فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَوَهَبْنَا لَهُۥ يَحْيَىٰ
«إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ »
أيها الإخوة الكرام: ورد فيما صح عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ » ".
الدعوة التي تخرج من لسان العبد خالصة، ليس فيها إثم، ليس فيها قطيعة رحم، هى دعوة لا تخيب، إما أن تستجاب مباشرة، وإما أن تؤجل الاستجابة إلى أجل، وإما أن يدفع عن العبد من السوء بقدر دعوته، وإما أن تدخر الدعوة ثوابا لصاحبها يوم القيامة.. لتعلموا انه في الأحوال كلها لن تخيب دعوة صادقة، ولن يرد الله ( كفا) رفعت إليه صفرا خائبة..
{﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا۟ لِى وَلْيُؤْمِنُوا۟ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾}
ومن الدعوات العظيمات العجيبات، والتي استجاب لها الخلاق العليم، بعظمته وحكمته وقدرته، دعوة النبي زكريا عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ..
النبي زكريا عليه السلام هو أحد الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى في بني إسرائيل حاله كحال موسى وهارون وداود وسليمان عليهم السلام..
عاش زكريا عليه السلام عمرا طويلا، ومعه زوجه من غير أن تقر عينه بولد من صلبه، ومرت به السنوات وهو على هذا الحال ( لم يولد له) حتى أصبح شيخا فانيا، كل ذلك وهو لا يشتكي،
بل كان عليه السلام راضيا محتسبا..
ولما كان من سنن الله تعالى في خلقه أنه سبحانه إذا أراد أمرا يسر له أسبابه...
عهد الله تعالى إلى زكريا بكفالة مريم ابنت عمران، يطعمها ويسقيها ويكسيها ويعلمها مما علمه الله.. قال الله تعالى {﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ ﴾ }
غير أنه في سنوات كفالة زكريا لمريم كان يرى عندها العجائب والغرائب..!!
{﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ ﴾} في حين أنه فقط من يدخل عليها، وهو فقط من يكفلها..!! {﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ ﴾ }
كان يرى عندها طعاما وثمارا لم يأت بها، كان يرى فاكهة الصيف تأتيها في الشتاء، وتأتيها فاكهة الشتاء في الصيف.. !!
{﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾}
إنها: قدرة الله التي لا تحدها حدود، ولا تدركها عقول البشر {﴿ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾} إنها قدرة الله التي لا يقف أمامها شيء، ولا يحجبها شيء.. {﴿ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾}
﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ ۖ ﴾ في ذلك الوقت، وفي تلك الساعة، وبينما زكريا عليه السلام بعينيه يرى تلك الكرامة لمريم ابنت عمران، وبينما قد رق عظمه، وانحنى ظهره، واشتعل رأسه شيبا، وكان قد جاوز السبعين من عمره، وبسبب خوفه أن يفسد الناس من بعده، سأل زكريا ربه ( ولدا) من صلبه وناجى ربه بهذه الكلمات {﴿ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ ﴾}
علق زكريا أمله في قدرة الله التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السموات، رفع أمره إلى الذي يقول للشيء كن فيكون..
والله تعالى يقول: {﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ ﴾ }
ورد أن زكريا عليه السلام دخل محرابه ولم يتكلم كثيرا فقط قال ( يا رب، يا رب، يا رب) قالها وهو موقن بالإجابة، فأجابه ربه ( لبيك، لبيك، لبيك)
سأل زكريا ربه ولدا صالحا في نفسه، مصلحا في بني اسرائيل، سأله لله، سأله لدين الله، ولم يسأله لنفسه، لم يسأله إلا خوفا أن ينقلب الناس على أدبارهم كافرين بعد موته، لهذا السبب ولا لشيء آخر، سال زكريا ربه أن يهب له ذرية طيبة، تصلح في بني اسرائيل، وترث النبوة والعلم منه ومن آل يعقوب، وأن يجعلها راضية مرضية {﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾} {﴿ وَإِنِّى خِفْتُ ٱلْمَوَٰلِىَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴾} {﴿ يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ۖ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾}
دعا زكريا عليه السلام هذه الدعوة وكان قد بلغ من الكبر عتيا، ثم إن امرأته كانت عاقرا لا تلد ولا يلد مثلها، لكنه عهد من الله ألا يرد دعوته ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾
سال زكريا ربه ان يرزقه ولدا من محض فضل الله تعالى وكرمه {﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَٰرِثِينَ ﴾ }
فاستجاب الله تعالى دعوة زكريا عليه السلام فأصلح له زوجه ، فصارت ولودا بعد أن كانت عقيما، ورزقه الله منها بيحي بحول الله تعالى وقوته، وعظمته وحكمته {﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَوَهَبْنَا لَهُۥ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُۥ زَوْجَهُۥٓ ۚ ﴾}
استجاب الله تعالى بواسع رحمته دعوة زكريا عليه السلام ( استجابة مباشرة) من غير أن يؤخرها، من غير أن يؤجلها، ورزقه بمولود، وتكفل الله تعالى بتسميته فسماه ( يحيى) {﴿ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾}
قال قتادة : سمي يحيى عليه السلام ب( يحيى) لأن الله تعالى أحياه بالإيمان والنبوة . وقال بعضهم : سمي يحيى ب (يحيى) لأن الله تعالى أحيا الناس على يديه بالهدى . وقال مقاتل : اشتق اسمه من اسم الله تعالى ( الحي) فسمي يحيى . وقيل : لأن الله تعالى أحيا به رحم أمه..
{﴿ يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسْمُهُۥ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾} { ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ } {﴿ قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْـًٔا ﴾ } {﴿ قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِّىٓ ءَايَةً ۚ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ } {﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا۟ بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾} {﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾} {﴿ وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا ﴾} {﴿ وَبَرًّۢا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾} {﴿ وَسَلَٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾}
علل الله تعالى هذه الاستجابة السريعة بأن زكريا وزوجه كانوا أسرع الناس إلى مرضاة الله عز وجل، في الشدة والرخاء وفي السراء والضراء، هم أسرع الناس إلى فعل الخيرات، وإلى عمل الصالحات، بل وكانوا يعبدون الله تعالى رغبة في رحمته وخوفا من عقابه لأجل ذلك عجل الله دعوته بالاستجابة {﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَوَهَبْنَا لَهُۥ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُۥ زَوْجَهُۥٓ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا۟ لَنَا خَٰشِعِينَ ﴾}
ذلك أن الله تعالى يتقبل من المتقين، ذلك أن الله تعالى مجيب لدعوات المخلصين الصادقين..
فلما أتت البشارة زكريا خرج إلى بني إسرائيل يسعى بينهم يسبح الله تعالى ويوحي إليهم أن سبحوا ربكم بكرة وعشيا ذكرا وشكرا لله رب العالمين على هذه النعمة.. {﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا۟ بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا جميعا صالح الأعمال إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير ..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن إجابة الله تعالى السريعة لدعوة زكريا عليه السلام، وما كان من إصلاح الزوج وهبة الولد.. بقى لنا أن نقول:
إن من النكت اللطيفة، ومن الإشارات الجميلة في قصة زكريا ويحيى عليهما السلام أن الله تعالى هو الذي اختار اسم الغلام فسماه ( يحيى) قال في شأن تسميته ب (يحيى) {﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾}
ورد في تفسير هذا الموضع من الآية {﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾} أي لم نسم أحدا قبل يحيى ب( يحيى)..
وقيل﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ أي لم نجعل له من قبل مثيلا ولا نظيرا..
وقيل﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ أي لم تلد العواقر مثله ولدا ..
{﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾} {﴿ وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا ﴾} {﴿ وَبَرًّۢا بِوَٰلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ ﴿ وَسَلَٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾}
ومن أروع ما قرأت في تفسير هذه الآية :﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ أن الله تعالى في ثناءه على يحيى عليه السلام اشترط القبلية ولم يشترط البعدية فقال ﴿ لَمْ نَجْعَل لَّهُۥ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾
لماذا؟!
لأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يخلق بعد يحيى عليه
السلام من هو أفضل منه وهو (محمد صلى الله عليه وسلم)
قال الله تعالى {﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ ۚ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدْنَٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ۗ ﴾}
أما الذي كلمه الله فهو: موسى عليه السلام..
وأما الذي أوتى البينات وأيده الله تعالى بروح القدس فهو: عيسى بن مريم عليه السلام..
أما الذي رفعه الله تعالى درجات فهو سيد الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلّم..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوردنا حوضه، وان يرزقنا شفاعته، وأن يكتب لنا صحبته في جنات ونهر عند مليك مقتدر.. اللهم آمين.
- التصنيف: