قدوات الشباب
إذا غابت القدوات أو غُيِّبُوا، فانتظر جيلًا تافهًا في تفكيره واهتماماته، ومن يزرع الشوك فلا يتحيَّن خُروج العِنب، إذا فُقِدَت القُدْواتُ في باب العمل، فانتظر جيلًا خاملًا كسولًا...
أيها الكرماء الأجِلَّاء عباد الله، الشباب هم الدِّرْع الذي يقي الأُمَّةَ من سهام الأعداء، وهم الصخرة التي تنكسر عليها أطماع وأحلام الأعداء، وهم عماد النهضات، وهم أهل العزائم والشجاعة والإقدام والتضحيات.
ولقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه المرحلة بمرحلة القوة بين ضعفَينِ، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
ولقد حثَّ الإسلام على اغتنام هذه المرحلة من العمر، فكان من وصاياه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان، وأحمد في مسنده، من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
وفي التأكيد على اغتنام هذه المرحلة من العمر بيَّنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الإنسان سيُسأل أمام الله جل وعلا عن هذه المرحلة خاصة، مع سؤاله عن عمره عامة، رَوى ابنُ حِبَّان والتِّرْمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أربعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ».
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه» وذكر من بينهم «وشابٌّ نَشَأ في عبادةِ الله».
وإنَّ المتأمِّل في كتاب الله جل وعلا وما جاء في سِيَر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، يجد أنَّ الله قد خصَّهم بالنبوَّة وهم في مرحلة الشباب؛ لما في هذه المرحلة من وجود ما يمكنهم من تبليغ رسالات ربِّهم، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بعث اللهُ نبيًّا إلا شابًّا، ولا أُوتي العِلْم عالِم إلَّا شابًّا، ثم تلا هذه الآية في حق إبراهيم عليه السلام، يقول جل وعلا: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، وقال الله في حق يحيى عليه السلام: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، وقال عن موسى عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]، وقال عن يوسف عليه السلام، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].
ولقد أوحى الله إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّ الأربعين وهو سِنُّ اكتمال الشباب؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديدَ الحفاوة بالشباب، شديد الحُبِّ لهم، شديد العناية بهم، فالشباب بلا نزاعٍ هم مستقبل الأُمَّة بإذن الله، الشباب هم أمل الأمة بعد الله تبارك وتعالى، فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما تملأ النهار في وسطه وأوله، تلك هي مرحلة الشباب، ومرحلة الطاقة، ومرحلة الفتوة، ومرحلة العمل، ومرحلة الإرادة.
معاشر المسلمين، إن قضية التربية الصالحة الصحيحة، قد شغلت الآباء والأمهات، والمربِّين والمربيات، كُلٌّ يريد أن يخرج جيلًا قويًّا، جيلًا يكون شامة في جبين التاريخ، يُعيد للأمَّة أمجادَها، ويُحيي لها ذكرها، ومن أهم وسائل التربية الصحيحة: التربية بالقدوة؛ فإن للأفعال تأثيرًا لا يقل أثره عن الأقوال والتوجيهات، والناس -كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله- لا يتعلمون بآذانهم؛ بل بعيونهم.
♦ وإن الحديث عن قيمة القدوة الحسنة، ووجود القدوات ليس حديثًا مترفًا، ولا تنظيرًا فلسفيًّا قليل الفائدة والمحتوى؛ بل الواقع أن الإنسان إنما يكتسب أخلاقه وخبراته ومهاراته بالمحاكاة والاقتداء، والمشاهد أن الفعل الصامت يغلب القول البرَّاق، أنا وأنت، وهو وهي، كُلٌّ مِنَّا بحاجة إلى وجود القدوة الهادي، وهي حاجة فطرية جِبِلِّيَّة.
وفي محكم التنزيل أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإخوانه الأنبياء عليهم السلام، فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
♦ ولو تأمَّلت حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدْتَ الخير فيهم، والتميُّز موزَّعًا بينهم، فأرحم الأمة بالأمة أبو بكر الصديق، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأشجعهم عليٌّ، وأفرضهم زيدٌ، وأقرؤهم أُبَيٌّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذٌ، وإن لكل أمةٍ أمينًا، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
أيها المسلمون، القدوة ليست كلماتٍ تُقال وتُنمَّق، ولا عبارات تُدبَّج وتُعلَّق؛ بل هي فِعال وحال قبل أن تكون كلامًا ومقالًا.
بالقدوة تستصلح البيوت أو تفسد، وبالقدوة تُبْنى الأجيال أو تضيع، فإنْ أردتم التغيير الناعم والتأثير الساحر، فاصنعوا القدوات الصالحة، خذوها وعوها: إن غرستم القدوات الصالحة، جنيتم جيلًا صالحًا طيِّب الأعراق، أعطني قدوة واحدة، ووفِّر بعدها ألف خطبة، وألف ألف مقال، أعطني قدوة صالحة، أعطيك عشرة أمثاله؛ بل أكثر، والله يبارك لمن يشاء.
وإذا تساقطت القدوات أو أُسْقِطوا، فلا تجني من الأجيال إلَّا أشباه الرجال:
إذا غابت القدوات أو غُيِّبُوا، فانتظر جيلًا تافهًا في تفكيره واهتماماته، ومن يزرع الشوك فلا يتحيَّن خُروج العِنب، إذا فُقِدَت القُدْواتُ في باب العمل، فانتظر جيلًا خاملًا كسولًا، وإذا فقدت قدوات الأمانة، فارتقب حينها جيلًا خائنًا فاسدًا، للحقوق آكلًا ومُضيِّعًا، وإذا غابت القدوات في العلم فسيتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فغياب القدوة الصالحة نتيجته الحتمية: ظهور قدوات فاسدة، وهذا ما فَهِمَه وأدركَه أعداءُ الإسلام والمسلمين.
♦ وإنَّ نظرةً سريعةً لحال الشباب المسلم بنين وبنات، والنظر في ملابسهم وقَصَّات شعورهم، وجديد الموضة عندهم، وحال أخلاقهم والتمعُّن في دراسة ظاهرهم كافية لتدلك على ما في قلوبهم، وإن استبيانًا سريعًا حول مَن تُحِبُّ أن تكون؟ أو مَن هو قدوتك الأولى؟ أو مَن هو مَثلُك الأعلى؟ يكفي لفضح المستوى الذي وصل إليه حال أبنائنا وشبابنا وبناتنا، ومدى النجاح الذي حقَّقَه الساعون في تضليل الأُمَّة وإسقاطها، والمحاربون لدين الله وشرعه.
وإن النهوض بأيِّ أُمَّة لا بُدَّ أن يسبقه نهوضٌ بِهِمَم شبابها وعلوٌّ في سقف آمالهم وأمنياتهم، وتحفيزٌ حقيقيٌّ وسعيٌ حثيثٌ للأخذ بهم إلى طلب المعالي، وفعل أهل المروءات، ولا يتأتَّى هذا إلا إذا وُجِّهَتْ كل وسائل التربية والتوجيه إلى هذا الهدف السامي، ويأتي في مقدمة وسائل بلوغ هذا الهدف إعادة النظر في اختيار القدوات المقدمة لهم.
والحمد لله أن تاريخ هذه الأمة المجيد ينضح بالعظماء الذين يصلح كل واحد منهم أن يكون أمةً بذاته فضلًا عن أن يكون قدوةً من القدوات؛ إنهم مصابيح هداية تصلح أن تنير طريق كل من اهتدى بها وسار على دَرْبها، واقتفى آثارها، ولك أن تتخيَّل كيف كان هؤلاء الكِبار بعد أن تسمع هذه الصور لبعض صغار السِّنِّ فيهم، فإن عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الشباب حين كذَّبه معظمُ شيوخ مكة! يقول أبو حمزة الخارجي: "وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا!".
أيها الأحِبَّة الكِرام، إن الذين حملوا لواء هذا الدين، وقادوا الجيوش، وفتحوا الأمصار، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها، كانوا من الشباب المحِبِّ لدينه، الساعي لرفع رايته، وإعلاء كلمته، الذين انتشر بهم الإسلام.
صور مشرقة: أيها الكرماء الأجِلَّاء عباد الله، هذه بعض الصور المشرقة لشباب ضربوا أروع الصور المشرقة التي تأخذ بالعقول وتُبهِر الألباب، فلعله يكون في عرض هذه النماذج الرائعة سبيلًا إلى الخروج من الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم، وسببًا لنا ولشبابنا في التأسِّي والاقتداء بهذا الجيل الذي لن يتكرَّر.
♦ فهذا غلام من شباب الصحابة لا يتجاوز عمره عشر سنين عندما بُعِث النبي وجاءه الوحي بادَرَ فكان أول من أسلم ودخل في الإسلام إنه عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه، كما قال كثيرٌ من العلماء، وفي هذا دليل واضح على رجحان عقله، وعلوِّ هِمَّتِه، وسموِّ نفسِه، وهو في هذه السِّنِّ! فلم يستصغر نفسه ويقول: من أنا حتى أتقدَّم على كبار قومي في هذا الأمر الجَلَل؟! فبمجرد أنه عرَف الحق وتبيَّن له الباطل الذي يعيش عليه مجتمعه شَهِدَ شهادةَ الحق، ولم يقل: كيف أخالف أهلي وقومي وعشيرتي؟! وتأمَّل كيف أنه في هذا السِّنِّ لم يكن يشغله اللعب واللهو والضياع؛ بل رأى في نفسه أنه جدير كل الجدارة أن يكون فخرًا لكل شباب الإسلام في كل زمان ومكان بأن يكون أول من دخل في دين الإسلام وهو غلام لا يتجاوز عُمُرُه العشر سنين، فللَّهِ دَرُّه!
ففي يوم الهجرة كان الفدائيَّ الذي نام في فِراش رسول الله، وكان عمره يومئذٍ (23) سنة، وعرَّض نفسه للقتل ونقمة قريش، ثم أكرمه الله بأن جعل على فِراشه فاطمة.
وجاهد في بَدْر، وكان عليٌّ أحد الثلاثة الذين بدأوا المبارزة (هو وعمُّه حمزة، وابن عمِّه عبيدة بن الحارث)، فبارز عليٌّ رضي الله عنه شيبةَ بن ربيعة وقتله؛ ممَّا رفع الرُّوح المعنوية للمسلمين.
• ويوم خيبر قال صلى الله عليه وسلم: ((ل «أُعْطينَّ الرايةَ رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه...»، ودفع الراية إلى عليٍّ، ففتح الله عليه؛ (رواه أحمد ومسلم والترمذي).
• وفي الخندق، هو الذي بارز كبش الكتيبة عمرو بن ود العامري، فقتله، وكان عمرو قد شهد بَدْرًا ونذر ألَّا يمس رأسه دهنًا حتى يقتل محمَّدًا!
• ولازم عليٌّ أبا بكر وعمر وعثمان في الحكم، فكان المستشار والوزير والمعين، ولطالما قال عمر: "لولا عليٌّ لهلك عمر" فماذا عن شباب اليوم؟!
♦ وهذا شاب في السابعة عشرة من عمره، وقيل: "ثمانية عشر عامًا" يقود جيشًا، قال عليه الصلاة والسلام: «وايم الله»؛ أي: وأيمنُ ويمينُ، «وايمُ اللهِ، لقد كان خليقًا للإمارة، وإن كان مِن أحبِّ الناسِ إليَّ» قال عليه الصلاة والسلام في أبيه وفيه: «وإن هذا لمن أحبِّ الناسِ إليَّ بعده»؛ (رواه البخاري).
• إنه أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، أرسله النبي على رأس جيش، فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ رضي الله عنهم، سار بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل إلى شمال الجزيرة، وينتصر على كل مَنْ لَقِيه حتى بلغ مؤته، وأدخل الرُّعب في قلب هرقل ومن معه، وكرَّ راجعًا إلى المدينة سالمًا غانمًا بدون أن يقع شيء لجيشه حتى قال المسلمون: "ما رأينا جيشًا أسلم من جيش أسامة" يعني: رجع سالمًا دون أي إصابة.
♦ وهذا أحد السابقين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشَّرين، وبطل القادسية وفاتح المدائن؛ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أسلم وهو في السابعة عشرة من عمره، ولم يكن ينصرف إلى اللهو الذي يحبُّه الفتيان؛ بل يصرف همَّه إلى بَرْي السهام والتمرُّس بالرماية، وحين أسلم تعرَّض لأقسى التجارب، وهو الذي قال: "كنت برًّا بأمِّي، فلما أسلمتُ قالت: يا سعدُ، ما هذا الدين الذي أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيَّرَ بي، فيقال: يا قاتل أمِّه، وأصبحتْ وقد جُهدت، فقلتُ: يا أمَّه، تعلمين والله لو كان لك مئة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركتُ ديني، إن شئتِ فكُلِي أو لا تأكُلِي! فأكلت"؛ (رواه أحمد ومسلم والترمذي).
وقد بذل سعد نفسه ووقته وماله في سبيل الله، وكان أول مَن رمى بسهم في سبيل الله، وكان مستجاب الدعوة، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ استجِبْ لسَعْدٍ إذا دعاك»؛ (رواه الترمذي والحاكم، وصحَّحه ووافقه الذهبي).
وقد شهد سعد المشاهد كُلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبلى فيها بلاءً حسنًا، ففي بَدْر كان يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيَضَع السهم في كبد القوس، ثم يقول: "اللهُمَّ زَلْزِلْ أقدامَهم، وأرعِبْ قلوبَهم، وافعَلْ بهم وافْعَل"، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ استجِبْ لسعد».
وفي أُحُد كان سعد مِمَّن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان صلى الله عليه وسلم يناوله النَّبْل وهو يقول: «ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي»، حتى إنه ليناوله السهم ما له من نصل، فيقول: «ارْمِ به»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وهكذا في كل معركة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
♦ وهذا طفل صغير تمنَّى الشهادة في سبيل الله بصِدْقٍ فنالها؛ بل بكى خوفًا من أن يُحرَم هذه الأمنية العظيمة: إنه عُمير بن أبي وقاص رضي الله عنه أخو سعد بن أبي وقاص، أراد أن يشهد غزوة بَدْر، وكان عمره أربع عشرة سنة (14 سنة)، وقيل: "ستة عشر سنة (16 سنة)، يقول سعد بن أبي وقاص كما في مستدرك الحاكم: رأيت أخي عمير قبل أن يعرضنا رسول الله يوم بَدْر يتوارى- أي: يختبئ في الجيش - فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيردني، وأنا أُحِب الخروج؛ لعَلَّ الله يرزقني الشهادة.
يريد الشهادة! ماذا يفعل بعض الأبناء اليوم في هذه السِّنِّ؟ قال سعد: فعرض عمير على رسول الله فردَّه لصغره، فلما ردَّه بكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، وقتل ببَدْر، قتله "عمرو بن عبد وُد" أحد صناديد قريش.
♦ ويقف اثنانِ من شباب الصحابة عن يمين عبدالرحمن بن عوف وشماله ليسألانِه، فيقول قائلهما: "يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا بن أخي؟! قال: أخبرت أنه يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يُفارِق سوادي سوادَه حتى يموت الأعجل منا"؛ [رواه البخاري، ومسلم].
لا يُفارق الخيال الخيال حتى يموت الأعجل مِنَّا؛ سبحان الله فرعون هذه الأمة وطاغية زمانه يكون مصرعه على يدي غلامينِ شابَّينِ من شباب الصحابة الكرام! لماذا؟! حتى تكون الصورةُ واضحةً جليَّةً يتبيَّن من خلالها إلى أيِّ حَدٍّ وصل مستوى أولئك الشباب الأفذاذ.
♦ وهذا الطفل الإمام عمرو بن سلمة- كما في صحيح البخاري- كان عمره ست سنين أو سبع سنين، وكان إمامًا لقومه يَؤُمُّهم في الصلاة؛ لأنه كان أحفظهم للقرآن، فلما بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا حضرت الصلاة فليُؤذِّنْ أحدُكم، وليَؤُمَّكم أكثرُكم قرآنًا»، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثرَ قرآنًا من عمرو بن سلمة الطفل الذي عمره لا يتجاوز السبع سنين، فقدَّموه ليكون إمامًا لهم! فلا أدري هل العجب من أولئك القوم الذين قدَّموا هذا الطفل رغم ما كان عندهم من الأنَفَة والكِبْر والغطرسة التي عُرِف بها العرب قبل الإسلام؛ ولكنهم فعلوا ذلك إذعانًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ونظرة إكبار لهذا الطفل الذي كان أحفظ للقرآن من غيره، وفي ذلك إعطاء نموذج رائع في مجال التربية، فكم سيكون لهذا الفعل من الأثر العظيم في نفوس الشباب والأطفال الآخرين الذين يرون عمر بن سلمة وهو إمام لقومه، أمِ العجب من هذا الطفل الذي لم يحتقر نفسه ويقُلْ: مَنْ أنا حتى أكونَ إمامًا لمن هم أكبر مني من الصحابة، ولم يشتغل باللعب المعهود عند الأطفال عادة؛ بل كانت هِمَّتُه بهذه المكانة التي تعجز عن وصفها الكلمات، فلله درُّهم من جيل لن يتكرَّر، ونسأل الله أن يرزقنا محبَّتَهم والتشبُّه بهم.
♦ وهذا مصعب بن عُمَير الشاب رضي الله عنه يذهب سفيرًا إلى المدينة ليفتحها بالقرآن وليس بالسيف، ومعلوم دوره رضي الله عنه، وهكذا معاذ يذهب إلى اليمن، يرسل شابًّا واحدًا لبلد بأكملها! لكن هؤلاء على قدر القيام بهذه المهمة، فينشر الإسلام في اليمن.
♦ ويردُّ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فقيل "يا رسول الله، إن رافعًا رامٍ"! يجيد الرمي، فأجازه، فقيل:"يا رسول الله، إن سمرة يصرع رافعًا لو صارعه" فأجازه.
♦ وهذا حواريُّ رسول الله وابن عمته صفية، وأوَّل مَن سلَّ سيفَه في سبيل الله، وكان فارِسًا مغوارًا، لم يتخلَّف عن غزوة واحدة! وكان يُسمِّي أبناءه بأسماء الشهداء من الصحابة.
إنه الزبير بن العوَّام رضي الله عنه: أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وتلقَّى التعذيب على دينه من عمِّه، فكان يصبر ويقول: "لا أرجع إلى الكُفْر أبدًا".
وكان في صدره مثل العيون، من كثرة الطعن والرمي، وقَتَلَ يوم بَدْر عمَّه نوفل بن خويلد بن أسد، وفي أُحُد وفي قريظة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «فِداك أبي وأمي» !، وفي الخندق قال صلى الله عليه وسلم: «من يأتيني بخبر القوم» ؟)) فقال الزبير: "أنا"، فذهب على فرس فجاء بخبرهم، ثم قال الثانية ففعل، ثم الثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكُلِّ نبيٍّ حواريٌّ، وحواريَّ الزبير»؛ (رواه الشيخان).
وكانت له شجاعة نادرة في اختراق صفوف المشركين يوم حنين ويوم اليرموك واليمامة، وكان له دورٌ عظيمٌ في فتح حصن بابليون، وتمكين عمرو بن العاص من استكمال فتح مصر، وكان كريمًا سخيًّا، يُكثِر الإنفاق في سبيل الله رضي الله عنه وأرضاه.
♦ وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد كان عمره عندما هاجر النبي إلى المدينة إحدى عشرة سنة (11 سنة) كما ثبت ذلك في "معجم الطبراني الكبير" بسند حسن، وأراد أن يشهد غزوة بَدْر وسِنُّه ثلاث عشرة سنة (13سنة) فاستصغره النبي وردَّه، وأراد أن يشهد غزوة أُحُد، وكان عمره أربع عشرة سنة (14 سنة) وردَّه النبي أيضًا، وأول مشاهده الخندق، وكان عمره خمس عشرة سنة (15 سنة).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «يا زيد، تعلَّم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمن يهود على كتابي»، قال زيد: "فتعلَّمْتُ كتابهم، ما مرَّت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب"؛ (رواه أحمد، وحسن إسناده الأرناؤوط وغيره في تحقيق المسند).
فهذا تعلَّم لغة بأكملها، تعلَّم لغة في خمس عشرة يومًا لحاجة النبي، وحاجة الإسلام، وهكذا استمرت معه هذه الخصلة ليقال له بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام: "يا زيد"- لكن القائل أبو بكر هذه المرة- "إنك رجل شابٌّ عاقل، ولا نتَّهِمُك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه"، وهكذا يقول زيد، وهو يشعر بثقل هذه المهمة، والعبء الذي كُلِّف به: "فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جَمْع القرآن...، فقمت، فتتبعتُ القرآنَ أجمعُه من الرِّقاع، والأكتاف والعُسب، وصدور الرجال"؛ (رواه البخاري)، وهكذا كُلِّف زيد رضي الله عنه برئاسة اللجنة التي شُكِّلت مِن الصِّدِّيق والفاروق لجَمْع القرآن الكريم، فأيُّ مهمة تلك التي قام بها ذلك الشاب، نفعت أجيال الأمة إلى أن تقوم الساعة، وكانت من أسباب حفظ الله لكتابه.
أيها الإخوة الكِرام، هذا غيضٌ من فيضٍ، وفي سيرة سلفنا الصالح من الشباب ما يجل عن الحصر؛ ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وعلى شبابنا الاهتمام والعناية بهذه السيرة المباركة واتخاذهم قدوة؛ حتى يلحقوا بركبهم، وينهلوا شيئًا من بركاتهم التي حلَّت عليهم بفضل جهادهم وعبادتهم، وعلمهم.
• فيا شباب الإسلام، يا أملًا يداعب فجرنا الزاهر، ويا صوتًا يشيع الرعب في قلب العدوِّ الغادر، ويا دِرْعًا يصون الدين ويحمي عرضنا الطاهر، عودُوا إلى ربِّكم؛ لتعود لنا السيادة والقيادة.
أيُّها الكرماء الأجِلَّاء، عباد الله، يقول الله عز وجلَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وعن مَعْقِل بْن يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
أيها الوالد، أنت مسؤول عن تنشئة ولدك في طاعة الله, إنك لا تجني من الشوك العنب، مَنْ زَرَعَ حَصَد، بقَدْر ما تزرع تحصُد، إننا نحتاج أن نعرض على أبنائنا بطولات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبادتهم، وطرائق فكرهم، وعلوَّ هِمَمِهم، ومدى ما حقَّقُوه في زمانٍ بسيطٍ جدًّا لدين الله تعالى.
نحتاج أن نعرض قدوات صغار الصحابة؛ كابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت الذي تعلَّم لغة اليهود في خمسة عشر يومًا وأتقنها حتى كان يترجم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كُتُبَهم، ويترجم بينه وبين رسلهم ترجمةً فوريَّةً.
♦ نحتاج أن نعرض للشباب قدوات أمثالهم؛ مثل: أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، ومحمد بن الثقفي، ومحمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو في الخامسة والعشرين من عمره بعدما استعصت على المسلمين طيلة ثمانمائة سنة (800 سنة) ونال بذلك بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الإمام أحمد من حديث بشر الغنوي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: ((لتفتحنَّ القسطنطينية، ولَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ولَنِعْمَ الجيشُ ذلك الجيشُ)).
♦ ومحمد بن القاسم الثقفي وهو أشهر الفاتحين في زمن بني أمية، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، وفتح السند (باكستان) والهند، ووصلت فتوحاته إلى مشارق الأرض، وكان أحد الشعراء يقول:
قَادَ الْجُيُوشَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ حجَّةً
يَا قُرْبَ ذَلِكَ سُؤْدُدًا مِنْ مَوْلِدِ
♦ وقتيبة بن مسلم الذي فتح الحصون، ووصلت فتوحاته إلى الصين، وإلى الجمهوريات المشهورة الآن في روسيا، قاد الجيوش وعمره دون الثلاثين، وكلهم كانوا قادة جيوش وفتوح كبرى في التاريخ وهم أبناء العشرين أو دونها قليلًا أو فوقها قليلًا.
حتى الكبار يحتاجون إلى قدوات؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الكِرام، ومن بعدهم من التابعين؛ كمالك والشافعي وأحمد والسفيانين والأوزاعي والبخاري ومسلم والحُفَّاظ الكِبار، وابن تيمية والعز بن عبدالسلام والذهبي ونظرائه، في طريق طويل يصعُب معه العدُّ، ويحتار المرء في الاختيار من الكثرة والوفرة.
أليس من الظُّلْم لأبناء الإسلام أن يترك هؤلاء الكِبار الكِرام، وهؤلاء القدوات الأعلام، وأهل الرسوخ في الإسلام؟!
أيها المؤمنون، القدوة الحسنة الصالحة ليست هي لأفراد محدودين ومعدودين؛ بل كُلٌّ مِنَّا لا بُدَّ أن يحمل هم القدوة، وأن يكون مشروع قدوة، كُلٌّ بحسبه ومحيطه، فالأب في بيته، والمعلم في فصله، والعالم والخطيب والداعية في مسجده ومجتمعه، والتاجر مع موظفيه، والوزير والمدير والرئيس مع مرؤوسيه.
ليس من شرط القدوة الطيبة أن يكون صاحبها مشهورًا عند الناس، فقد يكون ذائع الصيت، وليس بأهل أن يُقتدَى به، والقرآن الكريم خلَّد أسماء أئمة مشهورين؛ ولكنهم إلى النار يهدون.
وليس من شرط الإمامة في الدين أن يكون صاحبها معصومًا، فكل بني آدم خطَّاء، ليس من شرط الأسوة الحسنة الصالحة الكمال، وأن يمتاز العبد في كل مجال، فقد يفتح للعبد باب يكون فيه قدوة حسنة، دون باب آخر يكون مُقصِّرًا فيه.
قد يأتي إنسان قدوة في أمانته، ضعيف في عبادته، وقد ترى آخر قدوة في الإصلاح والدعوة إلى الله، دون الإنفاق والصدقة؛ وقل مثل ذلك في بقية الأقسام التي يحتاج إليها، ولو تأمَّلْت حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلت آنفًا؛ لوجدت الخير فيهم، والتميُّز موزَّعًا بينهم، فأرحم الأمَّة بالأمة أبو بكر الصديق، وأشدُّهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأشجعُهم عليٌّ، وأفرضهم زيدٌ، وأقرؤهم أُبَيٌّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذٌ، وإن لكل أمةٍ أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
أسأل الله أن يجعلنا هداةً مهتدينَ، وقدوات صالحين، وأن يصلح أزواجنا وذريَّاتنا، وأن يجعلنا للمتقين إمامًا، وأن يحيي قلوبنا بذكره، وأن يسعد أرواحنا باتِّباع سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، نفعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيمِ، وبهَدْيِ سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، وأقِمِ الصلاةَ.
___________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
- التصنيف: