سر الصلاح صلاح السر
يتساءل كثير من الناس: لماذا فلان من الناس تحبه القلوب، وتتطلع له الأرواح، وتهواه الأفئدة، ويتمنى لقياه البشر؟
يتساءل كثير من الناس: لماذا فلان من الناس تحبه القلوب، وتتطلع له الأرواح، وتهواه الأفئدة، ويتمنى لقياه البشر؟
ما هي الصفات التي اكتسبها وجذب بها الأنظار؟
ما الروح المغناطيسية التي يتمتع بها؟
كيف انتشر ذكره في الآفاق؟
ما سبب حب الناس له وتعلقهم به؟
كيف استطاع أن يؤثر فيهم؟
ما سبب لهجهم بذكره، ودعائهم له، وتمنيهم له الخير والتوفيق والسداد؟
هذه الأسئلة تدور في ذاكرة كثير من الناس، ويعجِزون في كثير من الأحيان عن الحل.
ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله العبد، نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبِبْه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يُوضَع له القبول في الأرض».
إن الله تعالى إذا أقبل على عبده السالك استنار قلبه، وأشرقت حياته، وظهر عليه آثار إقبال من نضرة الجمال، وقدسية الجلال، وحينها يتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالحب والود، والبِشر والترحاب، ثم يُوضع له القبول في الأرض فيُسجل في كشوفات المقبولين بأحرفٍ من نور، تعبق بالسرور فيمشي بين الخلق محبوبًا؛ لأن التهيئة قد أُعدت له، فيلقى الكرم يحف به، ويجد الإيناس يحيط بمرآه، فما أسعد قلبه وهو يمشي، ويود كل شيء أن يقوم في خدمته والتقرب منه!
والمراد بالقبول في هذا الحديث كما قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: "قَبول القلوب له بالمحبة، والميل إليه، والرضا عنه".
قال عبدالحق الأشبيلي رحمه الله: "وقد شُوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثُر الثناء عليهم، وصُرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم، ومنهم من كثُر المشيِّعون لجنازته، وكثر الحاملون لها، والمشتغلون بها، وربما كثَّر الله الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس.
ولكن هذه المحبة من الله لهذا العبد، ووضع القبول له في الأرض ليس لشخصه، ولكنها محبة له لإيمانه بالله، واتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية، يُغرَس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة".
وقال هرم بن حيان: "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم".
وأما معنى وضع القبول؛ فقد قال الحافظ المناوي: "أي يُحْدِث له في القلوب مودة، ويزرع له فيها مهابة، فتحبه القلوب، وترضى عنه النفوس من غير تودد منه، ولا تعرض للأسباب التي تكتسب لها مودات القلوب من مراقبة أو صداقة أو اصطناع... ثم قال: كما يقذف في قلوب أعدائه الرعب والهيبة إعظامًا لهم وإجلالًا لمكانهم...".
وطريق محبة الله أن تتعلق به، وتفرغ قلبك لمحبته واللهج بذكره، وشدة الإنابة إليه، والرغبة فيما عنده، ووضع القلب بين يديه، والإخلاد بالروح إليه، والإنسان أيًّا كان إذا أحب شيئًا، أكْثَرَ من ذكره وكثرة الفكر فيه، والتعلق به، فالذي أحب زوجة أو تجارة أو مالًا أو ولدًا أو عقارًا، تراه شديد الهيام به، متعلقًا به، قد فرغ كل وقته للفكر فيه، والتأمل في محاسنه، لا يرتاح إلا بقربه، ولا يأنس إلا بجواره، ولا يطمئن إلا إذا كان معه، فإذا حصل له القرب منه كأنما واتته كل اللذائذ، وحصلت له جميع المُنى، بل لو خُيِّر بين الدنيا وما فيها عليه، لاختاره عوضًا عن الدنيا، بل لرفض المقارنة من أساسها؛ فبدونه يفقد روحه ويصبح قلبه فارغًا، وبدونه تضيع بوصلته، وتصبح أمانيه بوادٍ غير ذي زرع.
الحياة معه، فإن فقده أصبح في عِداد الأموات، والنور في معيته، فإن ابتعد عنه هَوَى في قعر الظلمات، والرضا في جنته، فإن فقد السبيل إلى رضاه شقِيَ بالحَسَرَات.
تراه متعلقًا بالإقبال عليه؛ كتعلق الطفل بثدي أمه، فهل رأيت تعلق الطفل بثدي أمه؟
أرأيت كيف يفزع إليه بين الفينة والأخرى فيهوي إليه؟
أرأيت كيف يسكن إذا التقمه فيفرح ويَهَشُّ ويبش، ثم يُحْكِم الإمساك به، فيشعر كأنه حاز الدنيا بحذافيرها، ولو خُيِّر حينها بين مُلك الأرض والدنيا وما عليها، وثدي أمه، لاختاره عليها، بل لو تسنى له أن يركلها بقدمه، لفعل؟
والمحب لتجارته لا يلهج إلا بذكرها؛ فهي ديدنه وهجيراه لا ينطق إلا بها، ولا يسكن إلا بالاشتغال بها ولا يهدأ إلا بتسخير وقته لها، فتراه مدمنًا على التفكير فيها، يموت ويحيا عليها، يستمد قوته منها، كثير اللهج بذكرها، مسخِرًا نفسه وحياته لها، بل يموت إذا مات وهو يهذي بها، أرأيت بعد ذلك كيف هي مستولية على عقله وتفكيره وكل حياته؟
فإذا عرفت هذا المعنى، عرفت أن الطريق إليه تحتاج قلبًا بعيدًا عن القواطع والعلائق، فإن العلائق عوائق، ولتعرف أن من اشتغل به، حرك قلوب الخلق إليه.
وعلى قدر حبك لمولاك تجد المحبة في قلوب عباده المؤمنين، ومحِب ربه تهفو قلوب الناس إليه وتشعر برابط يربطها به؛ لأنه روابط القلوب نحو خالقها أشد من روابط الكهرباء، وحتى وإن أظهر له بعض الناس العداوة فقلوبهم تنكر ذلك.
فعلى قدر إقبالك على الله يُقبِل الناس عليك، وعلى قدر اشتغالك به يشتغلون بك.
حكى العلامة التاج ابن السبكي في ترجمة والده العلامة التقي السبكي الشافعي في كتابه المفيد المليح الممتع (طبقات الشافعية الكبرى) أنه كان يدخل دار الحديث بدمشق وينشد:
وفي دار الحديث لطيفُ معنى *** إلى بُسُطٍ لها أصبو وآوي
لعلي أن أمس بحرِّ وجهـــــــي *** مكانًا مسَّه قدمُ النــواوي
وقد كان الإمام النووي يدرِّس في تلك الدار، وبها ألَّف كتبه، ومنها طار صيته للآفاق، والسر في ذلك شدة إقباله بقلبه على الله؛ حبًّا ورغبة وخوفًا وإنابة وتضرعًا.
وكان ينشد إذا تعب:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً *** على غير ليلى فهو دمع مضيعُ
ولقد أحسن من قال:
لله درك يا نـــــوى *** ووقاك من شر النوى
ولقد نشا بكِ عالم *** لله أخلص ما نــــوى
وما فتح الله عليه إلا بسبب إخلاصه؛ وقد قال الشاعر وما أجمل ما قال:
وإذا الفتى لله أخلص سره *** فعليه منه رداء طيب يظهرُ
إن أصفياء القلوب يخرجون من بيوت الضجة، ودور الغفلة إلى الآفاق الخالية يتفكرون في عظمة الملك، يستغفرونه ويخلون به ويعالجون قلوبهم.
فهذا شيخ الإسلام التقي ابن تيمية كان يخرج إلى الصحراء وينشد:
وأخرج من بين البيوت لعلني *** أُحدِّث عنك النفس بالسر خاليا
وليكن لك جلسات مع نفسك تخلو بربك، وتنظر إلى مكامن الداء في جسدك، فترمم روحك، ولقد كان لداود عليه السلام ساعة كل يوم يخلو فيها بنفسه، وليس المقصود ساعة الزمان المعروفة الآن، وإنما القطعة من الوقت، حتى وإن كانت يسيرة، وما أحلى وأُحَيْلى الجلوس مع النفس في السَّحَر وعقب الصلوات، تستغفر مولاك بصدق، بعيدًا عن التفكير في كل شيء حولك، تشعر بجلال الملك، وتتأمل نعمه، وتقصيرك معه، وتراجع نفسك، وتصلح من سرك، لتنقش هذه العبارة على سويداء قلبك: "سر الصلاح صلاح السر"!
وكل من جاهد نفسه في إصلاح سره، هبطت عليه غيوث الرحمة، وأسرار الجلال، وتغشاه الفتوحات الربانية، والإلهامات النورانية.
ومن أراد أن يعرف صلاح فلانٍ في العلن، فليعلم أن سره قد صلح في الخفاء، وأن علاقته بالله سالكة لا تشوبها شائبة.
من خواطر ابن الجوزي في صيده قوله: "نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى، فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان يخفي الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنبًا، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليعلم أن هنالك ربًّا لا يضيع عمل عامل، وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى، فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبدُ ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق، إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامًّا".
أقصر طريق لمحبة الناس، والدخول إلى قلوبهم إصلاحُ العلاقة مع الله من الداخل لا كثرة العبادة.
فإذا غرف العبد من مَعين حب الله، وتدثَّر بدِثار الخوف من الله، وتعلق بجناح الرجاء في الله، وصار قلبه مع الله ولله وبالله سيختصر في لحظة مئات السنين.
فهذا حبيب العجمي كان في أول أمره تاجرًا لا يتورع عن الربا، فمرَّ ذات مرة بصبيان، فقالوا: تنحوا عن حبيب؛ لئلا يصيبكم من غبار قدمه؛ فإنه آكل للربا، فأوجعته المقالة، وندِم وتحسر، وذهب للحسن البصري، فتاب عنده، فلما رجع، قال الأولاد بعضهم لبعض: اتقوا أن تؤذوا حبيبًا التائب بعجاج أقدامكم، فتكونوا بذلك من الخاطئين، فقال في نفسه: سبحان الله! الإقبال على الله يفضي في ساعة إلى الذكر الجميل والثناء الحميد.
يقول العلامة المجتهد ابن الوزير صاحب العواصم والقواصم:
"واعلم أن السر كله في إقبال القلب على الله تعالى، وأكثر الفقراء قد أغفلهم فقرهم عن الله، وأقبلوا بكليتهم على رجاء المخلوقين، فالله المستعان...".
فسرُّ القَبول هو قَبول سر تقدمه بين يدي الله تعالى، وتحافظ عليه، وتتشبث به، وتَعَض عليه بنواجذك، ولتكن هذه السريرة من إيمان وعمل؛ كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، والإيمان هو عمل القلب، فليكن في القلب حبٌّ لله، وخوف منه، ورجاء فيه، وهذا عمل القلب تجاه خالقه، وفرع ثانٍ هو حب الخير والهداية للناس والإشفاق عليهم، ثم إتْبَاع هذين الفرعين عملًا صالحًا بينك وبين مولاك من إحسان لوالدة، وإشفاق عليها، وبرٍّ بها أكثر مما يعمله الناس، ولا يكفي الطاعة، بل البر الذي هو أرفع درجةً من الطاعة، أو تعهد رحِمٍ، أو ركعات في جوف الليل، أو كفالة يتيم، أو رعاية أرملة، أو السعي في هداية الخلق، وذلك بعد إتقان الفرائض، واعلم أن الطريق من غير هذين الأمرين مغلق.
وفي الحديث: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...».
فالفرائض لا بد من الإتيان بها كاملة مكملة، والنوافل طريق للبلوغ إلى قمة هذا الحب، والمحافظة على نافلة من النوافل في السر باب عظيم للخلود والصيت الحسن إذا قُبِلَتْ.
وكما أن سر الصلاح صلاح السر، فكذلك سر القبول قبول السر.
وليس المطلوب الإكثارَ من النوافل، والتعبد ليلَ نهارَ، إنما المطلوب الإحسان، فمن أحسن فقد وفى، والإحسان أعلى درجات العبودية، فأحسِنْ يُحسِنِ الله إليك، وتقرَّب منه يقربك منه.
وكما أن الإحسان أعلى درجات العبودية، فالإقبال على الله أعلى درجات السعادة، والإقبال عليه يقتضي قطع العلائق عما سواه، وجمعية القلب والقالب على حبِّه، حتى يستولي على الروح والخاطر، فيحصل الأنس به، فمن أقبل عليه بصدقٍ جازاه مولاه بالإقبال عليه، وإغداق كرمه عليه، فكن من المقبلين عليه بقلبك، ولا تتردد، فكل السعادة في هذا الطريق، وإن بَدَتْ لك أنها موحشة لقلة سالكيها، فكن متحليًا بالشجاعة والإقدام، فسَيْرُ القلوب إليه بإقبالها عليه، والطريق إليه تقطع بالإقدام، كما أن المسالك تقطع بالأقدام، وتروح نعيم الرضا معه لتجد القبول في رحابه، والانشراح في محرابه.
اعمل ما يرضيه، وإن أسخطت الناس، فمن أسخط الله ليرضى عنه الناس، سخِط الله عليه وأَسْخَطَ عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضيَ الله عنه، وأرضى عنه الناس، صح بذلك الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أسرار هذا الطريق الخُلُقُ الحسن مع الناس، فهو أثقل شيء في الميزان، وأعلى درجة في كمال الإيمان، وبه تكون قريبًا من المصطفى في الجنان، وأن تكون خير الناس لأهلك في حلمك وصبرك، وعفوك وعطائك، وخدمتك وابتسامتك، فاعلًا ذلك ليرضى الله عنك، محتسبًا كل حركة ونأمة في ذاته العلية، ناظرًا إليه بقلبك، متطلعًا إليه بروحك، منصرفًا عن الخلق بتفكيرك؛ فكلهم من التراب، ومصدر غذائهم من التراب، ثم يصيرون إلى التراب؛ لتبقى روحك متعلقة بالعرش، فهناك تسطع عليك أنوار الألوهية، وترتقي في المقامات القدسية، وتصعد في المعارج الروحية، وتسمو إلى الكمالات العُلْوية، وتصل إلى منتهى السعادة القلبية.
________________________________________________
الكاتب: عامر الخميسي
- التصنيف: