لا تبطلوا أعمالكم، كالتي نقضت غزلها

منذ 2022-07-07

قد علم المؤمنون الصادقون غايةَ وجودهم في هذه الدُّنيا، فلم يغفلوا عن ربِّهم القائل - سبحانه -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]...

الحمد لله على نعمة الإسلام، نشكره - سبحانه - أنْ جعلنا من أمَّة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، فرض علينا النصح لكل مسلم، ونهانا عن ارتكاب الآثام، وعد الصالحين بالخُلُود في جنة دار السلام، وتوعَّد الفجرة الجاحدين بالنَّار دار الانتقام، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القائل: «... ومن وقع في الشُّبهات، وقع في الحرام»، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعي التابعين بإحسان إلى يوم الزحام.

 

أمَّا بعد:

أيها المسلمون والمسلمات، ضرب الله لنا مثلاً في القرآن - نحن أمةَ الإسلام - في ألا نبطل أعمالنا، وذلك بذكر قصَّة "ريطة بنت عمرو" المرأة الحمقاء بمكَّة، التي كانت تغزل الصوف وجه النهار بقوة، ثم تنقضه آخره؛ قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92].

 

عبادَ الله:

ليس الدِّين أن تعبدوا الله كما تريدون، وأنتم عن حقيقة العبادة وسرِّها غافلون، وليس من الطَّاعة لله أنْ تعبدوه أيامًا، ثم تتخلوا عنها شهورًا وأنتم مُتساهلون، ولأحكام شرعه مهملون، وعن الوعد والوعيد ذاهلون، تحرِّمون وتحلون ما شاءت لكم المصالح والأهواء، وتَجعلون وراء ظهوركم ما جاء به المرسلون، وأنتم تعلمون أنَّكم إلى ربِّكم ترجعون.

 

وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، وقد أفلح المؤمنون الذين هم عن اللَّغو والرفث معرضون، وقد أفلح المؤمنون الذين يؤتون الزكاة وهم لها فاعلون، وقد أفلح المؤمنون الذين هم لفرجهم حافظون، ولأماناتهم وعهدهم راعون.

 

نعم، أيُّها المسلمون، لقد علم المؤمنون الصادقون غايةَ وجودهم في هذه الدُّنيا، فلم يغفلوا عن ربِّهم القائل - سبحانه -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

 

عباد الله:

ليس من الإيمان إظهار الخير فيما تقولون، والتستر بالشر فيما تفعلون؛ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، ورُبَّ مُصلٍّ زاحَمَ عُمَّار بيوت الله أيامًا وأسابيع، ثم تخلى عن الصلاة، وأسلم القيادة للهوى (وعادت حليمة إلى عادتها القديمة)، ورُبَّ مُصلٍّ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، تردُّ عليه صلاته، وتقول: ضيَّعك الله كما ضيعتني، ورب إنسان ترى عليه سمات الصلاح وآثار العبادة، وتظنه ملكًا كريمًا، وإذا اطلعت على حقيقته وجدته شيطانًا رجيمًا.

 

عباد الله:

إنَّ الدين الحق هو الوفاء بعهد الله، والاستمرار على طاعته والتماس مرضاته، وخير العمل ما دام وإن قلّ، وإنَّ الدين الحق أن تعبد الله كأنك َّتراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وعلامة التقوى أن تترك ما حرم الله وإن اشتاقت له النفس؛ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، ويا لفوز مَن راقب ربه في السر والعلن، وأصلح باطنه وظاهره، وتدبر قول الله - تعالى -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

 

وأنْعِم بالمسلم الذي يُداوم على صلاته؛ {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، والذي يقف عند حدود الله، ولا يُتبع نفسَه هواها، يُحب في الله ويُبغض في الله، وإذا زلَّ أو أخطأ، طهَّر نفسه بماء التوبة والاستغفار، من غير عناد ولا إصرار، وإذا ذكر الله فاضت عيناه، وإذا سمع داعي الله، أجاب الدعوة ولبّاها، والكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، ولا ينسى نصيبه من الدُّنيا، ولا يقصر في عمل الآخرة؛ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].

 

عبادَ الله:

إنَّ طلبَ الحق بغير واجب، وطلب الزرع بغير حرث، وطلب الولد بغير زواج، وطلب النتائج بغير عمل، وطلب الجنة بغير طاعة - إنَّما هو ضرب من الجنون، والمسلم العاقل هو الذي يجعل صلاته ونسكه، ومحياه ومماته لله ربِّ العالمين، فيعبد ربه في كل وقت وفي كل الشهور، وينفق من ماله ابتغاء وجه ربه الأعلى، أمَّا الذي يعبد ربه أيامًا، وينساه شهورًا، فمثله كمثل خرقاء مكة "ريطة بنت عمرو"، التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، و{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].

 

عباد الله:

إنَّ مَن رُزِق المالَ من الكسب الحلال، ومن رزق الولد الصالح، فقد رزق خيرًا عظيمًا، ومن شكر الله على نعمته زاد منها، وكان الله شاكرًا عليمًا، ومن صرف نعمةَ الله في مَعصيته سلبها عنه، وأذاقه ضَنْكَ العيش في الدُّنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

 

ومن باب شكر نعمةِ المال: إنفاقه في مرضاة الله، ومن باب شكر نعمة الولد الصَّالح: حسن تأديبه وتعليمه وتربيته؛ «كلُّ مولود يولد على الفطرة...»، وأيُّ فضل على الإنسان بعد الهداية للإسلام أكبر من أن يبارك الله له في البنين والبنات؟!

 

وها هي أبواب المدارس تفتح أبوابها؛ لتستقبل طلابَ العلم بخطة استعجاليَّة، يسهر على إنجازها مَن يتحمَّلون مُهمة الأنبياء والرُّسل من رجال ونساء التعليم، والمسؤولية مشتركة بين الأسرة والمدرسة لبناء الإنسان الصالح لنفسه ولأبويه ولمجتمعه، لكن بعض الآباء والأمهات يغفلون عن تتبُّع أبنائهم، ويسمحون أن يقودهم إبليس، وتسوقهم الشياطينُ من رفقاء السوء، ولا ينتبه الأب والأم إلا بعد فوات الأوان، ومن الآباء من لا يهمه من أبنائه إلاَّ أن يكونوا ذوي مكانة دُنيوية، يَحصلون بها على المال صالحين كانوا أو أشرارًا، فيكتسب الأب بذلك أوزارًا حين يُمسك الابن باليمنى كأسَ خمر، وباليسرى سيجارة، ينفخ دخانه على والديه، ولسان حاله يقول: أفٍّ لكما، لقد أصبحت نتيجة تفريطكما وإهمالكما فاجرًا كفَّارًا.

 

أولا فاللهَ الله في دكم أيها الآباء والأمهات، اللهَ الله في مسؤوليَّاتكم أيها المدرسون والمدرسات، الله الله يا رجالَ الإدارة في حسن تدبيركم وتواصلكم مع الآباء والأمهات، حتى لا نجد خلفًا وجيلاً أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

 

وحتَّى لا تنقلب نعمة المال ونعمة الولد إلى نِقمة وفتنة، لا بُدَّ من قيام كل مسؤول على ما هو مسؤول عنه بواجبه، وقولوا لأوامر الله ورسوله على الدوام: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]... الدعاء.

______________________________________

الكاتب: الشيخ الحسين أشقرا

  • 2
  • 0
  • 1,006

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً