الفتن وطرق اجتنابها
وكيف تُتقي الفتن؟ سؤال ما أحوجنا إلى طرحه ومدارسته ومذاكرته؛ لأن كل واحد منا ولا شكَّ يريد لنفسه السلامة من الفتنة، والوقاية من شرها وخطرها وضررها.
إن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، معاشر المؤمنين، روى أبو داوود في سُننه عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن السَّعيد لمن جُنّب الفتن»، وها هنا عباد الله يتساءل الكثير من الغيورين الناصحين لأنفسهم ولأمتهم، كيف يُظفر بهذه السعادة؟ وكيف ينال هذا الأمر العظيم الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يجنب المرء الفتن؟ وكيف يتّقي شرها وضررها وخطرها؟ إنه عباد الله سؤال عظيم يطرح نفسه: كيف الظَّفَر؟ كيف السبيل إلى الظفر بهذه السعادة؟ وكيف تُتقى الفتن؟ وهو سؤال ملح في قلب كل ناصح؛ لأن الناصح - عباد الله - لا يريد لنفسه الفتنة، ولا يريدها لأمته عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
عباد الله:
وكيف تُتقي الفتن؟ سؤال ما أحوجنا إلى طرحه ومدارسته ومذاكرته؛ لأن كل واحد منا ولا شكَّ يريد لنفسه السلامة من الفتنة، والوقاية من شرها وخطرها وضررها.
وفي هذه الوقفة - عباد الله - أذكر نقاطًا مهمة وأمورًا عظيمة وأُسسًا قويمة، مستمدة من كتاب الله - تبارك وتعالى - وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بها تتقى الفتن، وبها تكون السلامة من شرها وخطرها، وإن من أهم ذلك عباد الله، تقوى الله - عز وجلّ - وملازمة تقواه في السر والعلانية والغيب والشهادة، والله - تعالى - يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 - 3]، وقوله - تعالى -: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}؛ أي: من كل فتنة وبَليَّة وشر.
والتقوى - عباد الله - عواقبها حميدة، ومآلاتها رشيدة، والعاقبة دائمًا وأبدًا لأهل التقوى، وعندما وقعت الفتنة في زمن التابعين، أتى نفرٌ من النصحاء إلى طلق بن حبيب - رحمه الله - وقالوا: الفتنة وقعت، فكيف نتقيها؟ قال: اتقوها بتقوى، قالوا له: أجمل لنا التقوى، قال: تقوى الله: العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عذاب الله، وبهذا يعلم عباد الله أن تقوى الله - جلّ وعلا - ليست كلمة يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدعيها، وإنما تقوى الله - عز وجلّ - صلاح في القلوب، وزكاء في الأعمال، وجِدّ واجتهاد في طاعة الله، وفعل ما يقرِّب إليه، وفِعل للطاعات، وبُعد عن النواهي والمحرَّمات، فهذه حقيقة التقوى، التي حريٌّ بصاحبها أن يجنب الفتنة، ويوقي من كل شر في الدنيا والآخرة.
ومن الضوابط المهمة عباد الله لاتقاء الفتن: لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما، فإن من اعتصم بكتاب الله وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - هُدي إلى صراط مستقيم وسلم من كل بَلية وشر، ذلك - عباد الله - أن السُّنة سبيل النجاة، وسبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة قال: السنة سفينة نوح، فمن ركبها نجا، ومن تركها هلك وغرق، إن من أمّر السُّنة - عباد الله - على نفسه نطق بالحكمة، وسلم من الفتنة، ونال خيري الدنيا والآخرة، وإلى هذا أرشد رسولنا - عليه الصلاة والسلام - قال: «إنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
وإن من الضوابط المهمة لاتقاء الفتن، البعد عن التسرُّع والعجلة والاندفاع، فإن العجلة والتسرع لا يأتيان بخير، بل إنهما يفضيان بصاحبهما إلى كل شر وبلاء، فالأناة الأناة والبعد البعد عن العجلة، فإن عواقب العجلة وخيمة، ونهاياتها أليمة والحليم المتأني يظفر بمقصوده بإذن الله، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤدة؛ أي: عدم العجلة والتسرع، فعليكم بالتؤدة فإنك أن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر.
عباد الله:
إن المندفع المتسرِّع في أموره المتعجِّل في تصرُّفاته، يضرُّ بنفسه، ويضر بغيره من عباد الله، وقد يفتح على نفسه وعلى غيره باب من الشر خطير، وطريقًا من طرق الشر على عباد الله، يتحمل إثمها ويبوء بوزرها، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناسًا مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه»، فالواجب عدم العجلة، والواجب الأناة، فإن العجلة شر والأناة خير ورحمة، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبى طالب - رضي الله عنه -: لا تكونوا عُجلاً مذاييع بُذرًا، فإن من ورائكم أمورًا متماحلة رُدُحًا؛ أي: وراءكم فتن ثقيلة، وراءكم فتن ثقيلة فتجنَّبوا العجلة، وتجنبوا إذاعة الشر والخوض في الخصومة، وتجنبوا بذر الفتنة وأصولها في الناس.
عباد الله:
وإن مما تتقى به الفتن، الرجوع إلى العلماء الراسخين والأئمة المحققين، أهل العلم والأناة والحكمة والبصيرة بدين الله والفقه في كتابه وسُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والضلوع في ذلك، ولا يزال الناس بخير ما أخذوا عن العلماء الأكابر، وقد جاء في صحيح بن حبان - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البركة مع أكابركم»، ويقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم، وإذا أخذوا عن الأصاغر هلكوا، إن الأخذ عن الأئمة الراسخين والعلماء المحققين والفقهاء المدققين أمنة - بإذن الله - وصمام أمان، ونحن أُرشدنا إلى ذلك في كتاب الله - عز وجلّ - قال الله - تعالى -: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء : 83]، وفي هذه الآية عباد الله: أدَّبنا الله - جل وعلا - عند حصول أمر، يمس أمن الناس أو يمس مصالحهم أو يمس خوفهم، أن يكون رجوعنا وتعويلنا على سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أقوال العلماء الراسخين والفقهاء المحققين المدققين الذين طال باعهم، وعظم حظهم ونصيبهم بدراسة كتاب الله وسُّنة نبيه - صلوات الله وسلامه عليه - ولا يزال الناس بخير عباد الله، ما أخذوا عن العلماء ورجعوا إلى الفقهاء المدققين، وأما إذا رجعوا إلى الناشئة والمبتدئين والأصاغر في طلب العلم وتحصيله، فإنهم يتورطون في ورطات عظيمة، ويقعون في أبواب من الشر خطيرة وجسيمة.
عباد الله:
وإن من الأمور التي تُتقى بها الفتن،، لزوم الجماعة، والبُعد عن الفرقة، فإن الجماعة رحمة والفرقة شر وعذاب، وقد قال نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام -: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب»، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذَّ في النار»، وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أحاديث متكاثرة ونصوص متضافرة في الحثِّ على لزوم الجماعة، ومن أراد أن يصلح في الناس، فليكن واحدًا منهم ولازمًا لجماعتهم، وليصلح بالتي هي أحسن، على ضوء ما جاء في كتاب الله وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أما أن يخرج عن الجماعة بزعم أنه يريد إصلاحها، ثم يفرِّق كلمة الناس، ويخلخل صفَّهم، ويشق كلمتهم، فأي خيرٍ في هذا، وأي نفع أو فائدة تُرجَى من ورائه.
عباد الله:
وإن من الأمور العظيمة التي تُتقى بها الفتن، حُسن الصلة بالله، والإقبال على دعائه وسؤاله - سبحانه - فإن الدعاء عباد الله مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة، والله - جلّ وعلا ُ- لا يخيب عبدًا دعاه، ولا يردُّ مؤمنًا ناجاه، فالواجب علينا - عباد الله - أن نسأل الله دائمًا وأبدًا أن يجنبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن»، فقال الصحابة - رضي الله عنه -: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهكذا ينبغي أن يكون كل مسلم متعوذًا بالله من الفتن، يسأل الله - جلّ وعلا - أن يقيه وأمَّته من الفتن، وأن يحفظ على الأمة أمنها أمانها وسلامتها وإسلامها، ومن الدعوات العظيمة في هذا الباب ما كان يقوله نبيُّنا وقدوتنا - صلوات الله وسلامه عليه - عندما يرى الهلال في أوّل كل شهر، كان يقول - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله»، هكذا عباد الله دعوات صادقة ورجاء حثيث وأمل بالله - تبارك وتعالى - بالسلامة للمؤمنين، والعافية والوقاية من الفتنة، هذا شأن الناصح لدينه ولأمته جعلنا الله كذلك، ووقانا من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: عباد الله:
وإن من الأمور العظيمة في هذا الباب، عبادة الله - تبارك وتعالى - والإقبال على طاعته، وعدم التصدر للفتن والبروز لها، وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عبادة في الهرج كهجرة إليه»، إلى هذا أرشد - عبادَ الله - إلى عبادة الله - جلّ وعلا - والإقبال على طاعته، وقد جاء في الصحيح أيضًا عن أم سلمة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة فزعًا ثم قال: «سبحان الله؛ ماذا أنزل الله هذه الليلة من الخزائن؟ وماذا أُنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؛ يعني: أزواجه؛ لكي يصلين، فرُبَّ كاسية في الدنيا، عارية يوم القيامة»، وهنا تأمل أيها المؤمن إلى أي شيء أرشد - صلوات الله وسلامه عليه - عند حصول الهرج: وهو القتل والخصومة والفتنة، إلى أي شيء أرشد - عليه الصلاة والسلام - إنما أرشد إلى العبادة والطاعة والإقبال الصادق على الله، ولهذا قال: من يوقظ صواحب الحجرات يصلين، وهنا نبَّه العلماء في شرح الحديث أن دعوة النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى العبادة عند الفتنة وحصول الهرج، سببه أن كثيرًا من الناس إذا حصلت الفتنة، برز لها وانشغل بها، وأخذ يتحدث عنها، ويذكر جوانبها وما آلت إليه، فينشغل بها ويشغل غيره، ويغفل عن الغاية التي خلق لأجلها، والهدف الذي أوجد لتحقيقه، ألا وهو عبادة الله - جلّ وعلا - وذكره وشكره وحسن عبادته، فتتحول مجالس الناس في الغالب عند حلول الفتن إلى خصومات ليس ورائها طائل، وإلى لَجج وفرقة وشقاق، وأراء تتداول وأفكار تطرح ليس لها في الغالب قيمة، وينشغلون بها عن ذكر الله وعبادته وما يقرِّب إليه - سبحانه وتعالى - ولهذا تأكَّد علينا في مثل هذا المقام أن نتنبَّه إلى توجيه نبينا، وإرشاد رسولنا - صلوات الله وسلامه عليه - بالإقبال على العبادة، والانشغال بالطاعة، وذكر الله وشكره، وحُسن عبادته.
ثم مما ينبِّه عليه عباد الله في هذا المقام: أننا دخلنا في شهر مبارك وموسم عظيم من مواسم العبادة والطاعة والصيام، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الحرام»، فشهر الله الحرام الذي نحن الآن في أول أيامه، شهر يُستحب الإكثار من صيامه ولا سيَّما وخاصة صيام يوم عاشوراء، الذي رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيامه وقال: «أحتسب على الله أن يكفر السَّنة التي قبله»، فلتكنْ نفوسنا - عباد الله - متطلِّعة للعبادة، متشوفة للطاعة، عاملة بما يقرِّب إلى الله، والبُعد عمَّا نهى عنه - سبحانه - فإنه بهذا ننال كل خير، وفضيلة وغنيمة في الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا - رعاكم الله - على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب : 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: {من صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا}، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
- التصنيف: