موقف المؤمن من حاسديه وشانئيه

منذ 2022-12-05

إياكم والحسد؛ فإنه آكل الحسنات، وموبِق إبليس في أسحق الدركات، ومن ابتُلِيَ بخوف من حسد؛ فعليه بالآتي:

أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واسألوه سلامة الصدور وطهارة القلوب، فالفائز عند الله غذًا هو من سلِم صدره اليوم.

 

وإياكم والحسد؛ فإنه آكل الحسنات، وموبِق إبليس في أسحق الدركات، ومن ابتُلِيَ بخوف من حسد؛ فعليه بالآتي: قال ابن القيم رحمه الله: "ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:

أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره، واللجوء والتحصن به، واللجوء إليه، والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به سمع الإجابة، لا السمع العام، فهو مثل قوله: سمع الله لمن حمده.

 

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يَكِلْهُ إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عباس: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»؛ (رواه الترمذي بسند صحيح)، فمن حفِظ الله، حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه، فممن يخاف؟ وممن يحذر؟

 

السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألَّا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدِّث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله، ولا يستطِلْ تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغى عليه، كان بغيه جندًا وقوة للمبغيِّ عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه.

 

ولو رأي المبغيُّ عليه ذلك لسرَّه بغيه عليه، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله؛ وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60]، فإذا كان الله قد ضمن له النصر، مع أنه قد استوفى حقه أولًا، فكيف بمن لم يستوفِ شيئًا من حقه، بل بُغي عليه وهو صابر؟! وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم، وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل، جعل الباغي منهما دكًّا.

 

السبب الرابع: التوكل على الله؛ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه؛ أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذًى لا بد منه؛ كالحر والبرد، والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده، فلا يكون أبدًا.

 

وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفَّى به منه.

 

قال بعض السلف: "جعل الله تعالى لكل عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده؛ فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ولم يقل: نؤتِهِ كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافيَ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله، وكادته السماوات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره.

 

والتوكل من أجل مقامات العارفين، وكلما علا مقام العبد، كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد، وعلى قدر إيمان العبد يكون توكله.

 

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.

 

وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فلم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه فلم يقدر عليه عدوه، فإذا خطر بباله، بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به، بقيَ الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضًا، فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضًا.

 

وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية، والكيس الفطن بذلك يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه؛ لأنه يرى أن من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به، ولا يرى شيئًا آلم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها، فوثقت بالله وسكنت إليه واطمأنت به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله ولا أصدق منه قيلًا، فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصر مخلوق مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس.

 

السبب السادس: وهو الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ومرضاته والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها، فتدب فيها دبيب الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محابِّ الرب والتقرب إليه، وتملقه، وترضِّيه، واستعطافه، وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه، فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن! لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه، وذلك {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

 

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه؛ فإن الله تعالى يقول: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره.

 

وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم»؛ (صححه الألباني)، فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سُلِّط عليه مؤذٍ إلا بذنب.

 

ولقيَ بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله، وتضرع إليه، وتاب وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليَّ.

 

وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عُوفيَ من الذنوب عُوفيَ من موجباتها، فليس للعبد إذا بُغيَ عليه وأُوذي وتسلط عليه خصومه شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح.

 

وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشتغل بها وبإصلاحها، وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد.

 

فما أسعده من عبد! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفَّق لهذا؛ لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

فاتقوا الله تعالى حق التقوى، واغسلوا قلوبكم من حوبات الذنوب، وطهروا صدوركم من نجاسات الأحقاد والشحناء والحسد والبغضاء، ومن توكل على ربه، وفوض إليه أمره، أوشك أن يصل بإذنه ورحمته.

 

السبب الثامن: من أسباب السلامة من كيد الحاسدين: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك، كان معاملًا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة.

 

فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جُنَّة واقية وحصن حصين، وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها.

 

والحاسد والعائن لا يفتُر ولا يَنِي ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود، فحينئذٍ يبرد أنينه وتنطفئ ناره - هداه الله - فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة، وهو باب إلى كفران المنعِمِ.

 

فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جند ولا عسكر وله عدو، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظَّفَر، والله المستعان.

 

السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يُوفَّق له إلا من عظم حظه من الله؛ وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازددتَ إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 54].

 

وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ضربه قومه حتى أدمَوه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»؛ (متفق عليه)، كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؛ أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: ((اغفر لقومي))، كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فهبه لي.

 

واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به؟

 

اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؛ ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقًا، فانتقم بعد ذلك، أو اعفُ وأحسِنْ، أو اترك؛ فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يُفعل معك.

 

فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره، هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة؛ كما قال النبي للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه فقال: «لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك»؛ (رواه مسلم).

 

هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه، فإنه كل من سمِع أنه محسن إلى ذلك الغير، وهو مسيء إليه، وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري فطر الله عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعًا ولا شكرًا.

 

وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلةً وآجلة.

 

السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب؛ وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم.

والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، فهو الذي يحسن عبده بها، وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك»، فإذا جرد العبد التوحيد، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، بل يفرد الله بالمخافة، وقد أمَّنه منه، وخرج من قلبه اهتمامه به، واشتغاله به، وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية، وإنابة وتوكلًا، واشتغالًا به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده".

اللهم صلِّ على محمد...

  • 5
  • 0
  • 1,344

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً