دروس من الهجرة
كانت المواجة القائمة مبارزة الكلمة بالكلمة، فلما تبدلت المعادلة وباتت مبارزة الكلمة بالسيف كان الفرار أحد وسائل المدافعة.
في ذكرى هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم منا من يشاهد الأفلام والمسلسلات التي تتناول هذا الحدث العظيم من تاريخ الأمة على ما فيه من مخالفات شرعية وتاريخية، ويظل أمامها ماصا للشفاة أو عاضا لأنامله أو ضاربا على كفيه متعجبا من صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته على أذى الكافرين، ومنا من هداه الله تعالى إلى خطبة جمعة أو درس علم أو طالع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من كتاب، فتصيبه الحِمْيَة والحماسة، ولسان حاله يقول: آه لو أني عاصرت النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، لفعلت كذا وكذا، حتى إذ ما قام من مقامه وانشغل بأحواله تبلدت شدة حميته، وانطفأت حدة حماسته، وعاد إلى سابق عهده لم يبال بعام من عمره مضى فيه ما فيه، ولم يخطط لعام آت وما هو عامل فيه.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف : 111]، إنها دروس يستفاد منها قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران : 13].
حادثُ الهجرة حدثٌ غير التاريخ، ونظم رقعة الأرض، حدثٌ يُنِيرُ إلى يوم الدين الظُّلمَ، ويردُ الضَّلالَ إلى الحق نتعلم من سيرة هجرته صلى الله عليه وسلم:
ترك الإتكال والأخذ بالاسباب مع حسن التوكل على الرحمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ا «حْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» [1].
نتعلم حسن التدبير للأسباب المادية، فالنبيى صلى الله عليه وسلم يختار الصحبة، ويعد الراحلة والدليل، ويتوجه جهة الجنوب للتضليل، ويختبأ في الغار حتى يئس الملاحقون.
ونتعلم حسن الظن بالله فمن اعتصم بالله كفاه فمعية الله هي المعية الحقيقية قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء : 139]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء : 119]، وقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامَ المُتوكِّلينَ على اللهِ تعالَى، يَعلَمُ أنَّ الله ناصِره وأنَّه معَه بقدرته وحمايته، يقول أبو بكر رضي الله عنهُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في الغَارِ: "لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا"، فَقَالَ: «ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!» [2]، قال تعالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. انشد سراقةُ قائلًا لأبِى جهلٍ:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا *** لأَمْرِ جَوَادِيَ إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهُ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا *** رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهُ
نتعلم مدافعة الطغيان وعدم الاستسلام والحذر من إلقاء النفس في التهلكة، كانت المواجة القائمة مبارزة الكلمة بالكلمة، فلما تبدلت المعادلة وباتت مبارزة الكلمة بالسيف كان الفرار أحد وسائل المدافعة فهي سنة الأنبياء، قال تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» [الفتح : 23]، قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 21]، "خرج رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بًابه وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رءوسهم، وأخذ الله عز وجل بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ: يس والقرآن الحكيم - إلى قوله - فأغشيناهم فهم لا يبصرون"[3]، كم تستغرق من الوقت في قراءة تسع آيات من سورة يس ما هذا الاطمئنان؟!، خرج من بين أيديهم في أمان، بل حثى على رؤسهم التراب أمعانا في الإذلال.
نتعلم الثبات على الحق فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم على مدار ثلاث عشرة سنة العقيدة في النفوس، فزهدت عن الشهوات الذائلة إلى روحنيات سامية، فلم تجزع عند البلاء وكانت بالفداء راضية فأشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأنْبياءُ، ثُمَّ يَأْتي بعْدَهمُ المؤمِنونَ؛ فالمَرءُ يُبْتَلى على قَدْرِ دينِه، جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ رَضيَ اللهُ عنه مع بَعضِ أصْحابِه يشتكون إلى النبي ما هم فيه من بلاء فقالوا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: «كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» [4] ، فيثبتهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ،ويصبرهم، ثُمَّ يبشَّرَهم بالنصر والأمن والتمكين، فما حال ثباتك في ميادين الحق ومِنْ حَوْلِكَ مَنْ يُبَدِلُ ويُداهِنُ ويُصَفِقُ ويُهَلِلُ خوفاً مِنْ بَطَّشَةِ الباطلِِ
المسئولية أحد الدروس المستفادة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا علي رضي الله عنه يشعر بالمسئولية تجاه الدعوة، فكان أول فدائي شاب في الإسلام يرتدي بردة النبي صلى الله عليه وسلم ليقى رسول الله بنفسه، إنها مسئولية الدفاع عن القيم فيوكله صلى الله عليه وسلم لرد أمانات المشركين، وهذا أبو بكر رضي الله عنه يدخل الغار ليلا قبل رسول الله ﷺ، فلمس الغار لينظر فيه سبعًا أو حية، يقي رسول الله ﷺ بنفسه، فالتضحية نابعة من احساس بالمسئولية تجاه الناس بالتبليغ ودفع الباطل ولو كان الثمن الحياة نظرَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكَّةَ فقال : «إنَّكِ لأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ ، ولولا أنَّ قَومي أخرَجوني مِنكِ ما خَرجتُ» [5]، فكان قدوة في التضحية والفداء.
نتعلم بناء المجتمع القائم على الإخاء والإثار، فكان الإخاء بين المهاجرين والانصار، ووضع دستور للمعايشة لكل أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم، كل هذا أدى إلى قيام دولة حكمت العالم أربعة عشر قرنا أما تقطيع أوصال المجتمع، واحداث الفتنة بين أفراده وعدم احترام الدستور وضياع الحقوق والقيم يورث الضعف والهوان.
نتعلم أهمية المسجد فأول أعمال النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد، ليكون دارا للعبادة والتربية والتعليم والتشريع وإدارة الشئون العسكرية والمدنية، كان بناء للفرد، ولذ يعمد أعداء الأمة إلى تهميش المسجد وتفريغة من العمار قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة : 114]، فهنيئا لك إن كنت من العمار قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة : 18]، واحذر أن تلحق بهؤلاء قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة : 17].
نتعلم أن القوة الإقتصادية من أولويات بناء المجتمع، فعمد النبي ﷺ إلى بناء السوق فهو دعوة لإعمار الأرض بالبناء كما عمروا المساجد بالذكر والدعاء قال تعالى: إِ {ذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة : 9- 10]، تمكنت عقيدة العبادة التي أمرت بالبناء بالنفوس، فهبوا يزرعون ويصنعون ويصلون ويجاهدون لا يعيشون عالة حتى أن عبد الرحمن بن عوف "آخَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَهُ وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ الأنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عليه أنْ يُنَاصِفَهُ أهْلَهُ ومَالَهُ، فَقَالَ: عبدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومَالِكَ دُلَّنِي علَى السُّوقِ"[6]. ، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ » [7]، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هي المُنْفِقَةُ، والسُّفْلَى: هي السَّائِلَةُ» .[8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- (مسلم [2664]).
2- (البخاري [3653]).
3- (البيهقي (دلائل النبوة [2/469]).
4- (البخاري [3612]).
5- (الترمذي [3629]، والبزار [4690]، واللفظ له، وابن حبان [3709]).
6- (البخاري [3937]).
7- (مسلم [2664]).
8- (البخاري [1429]).
- التصنيف:
- المصدر: