لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ (1)
قال ابن القيم: وختم حكم الفيء الذي هو الرجوع والعود إلى رضا الزوجة والإحسان إليها بأنه غفور رحيم يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
{{لِّلَّذِينَ}} اللام يحتمل أن تكون للإباحة؛ ويحتمل أن تكون للتوقيت؛ يعني: أنه يباح للمولين أن يتربصوا أربعة أشهر؛ أو أن لهم وقتاً محدداً بأربعة أشهر {{يُؤْلُونَ}} يحلفون، من الألية وهي اليمين، والإِيلاء: الحلف، مضارع آلى يؤلى إذا حلف.. وأياما كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية صار حقيقة شرعية في هذا الحلف على الوصف المخصوص بعدم وطء الزوجة.
وكان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلا بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
وعن سعيد بن المسيب: "كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألا يقربها مضارة للمرأة" أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم. قال: "ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى".
{ {مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ}} انتظار، فهو انتظار حصول شيء لغير المنتظر {أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} ابتداءً من إيلائهم، قيل: وحكمه ضرب أربعة أشهر، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج {فَإِنْ فَاؤُوا} رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ} والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، مأخوذة من «المغفر»؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب لاتقاء السهام؛ وفي المغفر تغطية ووقاية {رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم.
قال ابن القيم: وختم حكم الفيء الذي هو الرجوع والعود إلى رضا الزوجة والإحسان إليها بأنه غفور رحيم يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه، والجزاء من جنس العمل، فكما رجع إلى التي هي أحسن رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة.
وذهب الجمهور إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته، فيكون الغفران هنا إشعاراً بإسقاط الإثم بفعل الكفارة.
والمعنى: أي فحنثهم في يمين الإيلاء، مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم. وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن قصد الإضرار بالمرأة.
وقد يكون الإيلاء مباحا إذا لم يقصد به الإضرار، ولم تطل مدته: كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعا، غير قصد الإضرار المذموم شرعا.
وقد آلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسائه شهرا، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.
وأما جواز الإيلاء للمصلحة: كالخوف على الولد من الغيلة [الجمع أثناء الرضاعة]، وكالحمية من بعض الأمراض في الرجل والمرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم، واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمر، إن لم يقيدوها بالحلف.
{{وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ}} وإن لم يفيء إلى وطئها وأصرّ على ذلك فإن على القاضي أن يوقفه أمامه ويطالبه بالفيء فإن أبى طلقها عليه، ومن الفوائد: أن الطلاق لا يقع بمجرد تمام مدة الإيلاء {فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
والحاصل أن الإِيلاء هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة، فإن كانت أقل من أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعا عن الوطء، إلى أن تنتهي مدة الحلف، إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن يمينه، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفيء إلى زوجته ويكفر عن يمينه أو تطلق عليه وإن كان ساخطا غير راض.
{{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}} يلبثن وينتظرن، مخصوص بالمدخول بهن الحيّض ذوات الأقراء، لأن حكم غير المدخول بها، والحامل، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء. وقد بين حكمهن في سورة الطلاق.
والآية عطف على الآية قبلها، لشدة المناسبة، وللاتحاد في الحكم وهو «التربص»، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة... والآية خبرية مراد بها الأمر، قال البلاغيون: إذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك توكيداً له؛ كأنه أمر واقع صح أن يخبر عنه.
{{بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}} جمع قَرْء بفتح القاف؛ وهو الحيض على أرجح القولين؛ وهو رأي الجمهور؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المستحاضة: (تجلس أيام أقرائها) أي حيضها.
قال أحمد: كنت أقول القرء الطهر، وأنا الآن أذهب إلى أنه الحيض.
ومن قال: إن القرء الحيض يقول، إذا طلقت في طهر لم توطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ثم تغتسل، فبالغسل تنقضي العدة.
ومن قال: إن القرء الأطهار، يعتد بالطهر الذي طلقت فيه.. فروي عن زيد، وابن عمر، وعائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها، ولا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وذلك أن هؤلاء يقولون بأن القرء هو الطهر، فإذا طلقت في طهر لم تمس فيه، اعتدت بما بقي منه، ولو ساعة، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة، ثم ثالثاً بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة بأوّل نقطة تراها.
قال ابن عاشور: ومرجع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة، وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة، من حمل المطلق، وانتظار الزوج لعله أن يرجع. فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظارا للرجعة.
لو طلقها في أثناء الحيض لم يحتسب بالحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ وجهه: أن الحيض لا يتبعض؛ فتلغى بقية الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ ولا بد لها من ثلاث حيض جديدة؛ وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدتها ثلاثة قروء وبعض القرء؛ وهو خلاف النص.
ومن فوائد الآية أن المطلقة البائن عدتها ثلاثة قروء؛ لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ}؛ فيشمل حتى البوائن؛ وهو قول جمهور العلماء؛ حتى لو كانت بائناً بالثلاث؛ فإنها لا بد أن تعتدّ بثلاثة قروء.
والآية مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء، بما ثبت في السنة: أن عدة الأمة حيضتان، رواه أبو داود والترمذي.
{{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}} من أجنة بالحمل، أو الحيض، تقول لست حائضاً وهي حائض، أو حضت وما حاضت، لتطويل العدة أو لاستعجال الفرقة.
ودلت الآية على أنهن مؤتمنات على ذلك، ولو أبيح الاستقصاء لم يمكن الكتم؛ وقال سليمان بن يسار: لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهنّ، ولكن وكل ذلك إليهنّ، إذ كنّ مؤتمنات.
وقال ابن عاشور: وليس في الآية دليل على تصديق النساء، في دعوى الحمل والحيض، كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء، فلابد من مراعاة أن يكون قولهن مشبها، ومتى ارتيب في صدقهن، وجب المصير إلى ما هو المحقق، وإلى قول الأطباء والعارفين.
وقال ابن عثيمين: فإذا ادعت أن عدتها انقضت، وكان ذلك في زمن ممكن فإنها تصدق؛ وهي مؤتمنة على ذلك؛ أما إذا ادعت أن عدتها انقضت في زمن لا يمكن فإن قولها مردود؛ لأن من شروط سماع الدعوى أن تكون ممكنة؛ ودعوى المستحيل غير مسموعة أصلاً.
{{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}} شرط أريد به التهديد دون التقييد، والمراد بـ {اليوم الآخر} يوم القيامة؛ وإنما سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا يوم بعده؛ فالناس إذا بعثوا يوم القيامة فليس هناك موت؛ بل إما خلود في الجنة؛ وإما خلود في النار؛ وذكر اليوم الآخر؛ لأن الإيمان به يحمل الإنسان على فعل الطاعات، واجتناب المنهيات؛ لأنه يعلم أن أمامه يوماً يجازى فيه الإنسان على عمله؛ فتجده يحرص على فعل المأمور، وترك المحظور.
{{وَبُعُولَتُهُنَّ} } أزواجهن، سمي بعلاً مع أنه مُطلِّق؛ لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني.. والبعل اسم زوج المرأة. وأصل البعل في كلامهم (السيد) وهي كلمة سامية قديمة، فقد سمى الكنعانيون "الفينيقيون" معبودهم بعلا قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات:125] وسمي به الزوج لأنه مَلَك أمر عصمة زوجه، ولأن الزوج كان يعتبر مالكا للمرأة، وسيدا لها، فكان حقيقا بهذا الاسم، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام، فما بعده من الشرائع، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف، فأطلق العرب لفظ الزوج على كل من الرجل والمرأة، للذين بينهما عصمة نكاح، وهو إطلاق عادل؛ لأن الزوج هو الذي يثني الفرد، فصارا سواء في الاسم، وقد عبر القرآن بهذا الاسم في أغلب المواضع، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله: {{وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} } [هود:72]، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة، نحو قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء:128] وهاته الآية كذلك، لأنه لما جعل حق الرجعة للرجل جبرا على المرأة، ذكر المرأة بأنه بعلها قديما.
{{أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}} أي ذلك التربص ما دامت في مدة عدَّتها، ولو بدون رضاها، والتفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق: هما حق الزوج إن رغب فيها، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها، فصار المعنى: وبعولتهن أحق برد المطلقات، من حق المطلقات بالامتناع، وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز.
حتى قيل الرجعية زوجة بدليل أنها لو مات يرثها زوجها ولو مات ترثه. وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته، ويشكل على قولهم أن عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قضى لها بالميراث إذا مات مطلقها وهي في العدة؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف، بموافقة علي، رواه في "الموطأ"، فيدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث، فما لم تنقض العدة، فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء، فصار ذلك شكا في مانع الإرث، والشك في المانع يبطل إعماله.
وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم؛ لقوله تعالى: {{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}} [الطلاق:1]، أي أمر المراجعة، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء.
{{إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً}} شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح، وليس هو للتقيد. بل على شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} على الزوجة حقوق لزوجها، ولها حقوق على زوجها، وقيل: المماثلة في تقوى الله فيهنّ، كما عليهنّ أن يتقين الله فيهم.
وهذا من بديع الكلام، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل التركيب «ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ»، فحذفت «على أزواجهنّ» لإثبات: عليهنّ، وحذف «لأزواجهنّ» لإثبات لهنّ.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: