من دروس الهجرة السعي إلى لمّ الشّمل

منذ 2022-08-03

من هنا كان فى قرارة نفس النبى صلى الله عليه وسلم أن بلداً وأمة هذه أحوالها لن تقوم لها قائمة إلا بلمِّ الشمل ووحدة الصف وتجفيف منابع الشر والفتن والفساد..

أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع الأيام الأولى من العام الهجري الجديد ينتظم الحديث عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذكر الأحداث والأسباب والمواقف العصيبة التي عاشها المسلمون أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا فيها كل شيء في سبيل الله تعالى.. 

واليوم نتحدث عن كنز من الكنوز المستفادة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة هذا الكنز الغالى هو عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ( لمِّّّ الشمل) والسعى الى وحدة الصف المسلم.. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :-إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال )

لم تكن هجرة النبى صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من مكة الى المدينة نزهة ولا فسحة وإنما كانت المدينة فى نظر النبى صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه تمثل قاعدة قوية منيعة ومنارة عظيمة تجود بنورها على ما حولها من مشارق الأرض ومغاربها..  

لكنّ المدينة لم تكن كذلك قبل قدوم النبى صلى الله عليه وسلم قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وأهلها منقسمون على أنفسهم كانوا فرقاً وأحزابا شتى كانوا أعداء يضرب بعضهم رقاب بعض.. 

كانت الكلمة تقال بينهم فى الصباح فلا يأتى عليها المساء إلا وقد خلّفت من ورائها دماءً وأشلاءً كانوا يسيئون الجوار ويقطعون السبيل ويأكل القوى منهم الضعيف لأتفه الأسباب شأنهم شأن سائر العرب فى ذلك الوقت يتقاتلون لاستعراض العضلات تارة ولبسط النفوذ تارة وربما لأتفه من ذلك  .. 

حرب البسوس كانت فى بني ربيعة (بين تغلب وبين بكر) تطاحنوا وتقاتلوا فيما بينهما حتى هلك معظمهم من أجل ناقة!!

وحرب داحس والغبراء :-الغبراء فرس وداحس فرس أخرى تسابقا فى يوم من الأيام فسبقت إحداهما الأخرى فما الذى جرى تناكر صاحب داحس وصاحب الغبراء وتجاحدا أيهما الذى سبق الآخر فتقاتلت القبيلتان قتالاً مراً حتى أهلك القتال الأخضر واليابس وهلك معظمهم.. 

وحرب بعاث وهى حرب اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج.. 

كانوا على هذا الحال لعشرات السنين فماذا كانت النتيجة ماذا كان أثر النزاع والشقاق عليهم ؟؟

قال قتادة رضي الله عنه كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً وأشقاهم عيشة وأبينهم ضلالة وأعراهم جلداً وأجوعهم بطوناً كانوا معكومون على رأس حجر بين الأسدين الفرس في الشرق والروم في الغرب والله ما كان في بلادهم يومئذ شيء يُحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً ومن مات رُدي في النار،كانوا يُؤكلون ولا يَأكلون.. 

على أرض العرب وفى هذا الجو عاش ونبئ وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمر أن :-

يقيم دولة قوية متماسكة دولة تتفجر فيها ينابيع الخير والأمان حتى تعم الأرض.. 

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس فى المدينة من مهاجرين وأنصار يسكن قلوبهم ويراودهم الأمل فى بلد هادئٍٍ مستقر يأمن فيه الإنسان على نفسه وماله وعرضه ودينه لكن ما كان بين الأنصار خاصة من النزاع والشقاق حطمت آمالهم وحولت أمانيهم الى سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. 

من هنا كان فى قرارة نفس النبى صلى الله عليه وسلم أن بلداً وأمة هذه أحوالها لن تقوم لها قائمة إلا ب(لمِّ الشمل)  ووحدة الصف وتجفيف منابع الشر والفتن والفساد.. 

 فأرسل النبى الى نواحى المدينة مناديا ينادى فى الناس جميعاً وبلا استثناء  أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء الناس عن بكرة أبيهم فقام فيهم رسول الله ينظر الى الأنصار فإذا الأوس والخزرج قد اجتمعوا عنده وقد كان بين الطائفتين ما صنع الحداد بينهم قتلى وجرحى وبينهم نساء أرامل وأطفال يتامى وأمهات ثكالى فكان سعى النبي صلى الله عليه وسلم بين الفريقين ينزع الفتيل ويداوى الجراح ويصلح ما فسد بينهما على مدار سنوات طوال حتى آخى رسول الله بينهما.. 

ثم جمع رسول الله الوافدين الجدد المهاجرين فآخى بينهم ثم جمع رسول الله المهاجرين مع الأنصار فآخى بين الجميع وبهذا عرف الأمن والأمان والاستقرار والوفاق طريقه لأول مرة الى المدينة فقويت لأول مرة شوكتهم كعرب ومسلمين وقويت شوكة الإسلام.. 

وكانت النوايا صادقة فألف الله بين القلوب وقرب بين النفوس على غير مثال سابق فتراحموا فيما بينهم وتعاطفوا وتحابوا وتوافقوا واجتمعوا على قلب رجل واحد فمدحهم الله فى القرآن مدحاً خلد الله ذكره الى يوم أن يرث الله ومن عليها  .. 

قال الله تعالى فى شأن أولئك الأخيار والأبرار { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

ورد فى الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال:- 
( آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع يا عبد الرحمن ! إنني أكثر الأنصار مالاً وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمن بن عوف بارك الله لك في أهلك ومالك! ولكن دلني على السوق فدله سعد بن الربيع على سوق بني قينقاع، فانطلق عبد الرحمن بن عوف ليتاجر ويبيع ويشتري ) 

هذا الوفاق وهذا الوئام جائته العواصف والزلازل من كل صوب وحدب ووقف الكارهون له بكل طريق ليردوا الناس الى سيرتهم الأولى ليرجعوا ضعافاً كما كانوا منقسمين كما كانوا كل واحد منهم فى واد كما كانوا.. 

أغضب أعداء الله من يهود ومنافقين ومشركين ما رأوا من حب وودّ ووئام بين المسلمين وكيف زالت بينهم الطبقية والعصبية تحت راية الإسلام فحرصوا على إيقاد الفتن ، وإشعال النيران من جديد وما وجدوا إلى ذلك سبيلاً إلا عن طريق النعرات والتعصبات والفتن مرَّ أحد أحبار اليهود الحاقدين وكان عظيم الحقد على المسلمين عظيم الكفر.. 

مرَّ ذلك الخبيث على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فغاظه ما رآهم عليه من ألفة ومحبة وهم الذين كانوا إلى عهد قريب لا يلتقون إلا في معارك تسيل فيها الدماء وتزهق فيها الأرواح.. 

فقال بكل حقد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم في المدينة من قرار مالنا في المدينة معهم من قرار إذا ظلوا على هذه المحبة والمودة. علموا أن قوتنا في اعتصامنا وتآلف قلوبنا وزوال آثار النعرات والعصبيات من مجتمعاتنا 
فأمر ذلك اليهودي أحد الشباب اليهود أن يندس بين جمع الأوس والخزرج وأن يثير بينهم أخبار الجاهلية ونعرات القبلية ويذكرهم بالذكريات الأليمة وخاصة ذكرهم بيوم بعاث ذلك اليوم الذي تقاتل فيه الأوس والخزرج لأتفه الأسباب.. 

حُصدت فيه الأرواح من الفريقين ومن الخزرج خاصة وكاد الأوس يبيدون إخوانهم من الخزرج عن بكرة أبيهم فاندس الخبيث بين الجمع وأخذ باشعال النار وإيقاد الفتنة وأخذ ينشد الأشعار ويذكر بما كان في حرب بعاث.. 

فظهرت الفتنة وتلاسن الحيّان وأخذ كل منهما يفاخر الآخر وينازعه وتحول النقاش الى جدال ومن الجدال إلى ما هو أخطر من ذلك 
فقام أحد زعماء الخزرج متحدياً للأوس قائلا إن شئتم رددناها إن شئتم رددناها فاشتط الغضب بالفريقين وتواعدوا للحرب وأعلنوا النفير وأخذوا سلاحهم.. 

وكاد اليهود ينجحون في أهدافهم الخبيثة لولا :-لطف من الله تبارك وتعالى وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. 

بلغ الخبر رسول الله فقام مسرعاً فوجد القوم قد اجتمعوا وعلى وشك الاقتتال فقام بينهم خطيباً يا معشر المسلمين ما قال أوس ما قال خزرج يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة.. 

أبعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألَّف بين قلوبكم فلما سمع الرجال الكلام عادوا إلى رشدهم وأدركوا أنهم كانوا ضحية مكيدة يهودية فأغمدوا سيوفهم ونكسوا رماحهم ثم استرجعوا وبكوا وأخذ الرجال من القبيلتين يعانق بعضهم بعضاً.. 

وأنزل الله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .. 

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يؤلف بين قلوبنا وأن ينزع الغل والحسد من صدورنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.. 

الخطبة الثانية 
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقى لنا فى الختام أن نقول 
على الرغم من أن الصحابة كانوا أطهر وأنقى أهل الأرض تليت عليهم آيات الله وفيهم رسوله إلا أنهم وقع بينهم فى بعض المواقف الاختلاف .....

إختلفوا فى آراء ومواقف شتى شأنهم شأن غيرهم من البشر 
وقع بينهم الاختلاف كما وقع من قبل بين موسى وهارون { {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}}

وقع بين الصحابة فى حياة رسول الله وبعد وفاته الاختلاف كما وقع بين داوود وسليمان {{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا }}
اختلفوا كما وقع الاختلاف بين آدم وموسى عليهم جميعاً وعلى نبيناً أفضل الصلاة وأتم السلام.. 

اختلفوا ليصلوا الى ما هو أفضل وأصلح للعباد والبلاد اختلفوا ولم يكن اختلافهم لمصالح شخصية لم يكن عندهم سوء نية ولا فساد طوية ولم يكن هذا الاختلاف موجباً للفرقة.. 
اختلفوا لكنهم وضعوا للاختلاف حدوداً يقفون عندها وضعوا خطوطاً حمراء ليس لهم أن يتجاوزوها مهما اختلفوا فلا عداء ولا بغضاء ولا يظلم بعضهم بعضا ولا يبغى بعضهم على بعض ولا يستحل بعضهم من بعض دماءً ولا أموالاً ولا أعراضاً.. 

قال عز وجل { {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ َ} }

فسر الحسن قول الله تعالى {{ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}} قال أما أهل رحمة الله فإنهم يختلفون لكنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم  .. 

هذه المعانى ما أحوجنا لأن نتعلمها ونحن نقرأ فى السيرة حديث هجرة النبى صلى الله عليه وسلم وخاصة فى هذه الأيام نسأل الله تعالى أن يسلمنا وبلادنا من كل مكروه وسوء.

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.

  • 3
  • 1
  • 1,313

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً