ماذا يعني انسياقُ الشباب وراء العولمة الأخلاقية؟!
عندما أدركتْ أمريكا والدول الغربية أنّ الأفكار المعادية للدين والمعاندةَ له قد سقطت، راحت تلوذ بسلاح أكثرَ استهواءً هو إشعال الغرائز، بحملات محمومة، وسيل جارف من المثيرات المنحطة التي تتغيّا قتلَ المرُوءة، ولا سيما عند الشباب
عندما أدركتْ أمريكا والدول الغربية أنّ الأفكار المعادية للدين والمعاندةَ له قد سقطت في حومة صراعها مع الحق الذي أثبتت الأحداثُ - بعد النصوص - صدقَه، راحت تلوذ بسلاح أكثرَ استهواءً، ولعله - آنيا - أشدُّ مَضاءً، ذاك هو إشعال الغرائز، بحملات محمومة، وسيل جارف من المثيرات المنحطة التي تتغيّا قتلَ المرُوءة، ولا سيما عند الشباب، قوةِ المجتمعات، وعصبِ التغيير والبناء.
ولما كان التصورُ الإسلامي عن الحياة الدنيا مغايرًا للتصورات الكافرة، والغربية - بخاصة - عنها، فقد كان من الطبيعي أن ينهج المسلمُ تجاهها نهجًا يناسب وصفها بدار عبور إلى الآخرة، وفرصة للفلاح في الدار الخالدة... ففي الوقت الذي قامت فيه الحضارةُ الغربية الحديثة على تقديس الحرية الشخصية، وتمجيد الفرد، وتمكينه من نيل أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية...، قامت حضارتُنا على النظرة إلى الفرد المسلم على أنه جزء فاعل في جماعة، وإلى المتع المباحة على أنها بُلْغة إلى العيش الحلال، وسبيل للتقوّي على الطاعة.
ولهذا فإن الضرر الذي يلحقه الانجرارُ وراء الشهوات المحرمة - التي تُلوِّح بها الحضارة الغربية - بالمسلمين ومجتمعاتهم أشدُّ فتكا منه في المجتمعات الغربية نفسها؛ ذلك أنه يخلخل قيمنا والبنية الخاصة لأمتنا وأنساقها المحددة... ولا يحدث مثل هذا الضرر في المجتمعات التي بنيت على الفساد من أول يوم.
خلفيات المشكلة ومظاهرها:
لقد أدى وقوع العرب تحت التأثير الغربي المباشر - من خلال الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798م والغزو الثقافي لعقول المسلمين - إلى شعور قسم من المفكرين بهزة قوية، وقفت أمامهم الحضارة الغربية مثالا غالبا، أولع المغلوب بتقليده، وظهر ذلك التأثير في مظهرين، أحدهما أوضح من الآخر، وهو الداعي إلى (التباهي) في ثقافة الغرب، يمثله طه حسين ولطفي السيد وغيرهما، والآخرُ لم يجهر بما جهر به الأول، ولكنه همس محاولا التوفيق بين ثقافة الأمة والثقافة الجديدة، وأبرزهم رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما. وقد خطّ كل فريق له في مستقبل الفكر العربي خطا ممتدا؛ لكن الواقع أعضل الفريقين وأعياهما؛ فلا العرب قبلوا الاندثار أو الانحلال، ثم التشكل، ولا محاولاتُ التوفيق أفلحت في إحداث التقارب مع الغرب، أو في إنهاض العرب.
وأنتجت هذه الحالة الصعبة والخطرة معا، ضياعا وفراغا تحياهما الشعوب العربية اليوم، تجلى في فئة الشباب، في وقت استأثرت فيه المؤثرات الغربية بالنصيب الأوفر من التأثير الفاعل المنظم بتقنية عالية، وراحت آلة العولمة الثقافية والإعلامية تحرث في أرض العرب؛ فتقطع تلك الجذور السطحية، وتعزق فيها من بذورها.
والآن تحل في أوساطٍ من شباب المسلمين قيم الحرية الشخصية بمفهومها الغربي محل الحفاظ على الشرف والعرض، وتأتي النفعية الفردية والمداجاة والتذبذب مكان الروح الجماعية والأنفة، وغلبت عليهم ثقافة عدوانية قاسية بدلا من التراحم ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف وقرى الضيف... وقد كان للأنظمة الاقتصادية والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تفرزها نظمٌ سياسية حاكمة أثر واضح في تكوين تلك الصفات السلبية التي تنزلت من البعض منزلة الطباع!
أفرزت تلك الحالة لدى البعض شعورًا بالإحباط تسرب إلى النماذج والقدوات؛ فانسحب جمهرة من الآباء والمربين من مسؤولياتهم، وتخلوا عن أدوارهم؛ فاستبدت بالأبناء مؤثراتُ الإعلام الغربي والتابع له، فملأت الفراغ، وأصبح التلفاز والإنترنت والفيديوكليب آباء وأمهات، يملؤون لهم فراغهم المعرفي والعاطفي، ولم ترحم تلك الوسائل، أو تقتصد، بل أسرفت وأفرطت، وتسارعت وتائر التغريب وتصاعدت جرعاته.
العولمة الأخلاقية:
ليس من أهداف هذا المقال الاستفاضة في مصطلح العولمة، ولا بيان أنواعها، فقد أنفق فيها وقت طويل، وسُوِّدت من أجلها ألوف الصفحات... غير أن ما يهمنا هو تسليط بعض الضوء على ما يمكن أن يسمى بعولمة الأخلاق، وبيان تناقضها مع هوية الأمة، والآثار الظاهرة منها.
والخطورة فيها أنها تسعى إلى تجريد المسلم من خصائصه بجعله بحسب تعبير البعض "الإنسان الطبيعي" الذي يفسره الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنه إنسان يتسم بسمات عامة "أضيفت" إليها الحضارة، أي أنها ليست أصيلة فيه، وبذلك تتحول الهوية إلى مسألة مضافة آليا، مجرد زخرفة، وهكذا يصبح المشروع الإنساني هو العودة إلى الإنسان الطبيعي متجاوزين الزخارف الإضافية. فالعولمة هي في جوهرها العودة إلى هذا الإنسان الطبيعي الذي لا يعرف الحدود ولا الهوية ولا الخصوصية، وليس عنده أي إدراك أو اكتراث بالقيم الأخلاقية والمعنوية مثل الكرامة والارتباط بالأرض والوطن والتضحية. [عبد الوهاب المسيري: أسئلة الهوية - الجزيرة نت].
ويلخص كاتب فرنسي بعض الآثار المرّة الناجمة عن العولمة ومنها آثار نفسية وأخلاقية بقوله: "فكلما ازداد هذا النظام الرأسمالي الجشع إمعانًا وانتشارًا بالعولمة، ازدادت الانتفاضات والحروب العرقية والقبلية والعنصرية والدينية للتفتيش عن الهوية القومية في المستقبل. وكلما تَفَشَّت المعلوماتية والأجهزة التلفزيونية والسلكية واللاسلكية، تكبلت الأيدي بقيود العبودية، وازدادت مظاهر الوحدة والانعزال والخوف والهلع من غير عائلة ولا قبيلة ولا وطن. وكلما ازداد معدل الحياة سوف تزداد وسائل القتل، وكلما ازدادت وسائل الرفاهية سوف تزداد أكثر فأكثر جرائم البربرية والعبودية" [ما العولمة - محمد جلال العظم - وحسن حنفي، ص20].
ويشترك هذا القول في بعض جوانبه مع قول ابن خلدون من قبل: "وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلونت أنفسُهم بكثير من مذمومات الخُلُق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه" [مقدمة ابن خلدون].
ولكننا لا نذهب مذهبه على إطلاقه؛ إذ ثمة عوامل فكرية أخرى تتحكم في همة الإنسان رقيا وانحطاطا، غير أننا لا ننكر أثر التنعم الزائد، والنمط الاستهلاكي -ولا سيما حين تضعف الملكات الفكرية- في الإفساد والترهل المعنوي والمادي.
وينبغي تأكيد واحدة من مخاطر العولمة الثقافية التي تضمنها كلام الكاتب الفرنسي، وهي الخطر الأخلاقي والاجتماعي ويتمثل في سلوك العزلة، حيث يتهتك النسيج الاجتماعي، وتحل محله العلاقة بالأشياء، مثل التلفاز والإنترنت.
تساؤل وتصويب:
إذا كنا - نحن المسلمين - لسنا مثل الغربيين، ولا نستطيع أن نكون مثلهم ولا منهم، فماذا سنكون، إن لم نكن أنفسنا؟! وماذا يعني استهداف الجانب الخلقي؟
لعل الجهود العجيبة المفرطة التي يقومون بها لتدمير الخلق تشي بأهمية هذا الحصن المهدد؛ لأنه باختصار، الإنسان، وماذا بعد خسران الإنسان، أو الشاب؟!
لقد عمل الأمريكان على إدخال أفلام الجنس إلى غرف نوم المسلمين، إذ ترافق احتلالهم للعراق وشيوع هذه المظاهر، بالإضافة إلى ترويج المخدرات؟!
"ولقد انتشرت في العراق ظاهرتان: الأولى ظاهرة المخدرات، والثانية ظاهرة شرائح الدي في دي. المادتان، مواد التخدير، ومادة الأفلام على الشرائح ومنها الأفلام الجنسية... وكذلك شرائح لأفلام العنف وأفلام روائية فاضحة تباع في الأسواق العراقية بطباعة أنيقة ونوعية صورة جيدة، بمعنى أنها مطبوعة عبر ما يطلق عليه (Glass Master) وليست مستنسخة بالأسود عبر الشرائح المتداولة في السوق. وسعر هذه الشرائح دولاران فقط، وارتفع سعرها في السنة الأخيرة 2007 إلى أربعة دولارات. وإذا ما تأملنا أسعار هذه الشرائح وهي موجودة ضمن علب بلاستيكية أنيقة ومغلفة بغلاف ملون، فإن طباعتها مع قيمة الشريحة الخام مع الغلاف الملون واللاصق الداخلي على الشريحة، مضافا إليها السلفنة، ثم عمليات الشحن بطريقة غير مشروعة (التهريب) عبر البحار ودفع الرشوات لإمرارها من المراكز الحدودية ضمن فوضى الواقع السياسي في العراق، عملية غير اقتصادية للمنتج بل هي عملية خاسرة، فلماذا تصدر هذه الثقافة للعراقيين؟ ومن يقف وراءها؟ ولأي هدف؟" [الجزيرة الثقافية، 23/7/2007، العدد (208)، ثقافة الوافدين.. ثقافة الغد الآتي، قاسم حول].
وقد صدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].
قد يكون الانزلاق الذي يعتري أعدادا من الشباب فيما يسمى بفترة المراهقة، أمرا متوقعا، ومحتاجا إلى نوع من العلاج الاعتيادي الدائم. غير أن الخطورة تتجلى حين تبدأ هذه الانحرافات تقترب من أن تصبح ظاهرة في الشباب، والسؤال المهم: ما الأسباب التي تؤدي إلى انزلاق الشباب إلى تلك المسالك الخبيثة والتردي في تلك الأوحال من الرذيلة؟
ولعل من الأسباب التي تؤدي إليها الشعور بالحرمان العاطفي وفقدان الدفء الأسري. وأيضا الشعور بالإحباط العام الناتج عن انسداد الأفق، وعدم القدرة على تحقيق الطموحات الشخصية.
ولا يقل عن ذلك خطرًا الشعورُ بالإحباط الناجم عن الهزائم والتراجعات السياسية للأمة، وقد حرصت أمريكا والدول الكافرة على إظهار المشاهد المؤلمة في الإعلام التي تمعن في تسليط الأضواء على الانتهاكات لمقدسات المسلمين وأعراضهم، كما تعمدت الإفراط في الإهانات المتلاحقة للإسلام وللقرآن الكريم ولرسوله المصطفى - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - وكأنها تبغي من ذلك تجريع المسلمين الإهانة بعد الإهانة في أعز عزيزهم وأفخر مفتخراتهم؛ بغية توطين الشعور بالانكسار، واستمراء الذل، وتصديع البِنى المقدسة العميقة القارَّة في نفوس المسلمين بوصفهم أمة من دون الناس.
أما الإحباط فلا ينبغي له أن يكون؛ لأن المسلم يعي حقيقة دينه، وأن هذا التراجع لا يعدو كونه استثناء عن الوضع الطبيعي لهذه الأمة التي ما زالت بالرغم من ضعفها ثابتة أمام الرياح العاتية السَّموم التي لو تعرضت لها أمة سواها لفنيت عن آخرها، ومع ذلك فما زالت الأمة تتصدى وتقاوم وتصد وتلتئم، وعلينا أن لا نغفل أن المرض الذي يعانيه المسلمون اليوم -وهو الوهن الناجم عن حب الدنيا وكراهية الموت، والشوائب التي اعترت إيمان الناس وأفكارهم- لا يشفون منه دفعة واحدة، وقد بدؤوا يتماثلون منه للشفاء، إذ هو نتيجةٌ لتعرضهم لتلك الآثار المدمرة الناجمة عن عقود من الجهل والاستعمار، الذي أثر -مع الأسف الشديد- في طرائق تفكيرنا، وحتى في نظرتنا إلى أنفسنا، وذلك جعل البعض ينظر إلى أمته نظرة دونية... فليس مستغربا -والحالة هذه- أن ترى أعراض المرض ماثلة على المسلمين، غير أنه يلزم الانتباه إلى الدور الخطير الذي تقوم به وسائل الإعلام الغربية غير البريئة؛ إذ تتحكم في رؤيتنا للعالم وتعمل -عن تقصّد ووعي- على تشكيل صورة سلبية منتقاة وشديدة التركيز، بل التضخيم لتلك المساوئ والتراجعات التي تعتورنا، وفي المقابل تعمل على طمس النماذج المشرقة، مثل ظاهرة المقاومة، وغيرها من دلائل النهوض والصحوة التي تحياها الأمة في المشارق والمغارب،بل إنها تعمل على تشويهها، لتصبح في نظر الجهلة والمضللين سُبَّة بدلا من أن تكون مفخرة وحافزا.
هذا، والبعد الاقتصادي في العولمة؛ يكاد يكون وراء كل نشاطات العولمة الأخرى أو مظاهرها؛ إذ يقوم إفلاس العولمة الأخلاقي والفلسفي على اختزال كل وجه من أوجه حياتنا إلى مجرد سلعة واختزال شخصياتنا إلى مجرد مستهلكين يُجوّلون في سوق، حدودُه تتسع لتشمل الكوكب كله. ولا أظن مسلما يقبل أن يرخص نفسه؛ لتغدو في نظر الغربيين مجرد سلعة، أو شيء يروجون به سلعهم المفسدة التي تضر ولا تنفع؛ فيصيبون بذلك عصفورين بحجر، ثم يكون هذا على حساب القيمة الإنسانية العالية التي شرف الله بها الإنسان، ولا سيما المسلم، ورفعه إليها.
وقد تضافرت النصوص الشرعية التي تعلي من شأن الخُلُق، وتبين مكانته في الشريعة الإسلامية ودوره في بناء شخصية المسلم، وتحذر من تضييعه؛ قال عزَّ مِن قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وعنه عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا».
وفي الختام أقول:
إنه كما خاب سعيهم، وطاشت سهامهم الفكرية، فإن سهامهم المبنية على إفساد الغرائز ستخيب، بعون الله، بل، إنها بدأت؛ ذلك أنها أقل دهاء، وأكثر افتضاحا من سابقتها؛ إذ في التضليل الفكري يتوهم المضلَّل أنه على الحق؛ فيقارع، متحديا، أهل الحق، ومن أشق الأمور تغيير عقلية الإنسان، وطرائق تفكيره. أما في الخراب الخلقي فإن المنزلِق يعلم في قرارة نفسه انزلاقه ويستشعر تعاسته وقلقه؛ فلا يعدو انزلاقه نزوة لا تلبث أن تغادر، وهو يمقتها، في الأول والآخر، وبكلمات أخرى: ما داموا قد لاذوا بهذا السلاح المكشوف فإن أيامهم معدودة.
___________________________________________________
الكاتب: د. أسامة عثمان
- التصنيف: