وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
{كُلُواْ} أمر إباحة وتسويغ {مِمَّا فِي الأَرْضِ} «من» يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) }
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والأول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]
وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها بـ {يا أيها الذين آمنوا}؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام؛ وهي أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون في هذه الرسالة؛ فصار التوجه إليها بالخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا}؛ لكنها ليست قاعدة؛ ولكنها ضابط يخرج منه بعض المسائل؛ لأن من السور المدنية فيها {يا أيها الناس}، كسورة النساء، وسورة الحجرات.
{كُلُواْ} أمر إباحة وتسويغ {مِمَّا فِي الأَرْضِ} «من» يحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ ويحتمل أن تكون للتبعيض؛ لكن كونها لبيان الجنس أولى؛ ويرجحه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29]؛ أي كلوا من هذا ما شئتم؛ ويشمل كل ما في الأرض من أشجار وزروع وبقول.. وغيرها؛ ومن حيوان أيضاً؛ لأنه في الأرض.
{حَلاَلاً} ما انحلت عقدة الحظر عنه، وهو ما أذن الله تعالى فيه {طَيِّباً} ما كان طاهراً غير نجس، ومستلذ لا مستقذر تعافه النفوس.
وطيبا: إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وهذا أولى؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.
وقوله: {حَلالاً} لبيان الحكم الشرعي، و{طَيِّباً} لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح.
وفيه تعريض بتحميقهم فيما أَعْنَتُوا به أنفسهم فحرموها من نعم طيبة افتراء على الله، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحل والتحريم.
والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي، وما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:138]
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} مسالك الشيطان وطرقة المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم .. كأنهم يقتفون آثاره، ويطئون عقبه، فكلما خطا خطوة، وضعوا أقدامهم عليها، وذلك مبالغة في اتباعه، وإرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر البشرية.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ} من سره مساءة شخص؛ أو غمه فرحه فهو عدو؛ فالعدو من يحزن لفرحك، ويُسَرّ لحزنك {مُّبِينٌ} ظاهر العداوة .. تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان، لأن من ظهرت عداوته واستبانت فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه.
ومن فوائد الآية: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]؛ ولهذا لم يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها - كما قال أهل العلم - زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 39 ــــ 47] .
ولما أخبر أنه عدوّ، أخذ يبسط علة العداوة وما نشأ عنها {إِنَّمَا} «إنما» أداة حصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، كما لو قلت: «إنما القائم زيد»؛ أثبتَّ القيام لزيد، ونفيته عمن سواه؛ والمعنى: ما يأمركم إلا بالسوء والفحشاء {يَأْمُرُكُمْ} وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمر والمأمور كأنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم، وفي هذا زيادة شنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم {بِالسُّوءِ} كل ما يسوء ويضر النفس، ويصيبها بالحزن والغم، ويدخل فيها سائر الذنوب، وقيل المعاصي الصغيرة {وَالْفَحْشَاء} كل خصلة قبيحة تجاوزت حدود الأدب وعظم إنكارها، كالزنا واللواط وأكل السحت وسائر المعاصي الكبيرة ذات القبح الشديد. وقال ابن عباس: كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ.
ومع أن المعاصي الصغار تقع مكفّرة بالأعمال الصالحة إذا اجتنبت الكبائر؛ لكنه يأمر بها؛ لأنه إذا فعلها الإنسان مرة بعد أخرى فإنه يفسق، ويقسو قلبه؛ ثم لا ندري أتقوى هذه الأعمال الصالحة على تكفير السيئات، أم يكون فيها خلل، ونقص يمنع من تكفيرها السيئات.
{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} معطوف على {السوء والفحشاء} من باب عطف الخاص على العام؛ فإنه داخل إما في السوء، أو الفحشاء؛ وهو أيضاً إلى الفحشاء أقرب.
يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أمر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله.
ولذلك قال الأصوليون: يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس: إنه دين الله ولا يجوز أن يقول قاله الله، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقراة من الشريعة انعقد الإجماع عليها، وهي: وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والقضاء وخاصة نفسه، فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يرضى الله تعالى بحسب ما كلف به من الظن.
قال ابن عثيمين: إذا قال قائل: ألستم تبيحون الفتوى بالظن عند تعذر اليقين؟
فالجواب: بلى؛ بشرط أن يكون لهذا الظن أساس شرعي ــــ من اجتهاد، أو تقليد لمن هو أهل لذلك ــــ يبنى عليه؛ فإذا أفتينا بالظن لتعذر اليقين فقد أفتينا بما أذن الله لنا فيه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]؛ ومعلوم أن القول بغلبة الظن خير من التوقف؛ وكثير من مسائل الفقه التي تكلم فيها الفقهاء، واختلفوا فيها من هذا الباب؛ لأنها لو كانت يقينية لم يحصل فيها اختلاف؛ ثم إن الشيء قد يكون يقيناً عند شخص لإيمانه، وكثرة علمه، وقوة فهمه؛ ومظنوناً عند آخر لنقصه في ذلك.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} الكفار {اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ} زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.
فهذا إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرّع للشرائع، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضلالة.
{قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} وجدنا، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [لقمان:21] {عَلَيْهِ آبَاءنَا} من الشرك {أَوَلَوْ} الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم.. ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازا {كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} المراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد، وهو حسن تصرف {وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي لا يعملون عمل العالم المهتدي؛ وبهذا انتفى عنهم الرشد في العلم والعمل.. وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطأ في اتباع آبائهم عن غير تبصر ولا تأمل.
وفي الآية: ذم التعصب بغير هدى، وأن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال، ولم يتدبروا ما يقال لهم، وصموا عن سماع الحق، وخرسوا عن النطق به، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي {كَمَثَلِ} الراعي {الَّذِي يَنْعِقُ} يصيح، فالنعق نداء الغنم {بِمَا لاَ يَسْمَعُ} أي الغنم {إِلاَّ دُعَاء} طلب القريب {وَنِدَاء} طلب البعيد.
{صُمٌّ} الذي لا سمع {بُكْمٌ} الذي لا ينطق {عُمْيٌ} .. أي فهم صم عن سماع الحق؛ ولكن سماع غيره لا فائدة منه؛ فهو كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به.. وهذا تشبيه بليغ
{فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} تفريع كمجيء النتيجة بعد البرهان .. أي لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإِدراك عندهم وهي عقل الرشد، وإن كان عندهم عقل إدراك.
وهي صورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء، فإذا نعق بها دعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لِذبحها، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد الطويل والاتباع بدون دليل.
وقوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي ومثل داعي الذين كفروا فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دويّ الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم شيئاً آخر.
وقيل: وقع التشبيه بالراعي للضأن، لأنها من أبله الحيوان، فهي تحمق راعيها. وفي المثل السائر: "أحمق من راعي ضأن ثمانين". وقال دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ لمالك بن عوف، يوم هَوَازِن: راعي ضأن والله، لأنه لما جاء إلى قتال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء، فلما لقيه دريد قال: أراك سقت المال والنساء؟ فقال: يقاتلون عن أموالهم وحريمهم. فقال له دريد: أمنت أن تكون عليك "راعي ضأن والله".
ومن فوائد الآيات: تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال. وحرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع. ووجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك. ولا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين، لأن اتباع الجهال يعتبر تقليداً مذموما.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} هذا الخطاب مؤكداً لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ}، ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر، ميز الله المؤمنين بهذا النداء، تشريفاً لهم وتنبيهاً على خصوصيتهم.
{كُلُواْ} الأمر بالأكل المعهود. وقيل: المراد الانتفاع به، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع، إذ كان الأكل أعظمها، إذ به تقوم البنية. وهذا أقرب إلى المعنى، لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك.
{مِن طَيِّبَاتِ} أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
{مَا رَزَقْنَاكُمْ} فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان.
{وَاشْكُرُواْ لِلّهِ} هذا من الالتفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر، وليس على هذا الإذن الخاص، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص.
{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته، لأن الشكر رأس العبادات. مثل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم، والمعنى: إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده. فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلهية والخضوع والاعتراف، وليس المراد بها الطاعات الشرعية.
وفي الآية: الرد على الجبرية من قوله تعالى: {كلوا}، و{اشكروا}، و{تعبدون}؛ كل هذه أضيفت إلى فعل العبد؛ فدل على أن للعبد فعلاً يوجه إليه الخطاب بإيجاده؛ ولو كان ليس للعبد فعل لكان توجيه الخطاب إليه بإيجاده من تكليف ما لا يطاق.
{إِنَّمَا حَرَّمَ} حظر ومنع .. ولما أمر تعالى بأكل الطيبات في الآية السابقة، كان الإذن بأكل الطيبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبينا المحرمات وهي أضداد الطيبات، لتعرف الطيبات بطريق المضادة المستفاد من صيغة الحصر، وإنما سلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار؛ فإن المحرمات قليلة، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم.
{عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية مما له نفس سائلة، باستثناء السمك والجراد، أما الذي يعيش في البر والبحر يعطى حكم البر تغليباً لجانب الحظر {وَالدَّمَ} المسفوح السائل، لا المختلط باللحم {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه، وقيل أن أكله يقطع الغيرة ويذهب بالأنفة، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا، وذكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه.
قال ابن عاشور: ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية.
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ} نودي عليه بغير اسم الله تعالى .. سمي ذلك إهلالاً، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر {لِغَيْرِ اللّهِ} والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله، فيندرج في لفظ غير الله: الصنم والمسيح والفخر والتباهي واللعب.
وروي عن علي أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا.
وهل يكون ذبح الذبيحة للضيف إهلالاً بها لغير الله؟
الجواب: إن قصد بها إكرام الضيف فلا يدخل بلا شك، كما لو ذبح الذبيحة لأولاده ليأكلوها، وإن قصد بذلك التقرب إليه، وتعظيمه تعظيم عبادة فإنه شرك، كالمذبوح على النصب تماماً، فلا يحل أكلها؛ وقد كان بعض الناس ــــ والعياذ بالله ــــ إذا قدم رئيسهم أو كبيرهم يذبحون بين يديه القرابين تعظيماً له ــــ لا ليأكلها، ثم تترك للناس ــــ؛ وهذا يكون قد ذبح على النصب؛ فلا يحل أكله ــــ ولو ذكر اسم الله عليه ــــ.
وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق: إنها مما أهلّ بها لغير الله، فتركها الناس.. فقد راعى علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- النية في ذلك.
فلما بين ما حرم، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما سئل عما يلبس المحرم فقال: (لا يلبس القميص ولا السراويل)، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ.
لكن حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله؛ لقوله تعالى: {إنما}؛ لأنها أداة حصر؛ لكن هذا الحصر قد بُين أنه غير مقصود؛ لأن الله حرم في آية أخرى غير هذه الأشياء: فحرم ما ذبح على النصب - وليس من هذه الأشياء -؛ وحرم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ وحرم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحمر الأهلية - وليس داخلاً في هذه الأشياء -؛ فيكون هذا الحصر غير مقصود بدلالة القرآن والسنة.
ومن فوائد الآية: أن الشرك قد يؤثر الخبثَ في الأعيان ــــ وإن كانت نجاسته معنوية ــــ؛ فهذه البهيمة التي أَهل لغير الله بها نجسة خبيثة محرمة؛ والتي ذكر اسم الله عليها طيبة حلال؛ تأمل خطر الشرك، وأنه يتعدى من المعاني إلى المحسوسات؛ وهو جدير بأن يكون كذلك؛ لهذا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} [التوبة:28] مع أن بدن المشرك ليس بنجس؛ لكن لقوة خبثه المعنوي، وفساد عقيدته وطويته صار مؤثراً حتى في الأمور المحسوسة.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} من ألجأته الضرورة –التي يكون الضرر منها- إلى أكل شيء من هذه المحرمات {غَيْرَ بَاغٍ} الطالب لأكل الميتة من غير ضرورة، وقيل: مجاوز القدر الذي يحل له، متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته، فيجيء أكله شهوة {وَلاَ عَادٍ} المتجاوز لقدر الضرورة، وقيل: المتزود {فَلا إِثْمَ} جناح {عَلَيْهِ} نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل، لا وجوب الأكل.
قال ابن عاشور: إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والغدوان بأنه سيبغى ويعتدى وهذا تحديد منضبط، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع وتتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع، وإذا خاف أن تستمر به الحاجة -كمن توسط فلاة في سفر- أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى أم لا.
وقال الطبري: ليس الأكل عند الضرورة رخصة، بل ذلك عزيمة واجبة، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً.
وقال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
{إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل قصد به التعليل أو الامتنان، والمعنى: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة.
فلما ذكر سبحانه أشياء محرمة اقتضى المنع منها، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم، لأن المخاطب بصدد أن يخالف، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات، فأخبر بأنه غفور رحيم بهم.
و «الغفور» مأخوذ من الغَفْر؛ وهو الستر مع الوقاية؛ وليس الستر فقط؛ ومنه سمي «الْمِغْفَر» الذي يغطى به الرأس عند الحرب؛ لأنه يتضمن الستر والوقاية؛ ويدل لذلك قوله تعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة، وحاسبه: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)
والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21] فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل وأهل التأويل ــــ والأصح أن نسميهم أهل التحريف ــــ يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة ولين؛ والرقة واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: