{ وإلهكم إله واحد }
الإله في كلام العرب هو المعبود حبًّا وتعظيمًا؛ ولذلك تعددت الآلهة عندهم، وأُطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه، وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله؛ لأن عبادة من لا يُغني عن نفسه، ولا عن عابده شيئًا عبثٌ وغلط...
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163، 164].
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ} [البقرة: 163]: إله بمعنى مألوه؛ و(المألوه) معناه: المعبود حبًّا، وتعظيمًا.
والإخبار عن "إلهكم" بـ"إله" تكرير ليجري عليه الوصف بواحد، والمقصود "وإلهكم واحد"، لكنه وسَّط لفظ {إِلَهٌ}؛ لتقرير معنى الألوهية، كما تقول: "عالم المدينة عالم فائق"، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام؛ أن يُعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره؛ ليُبنَى عليه وصف أو متعلق؛ كقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
{وَاحِدٌ} [البقرة: 163]: في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته؛ فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو، وفي ألوهيته؛ أي: في عبادته، فلا معبود بحق سواه.
والإله في كلام العرب هو المعبود حبًّا وتعظيمًا؛ ولذلك تعددت الآلهة عندهم، وأُطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه، وهو إطلاق ناشئ عن الضلال في حقيقة الإله؛ لأن عبادة من لا يُغني عن نفسه، ولا عن عابده شيئًا عبثٌ وغلط، فوصف "الإله" هنا بالواحد؛ لأنه في نفس الأمر هو المعبود، ولكن بحقٍّ.
وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم، فهو في مقام التغليط لزعمهم؛ نحو: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28]، والقرينة هي الجمع؛ ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163]: توكيد لمعنى الوحدانية، ونفي الإلهية عن غيره، واختصاص وحصر وتنصيص عليها؛ لرفع احتمال أن يكون المراد الكمال؛ كقولهم في المبالغة: "هو نسيج وحده"، أو أن يكون المراد إله المسلمين خاصة، كما يتوهمه المشركون؛ ألا ترى إلى قول أبي سفيان: "لنا العزى ولا عزى لكم".
فدلَّت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك؛ لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية.
{الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]: اسمان من أسماء الله؛ فالرحمن يدل على سعة رحمته، والرحيم يدل على إيصال الرحمة.
فألوهيته مبنية على الرحمة؛ وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3]؛ فإن ذكر هذين الاسمين بعد الربوبية يدل على أن ربوبيته مبنية على الرحمة.
وذكر هاتين الصفتين منبهًا بهما على استحقاق العبادة له؛ لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرًا سويًّا عاقلًا، وتربية في دار الدنيا، وموعودًا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة - جدير بعبادتك له، والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته.
وفي الجمع بين وصفي {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إغاظة للمشركين؛ فإنهم أبوا وصف الله بالرحمن؛ كما حكى الله عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
فإن قال قائل: إن هؤلاء المشركين قد يُفتنون بهذه الآلهة، فيدعونها، ثم يأتيهم ما دعوا به؛ فما هو الجواب؟
فالجواب عن هذا: إن هذه الأصنام لم توجِد ما دعوا به قطعًا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]، ولقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]؛ فيكون حصول ما دعوا به من باب الفتنة التي يضل بها كثير من الناس، والذي أوجدها هو الله عز وجل، لكن قد يُمتحَن الإنسان بتيسير أسباب المعصية ابتلاءً من الله عز وجل؛ فيكون هذا الشيء حصل عند دعاء هذه الأصنام لا به.
ثم أقام جل شأنه البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده؛ وهذا موقع الحجة من الدعوى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]؛ اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة، والطول والقصر، أو تساويهما وذلك بحسب أزمنة الفصول لمنافع العباد، وقدَّم الليل على النهار لسبقه في الخلق؛ قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]، فتكون ليلة اليوم هي التي قبله؛ وهو قول الجمهور.
وقد أُضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار؛ لأن كل واحد منهما يخلف الآخر، فتحصل منه فوائد تعاكس فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لانقلب النفع ضرًّا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 71، 72].
{وَالْفُلْكِ} [البقرة: 164] هي السفينة، وتطلق على المفرد؛ كما في هذه الآية، وعلى الجمع؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22].
وآية السفن سيرها في البحر، وهو ماء من شأنه أن يتعذر المشي عليه، فجري السفن آية من آيات إلهام الله تعالى الإنسانَ للتفطن لهذا التسخير العجيب الذي استطاع به أن يسلك البحر، كما يمشي في الأرض، وأول من عمل السفن نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: {الَّتِي تَجْرِي} [البقرة: 164] تسير {فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]، ووصفها بهذه الصفة من الجريان؛ لأنها آيتها العظمى، {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]، وأما كونها نعمة؛ فلأن في التسخير نفعًا للتجارة والزيارة والغزو وغير ذلك؛ ولذلك قال: {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164]؛ لقصد التعميم مع الاختصار، واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر؛ لأنه ذكرها هنا في معرض الامتنان.
{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 164]؛ من جهة السماء، {مِنْ مَاءٍ} [البقرة: 164]، ووجه العبرة أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها، فجعل الماء نازلًا عليها من ضدها؛ وهو السماء، عِبرة عجيبة؛ إذ إن أنهار الدنيا مهما كثرت لا تستطيع استيعاب كل جزء في الأرض بالري، فلا غنى عن ماء المطر.
{فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164] الفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء، وكلا الأمرين الفعل والفاء، {فَأَحْيَا} [البقرة: 164]، موضع عبرة وموضع مِنَّة، {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، نشر فيها من سائر أنواع الدواب، فالتنكير في دابة للتنويع؛ أي أكثر من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164]؛ أي: تنويعها في اتجاهها، وشدتها، ومنافعها، باختلاف مهابها؛ مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة، ومرة عقيم.
{وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]؛ أي: وتصريف السحاب، فلا يستطيع أحد أن يفرقه إلا الله، ولا يستطيع أحد أن يوجهه إلى أي جهة إلا الله، ولولا الرياح تسخره من موضع إلى موضع، لكان المطر لا ينزل إلا في البحار.
وموضع المنة هنا دلالته على القدرة: في تكوينه حتى يحمل الماء، وفي تسخيره لينتقل، وفي تكوينه بين السماء والأرض، فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء، فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبقَ في الهواء مقدرة على حمله؛ كما قال تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12].
وأما دلالته على الحكمة؛ فلأنه يأتي من فوق الرؤوس حتى يكون شاملًا لما ارتفع من الأرض، وما انهبط منها، ويأتي قطرات حتى لا ينهدم البنيان، ولا تشقق الأرض.
وأما دلالته على الرحمة؛ فلِما يحصل من آثاره من نبات الأرض المختلف الذي يعيش عليه الإنسان والبهائم.
{لَآيَاتٍ} [البقرة: 164] علامات دالة على كمال علم الله، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وسلطانه، وغير ذلك من مقتضى ربوبيته.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، دون أن يقال "للذين يعقلون"، أو "للعاقلين"؛ لأن إجراء الوصف على لفظ قوم، يومئ إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم، ومن مكملات قوميتهم، فإن القبائل والأمم لها خصائص تميزها وتشتهر بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ [التوبة: 56]، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب، فالمعنى أن في ذلك آياتٍ للذين سجيتهم العقل، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم.
ولم يقل: "لآيات لقوم يبصرون"؛ تغليبًا لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
فهذه ستُّ آيات كونية، كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته، وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه، فإن كل من كان أكثر توغلًا في بحار المخلوقات، كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته.
- التصنيف: