حفظ الوطن وبناؤه
من أصول الإسلام الخمس حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والوطن يحوي في طياته تلك الأصول، فأي إفساد يلحق بأصل منها هو في حقيقته إفساد للوطن، وحفظ تلك الأصول تقوية للوطن وإعلاء للشرع.
من غايات الاسلام عمارة الأرض التي استخلف الله تعالى فيها الإنسان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك : 15]، ونهى عن إفسادها فقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 85]، والوطن جزء من الأرض يرتبط به الإنسان عاطفيا، وماديا متى وجدت المصلحة، قال الشاعر أحمد مخيمر مبينا معنى الوطن:
وَطَني وَصِبَاىَ وَأَحْلامي
وطَـني وهَوَاىَ وأيَّـامي
ورِضـا أُمِّي وحَنـانُ ابي
وخُطَى وَلَدِي عندَ اللَّعِبِ يخطُو برجاءٍ بَسَّامِ
ذلك الآرتباط عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا وقَف على الحَزْوَرةِ، ونظَر إلى البيتِ فقال: «واللهِ إنَّكِ لَأَحَبُّ أرضِ اللهِ إليَّ، وإنَّك لَأَحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنَّ أهلَكِ أَخرَجوني منكِ ما خرَجتُ» [1].
إن الهجرة في حقيقتها نزع للنفس، وتهيج لعواطف الشوق للأهل والدار، وشعور بعدم الاستقرار، إنها والله لتضحية كبرى لغاية اسمى، يعلم النبي صلى الله عليه وسلم تلك النوازع النفسية التى ألمت بالصحابة، فسارع لأدواء النفس وتسكينها فعمد إلى بنا وطن دعائمه: عقيدة راسخة في الصدر فقال صلى الله عليه وسلم: «وجعلتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وجعلتْ تربتُها طَهورًا» [2]، وحركاته: تواد وتعاطف وإثار، فعن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» [3]، فكان بناء المسجد، والإخاء بين المهاجرين والانصار، ووضع دستور المواطنة في المدينة، يبين لهم الحقوق والواجبات.
ولما منَّ الله تعالى على نبيه بفتح مكة تعامل مع الوطن بكل حب ورحمة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريشٍ، ما ترون أني فاعلٌ بكم؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ! قال: «فإني أقولُ لكم ما قال يوسفُ لإخوتِه: لا تثريبَ عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاءُ» [4]، فالولاء للوطن والانتماء له لا يشوبه حس التشفي والشماتة، قال الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة *** وأهلي وإن ضنوا علي كرام
من أصول الإسلام الخمس حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والوطن يحوي في طياته تلك الأصول، فأي إفساد يلحق بأصل منها هو في حقيقته إفساد للوطن، وحفظ تلك الأصول تقوية للوطن وإعلاء للشرع قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال : 60]، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» [5].
حفط الوطن يكون، ببناء الإنسان والحفاظ على كرامته؛ فبناء الإنسان مقدّم على بناء العمران، جاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لهدمُ الكعبةِ حجرًا حجرًا أهونُ على اللهِ من قتلِ المسلمِ» [6].
حفط الوطن بإعلاء القيم الفاضلة في نفوس الناس قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ» [7].
فإنّما الأُمم الأخلاق ما بقيت، فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فنشر العدل والمساواة بين أفراده من أهم مقومات حفظ الوطن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء : 135]،وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة : 8]، عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: "أنَّ امْرَأَةً مِن بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ، فقالوا: مَن يُكَلِّمُ فيها النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَلَمْ يَجْتَرِئْ أحَدٌ أنْ يُكَلِّمَهُ، فَكَلَّمَهُ أُسامَةُ بنُ زَيْدٍ، فقالَ: «إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانَ إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ، لو كانَتْ فاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَها» "[8].
وَطَـــنٌ بِـــالحَــقِّ نُــؤَيِّدُهُ *** وَبِــعَــيــنِ اللَهِ نُـشَـيِّدُهُ
ومِن أهمِّ عواملِ الحفاظِ على الأوطانِ: الأخذُ بأسبابِ القوةِ، بالعلم والعمل، فأول ما نزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق : 1-3]، ويوم الحساب أيضا إقرأ قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء : 14]، فالعلم رحمة ربانية أمتن بها الرحمن على العباد ليتعبدوا بعلم قال تعالى: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن :1-4].
يقولُ الشاعرُ:
بالعلمِ والمالِ يبنِي الناسُ ملكهُمُ *** لم يبنَ ملكٌ على جهلٍ وإقلالٍ
وحفظ الوطن بإسناد الأمر لأهله قال تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 55]، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص : 26]، ولفظ المجتمع لأبي العُريف وتنحيته عن مجالس الرأي قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل : 43]، وتحري الصدق من مصدره قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6].
توحيد الصف المجتمعي وتجميع الكلمة بإصلاح ذات البين قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال : 1]، قال أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ؟ » قالوا: بلى، قال: «إصلاحُ ذاتِ البينِ ، وفسادُ ذاتِ البي نِ الحالِقةُ» [9]؛ فالأوطان تبنى على المحبة والتعاون لا الكراهية والتصارع. فيجب على المسلمين السعي إلى ترويج أسباب المحبة بتأليف القلوب.
نشر الأمل في ربوع المجتمع؛ فحين يكون الأمل يكون البناء والأمن معًا؛ {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة : 223] ، {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف : 87].
اتقان العمل {وَقُلِ اعْمَلُوا} [التوبة : 105]، عن عائشة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحبُ إذا عملَ أحدكُم عملا أن يتقنهُ} [10]، وعن المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ» [11].
والحفاظُ على الأوطانِ يتطلبُ إعلاءَ المصلحةِ العامةِ للوطنِ، بعيدًا عن كلِّ صورِ الفرديةِ والأنانيةِ والسلبيةِ، فالوطنُ يحتاجُ مِنَّا العطاءَ الصادقَ، كما يتطلبُ التكافلَ والتراحمَ بينَ أبناءِ الوطنِ الواحدِ، وقد ضربَ لنَا نبيُّنَا صلَّى اللهُ عليه وسلم مثلًا في تحمل المشئولية فقال: «مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا» [12].
وقد بين عمرو بن العاص أسباب تعاظم الروم في آخر الزمان قال مستورد بن شداد: «تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ». فَقالَ له عَمْرٌو: أبْصِرْ ما تَقُولُ، قالَ: أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ[13].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القسطلاني (المواهب اللدنية [1/171]).
2 مجموع الفتاوى [22/33]).
3 (مسلم [2586]).
4 (فقه السيرة [382]).
5 (مسلم [2664])
6 الشوكاني (الفوائد المجموعة [212] خلاصة حكم المحدث : معناه مرفوع بلفظ: من آذى مسلما بغير حق فكأنما هدم بيت الله).
7 مجمع الزوائد [9/18]).
8 ( البخاري [3733])
9 ( أبو داود [4919]).
10 (السلسلة الصحيحة [1113]).
11 (البخاري [2072]).
12 (البخاري [2493]).
13 (مسلم [2898]).
- التصنيف:
- المصدر: