العلاج أن تربي نفسك على الطاعة، وهضم النفس منذ الصغر، لا ترى نفسك شيئاً، لا تزكيها، لا تتعاظم في نفسك، أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، فلا تتحدث مع نفسك أنك مهم وكبير، لا، {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}، رحم الله أبا بكر الصديق، كان يخرج لسان نفسه، ويقول: " هذا الذي أوردني الموارد " رحم الله عمر كان يجر لحية نفسه، ويقول: " لتتقين الله يا عمر، أو ليعذّبنك الله "، رحم الله عثمان، كان يقول في نفسه: " لو أخبرت أن الناس دخلوا جميعاً الجنة إلا واحداً لخفت أن أكون أنا، ولو دخلت رجلي اليمنى الجنة، لخفت ألا تدخل اليُسرى، ومن لي بآدم، وهو نبي، كان في الجنة، ثم أخرج منها "، يقول ابن القيم: "ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه _ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: مالي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيراً ما يتمثل ب-: أنا المكدِّي وابن المكدي، وهكذا كان أبي وجدي.
وكان ابن تيمية رحمه الله إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً.
وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريــــــــــــــــات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتــي
أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتــــــي *** والخيرُ إن يأتِنا من عنده ياتـــــــي
لا أستطيع لنفسي جَلب منفعــــــــةٍ *** ولا عن النفس لي دفع المضــــراتِ
وليس لي دونه ربٌّ يدبرنـــــــــــــي *** ولا شفيعٌ إذا حاطت خطيئاتــــــي
إلا بإذن من الرحمن خالقِنـــــــــــــا *** إلى الشفيع كما قد جا في الآيــــاتِ
ولست أملك شيئاً دونه أبـــــــــــداً *** ولا شريكٌ أنا في بعــــــــــض ذراتِ
ولا ظهير له كي يستيعن بـــــــــــه *** كما يكون لأرباب الولايـــــــــــــــاتِ
والفقر لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبـــــداً *** كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتـــــــــــي
وهذه الحالُ حال الخلقِ أجمعهــم *** وكلهم عنده عبد له آتــــــــــــــــــــي
فمن بغى مطلباً من غير خالقــــــه *** فهو الجهول الظلوم المشرك العاتـي
والحمد لله ملءُ الكون أجمعــــــه *** ما كان منه وما مِنْ بَعْدُ قد ياتــــــي
فلا تزك نفسك، ربِ نفسك من البداية على هضم النفس، وعلى طاعة الله، وطلب الثناء من الله سبحانه وتعالى «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة».
أخي، إذا أردت أن تنجو من هذا المرض، فاعلم أن الدنيا حقيرة في جنب الآخرة «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع»؟! كم ستأخذ من البحر إذا وضعت إصبعك؟ قطرة، قطرتين، ما الدنيا في الآخرة بشيء، فالثناء الحقيقي هو ثناء الله، والنعيم الحقيقي هو نعيم الجنة، فلا تغرنك الدنيا، ولا تخدعنك زهرتها، وانظر إلى أولئك الذي سادوا وقادوا، لكنهم ما أرادوا يوماً التصدر ولا الظهور؛ هذا الأقرع بن حابس يدخل على أبي بكر الصديق، وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كان رجلاً كريماً حيياً طيب القلب، فدخل عليه الأقرع بن حابس، ومعه رجال، فأعطى كل واحد منهم أرضاً، يتألف قلوبهم للإسلام، لأنهم من رؤساء أقوامهم، وهو في هذا يتبع سنة الرسول صلى الله علي وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أعطى أمثال هؤلاء مائة من الإبل، وأبو بكر إنما يستن بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فأعطى كل واحد منهم أرضاً، فخرجوا فلقوا عند الباب عمر بن الخطاب، فقال لهم: ماذا أعطاكم أبو بكر؟ فقالوا: انظر كتب لكل واحد منا أرضاً، فما كان من الفاروق عمر الذي فرّق الله به الحق من الباطل إلا أن أخذ الأوراق ومزقها، وقال: ليس لكم شيء، كنا نعطيكم حين كان الإسلام ضعيفاً نتألفكم للإسلام، وأما اليوم، فإما أن تسلموا وإما السيف، فدخلوا على أبي بكر الصديق يريدوا أن يفتنوا بينهما، لكن انظروا للذين زكوا أنفسهم، دخلوا على أبي بكر، فقالوا: يا أبا بكر، ما عرفنا، من هو الخليفة أنت أم عمر؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: " بل عمر - إن شاء - " سبحان الله!، فدخل عليه عمر، فقال: " يا أبا بكر، تعطيهم كذا وكذا وكذا؟ "، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنه: " يا عمر، أما قلت لك، اجلس في مكاني هذا وتول الخلافة، فأبيت! " الله أكبر! ما أجمل هذه النفوس عندما لا تريد إلا وجه الله سبحانه وتعالى! لا تريد الشهرة، ولا الثناء، ولا المدح، ولا المناصب، ما يريدون إلا وجه الله، وعمر لما طُعن رضي الله عنه جعل الخلافة بين ستة، فجاءه المغيرة بن شعبة، فقال: " يا عمر، ألا تجعلنا في ابنك عبد الله بن عمر؟ " وعبد الله هو عبد الله رضي الله عنه في الزهد في العبادة، فقال: " اسكت، ما أردتَ بهذا وجه الله، والله ما أحببتها لنفسي حتى أحبها لابني، والله إن كانت خيراً فقد أصبنا منه، وإن كانت شراً فكفانا أن يُحاسب رجلٌ واحد من بيتنا، يُسأل عن أمة محمد"، انظر كيف يرون هذه المسئولية أنها أمانة، وتكليف، وسؤال يوم القيامة.
أيها الأخوة، إن من العلاج أن نربي طلابنا الصغار على عدم التطفل، والبحث عن الشهرة والمسئولية والظهور، انتبه لهؤلاء المتربين، فإن رأيت منهم حباً للمدح والثناء وطلباً للتصدر، فاكسر نفوسهم، بتقوى الله، وهذّب أخلاقهم بطلب ما عند الله سبحانه وتعالى، وليكن شعارك [ إنا لا نعطي هذا الأمر من سأله، ولا من حرص عليه ]، فمن رأيت منهم يسأله أو يحرص عليه، فاحجبه عنه، وزكِ نفسه بالعبادة والطاعة، واطلب ما عند الله من الأجر والثناء.
أيها الكرام، كم نحن بحاجة إلى أن نداوي أنفسنا، وأن نعالجها، قبل أن تستشري بنا الأمراض، وتأفك بنا الآفات، ولعلنا إن شاء الله في الدرس القادم نقف مع آفة أخرى من آفات النفوس.
نسأل الله عز وجل أن يزكي نفوسنا ونفوسكم، اللهم زكِ أنفسنا، اللهم وآتنا التقوى..
_________________________________________________________
الكاتب: د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري
- التصنيف: