محاسبة النفس سبيل النجاة

منذ 2022-12-05

فنحن نودع عامًا قد طُوِيَ من عمر الزمان، ولا بد لنا من وقفة محاسبة نودع بها عامًا مضى وفات، ونستقبل بها عامًا حل وحضر، فما أحوجنا إلى محاسبة النفس ومراجعتها؛ لعلها تنتبه من غفلتها، وتستفيق من رَقدتها، وتقوم من سُباتها، وترجع عن غيِّها وضلالتها!

الحمد لله الذي لا مانعَ لِما وهب، ولا معطيَ لِما سلب، طاعته للعاملين أفضل مكتسب، هيَّأ قلوب أوليائه للإيمان وكتب، أحمده على ما منحنا من فضله ووهب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هزم الأحزاب وغلب، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه وانتخب، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الفائق في الفضائل والرُّتَب، وعلى عمر الذي فر الشيطان منه وهرب، وعلى عثمان ذي النورين التَّقِيِّ النَّقِيِّ الحسب، وعلى عليٍّ صهره وابن عمه في النسب، وعلى بقية أصحابه الذين اكتسَوا في الدين أعلى فخر ومكتسب، وعلى التابعين لهم بإحسان ما أشرق النجم وغرب، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فيا أيها الكرماء الأجلاء عباد الله: فنحن نودع عامًا قد طُوِيَ من عمر الزمان، ولا بد لنا من وقفة محاسبة نودع بها عامًا مضى وفات، ونستقبل بها عامًا حل وحضر، فما أحوجنا إلى محاسبة النفس ومراجعتها؛ لعلها تنتبه من غفلتها، وتستفيق من رَقدتها، وتقوم من سُباتها، وترجع عن غيِّها وضلالتها!

 

ومحاسبة النفس أمرُ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

 

وروى الترمذي وقال: حديث حسن، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكيِّسُ من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني»؛ دان نفسه: أي: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسب يوم القيامة.

 

وروى ابن ماجه عن ابن عمر أنه قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار، فسلم على النبي، ثم قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقًا» ، قال: فأي المؤمنين أكيس (أعقل)؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لِما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس».

 

• وهي وصية السلف؛ فقد روى أحمدُ في كتاب الزهد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا؛ فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية".

 

• وفي شعب الإيمان للبيهقي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله أن: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد مرجعه إلى الرضا والغِبطة، ومن ألْهَتْهُ حياتُه وشُغله بهواه، عاد مرجعه إلى الندامة والحسرة".

 

• وروى النسائي في السنن الكبرى أن الحسن البصري قال: "إن المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة"، وقال أيضًا: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته"؛ [محاسبة النفس لابن أبي الدنيا].

 

• وفي حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، أنه قال: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمن حِلٍّ ذلك أم من حرام؟".

 

وفي حلية الأولياء أيضًا: أن سهل بن عبدالله قال: "المؤمن من راقب ربه، وحاسب نفسه، وتزوَّد لمعاده".

 

أحبتي الكرام: إذا كانت محاسبة النفس هي أمر الله ورسوله، ووصية السلف، فتعالَوا بنا لنرى ما هي المحاسبة:

• المحاسبة وأنواعها: يقول الماوردي في تعريفه للمحاسبة: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل".

 

• ومحاسبة النفس نوعان؛ النوع الأول: محاسبة النفس قبل العمل؛ فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه؛ قال الحسن رحمه الله: "رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".

 

أما النوع الثاني، فهو محاسبة النفس بعد العمل؛ وهو ثلاثة أنواع:

أولًا: محاسبتها على طاعة قصَّرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقِعْها على الوجه الذي ينبغي.

 

وحق الله في الطاعة ستة أمور: الإخلاص لله في العمل، النصيحة لله فيه، متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، شهود مشهد الإحسان فيه، شهود منة الله عليه، شهود تقصيره فيه، بعد ذلك يحاسب نفسه، هل وفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟

 

ثانيًا: أن يحاسب نفسه على المناهي، فإن عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية.

 

ثالثًا: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركُهُ خيرًا من فعله.

 

رابعًا: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظَّفَر به؟

 

• وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن محاسبة النفس تكون كالآتي:

أولًا: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.

 

ثانيًا: ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.

 

ثالثًا: محاسبة النفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.

 

رابعًا: محاسبة النفس على حركات الجوارح؛ كلامِ اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟

 

• ثمرات المحاسبة: أيها المسلمون، إن لمحاسبة النفس ثمراتٍ كثيرة، أذكر منها أن المرء بالمحاسبة:

• يطلع المرء على عيوب نفسه ونقائصها ومثالبها، ومن اطلع على عيوب نفسه عرف قدره، ومعرفة العبد بقدر نفسه تُورِثه تذللًا لله، وتعظيمًا وإجلالًا وعبودية لله عز وجل، فلا يمنُّ بعمله مهما عظُم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر، وبالمحاسبة كذلك يتعرف العبد على حق الله تعالى عليه، وعظيم فضله ومنِّه سبحانه، عندما يقارن نعمة الله عليه بتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك دافعًا له إلى الطاعات والقربات، رادعًا له عن القبائح والسيئات، عند ذلك يعلم أنه من حقه سبحانه أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفَر، وبالمحاسبة كذلك تكون تزكية النفس وتطهيرها من كل الأمراض والأدران، وبتزكيتها يكون الفلاح والنجاح؛ قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خَطَمَها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدًا.

 

• وبالمحاسبة يكون التغيير نحو الأفضل والأحسن؛ فلا خير فيمن لا يستفيد من ماضيه ويتدارك أخطاءه؛ قال تعالى في وصف عباده المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]؛ فلا يكون الإقلاع عن الذنب وتفاديه في المستقبل، إلا بمحاسبة النفس وتقويمها.

 

• عباد الله: ولما أدرك السلف مفهوم المحاسبة، ضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، وإن الهدف ما هو إلا التذكير فحسب؛ لأن في إيراد القصة أثرًا لا يخفى على القارئ والسامع، فكيف إذا كانت هذه القصص من حياة صفوة الأمة وخيارها، وهم سلفها الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؟! ولا شك أن البحث والاستقصاء عن كل ما ورد من نماذجَ رائعة، وصور مشرقة لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم، يتطلب مجهودًا جبارًا ووقتًا طويلًا، وحسبنا هنا أن نذكر طرفًا من ذلك عمر بن الخطاب والمحاسبة: ففي كتاب الزهد للإمام أحمد وموطأ الإمام مالك أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يومًا - وقد خرجت معه حتى دخل حائطًا - فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخٍ، والله لتتقينَّ الله ابن الخطاب أو ليعذبنَّك".

 

• وفي مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، "أنه جاء رجل يشكو إلى عمرَ وهو مشغول، فقال له: أتتركون الخليفة حين يكون فارغًا حتى إذا شُغل بأمر المسلمين أتيتموه؟! وضربه بالدرة، فانصرف الرجل حزينًا، فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرة، وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين، ثم جلس يقول لنفسه: يا ابن الخطاب، كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًّا فهداك الله، وضعيفًا فأعزك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته؟! ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه".

 

• ورُوي عن عمر بن الخطاب كذلك: أنه كان يضرب قدميه بالدرة كل ليلة، ويقول: ماذا عملت اليوم؟ ورُوي عنه أيضًا: أنه عاقب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدَّقَ بأرضٍ كانت له قيمتها مائتا ألف درهم؛ [الإحياء].

 

• اعملي يا نفس: وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن إبراهيم التيمي قال: "مثلَّتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس، أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنتِ في الأمنية فاعملي".

 

• إلى الفردوس: وفي صفة الصفوة والإحياء كذلك نُقل عن توبة بن الصمة: "أنه جلس يومًا ليحاسب نفسه فعدَّ عمره، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فصرخ، وقال: يا ويلتى، ألقى المَلَكُ بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم آلاف الذنوب؟! ثم خرَّ فإذا هو ميت، فسمعوا قائلًا يقول: يا لها من ركضة، إلى الفردوس الأعلى"؛ قال الغزالي رحمه الله معلقًا على هذه القصة: "فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]".

 

• عمر بن عبدالعزيز: ففي محاسبة النفس لابن أبي الدنيا عن عطاء قال: "دخلت على فاطمة بنت عبدالملك بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، فقلت لها: يا بنت عبدالملك، أخبريني عن أمير المؤمنين، قالت: أفعل، ولو كان حيًّا ما فعلت، إن عمر رحمه الله كان قد فرغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وَصَلَه بليله، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يُسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعًا رأسه على يده، تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة، فأقول: قد خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزلْ كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائمًا، قالت: فدنوت منه، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت شيئًا منك البارحة ما رأيته قبل ذلك، فما كان منك؟ قال: أجل، فدعيني وشأني، وعليكِ بشأنكِ، قالت: فقلت له: إني أرجو أن أتعِظَ، قال: إذًا أخبركِ، إني نظرت إليَّ فوجدتني قد وُلِّيتُ أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، فخِفْتُ على نفسي خوفًا دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكرًا، ازددت لهذا وجلًا، وقد أخبرتكِ؛ فاتعظي الآن أو دعي".

 

• ما حملكِ على ما صنعتِ: وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: "كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار، ثم يقول لنفسه: يا أحنف، ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟ ما حملكِ على ما صنعتِ يوم كذا؟"؛ [الزهد].

 

• قال عبدالله بن قيس رضي الله عنه: "كنا في غزاة لنا فحضر العدو، فصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح، وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفسي، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، ألم أشهد مشهد كذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك؟! فأطعتكِ ورجعت، والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذكِ أو ترككِ، فقلت: لأرمقنَّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس، فانكشفوا – أي: هربوا - فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل، فوالله ما زال ذلك به حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة".

 

فلنحاسب أنفسنا على أوامر الله ونواهيه، وعلى كل فعل وترك، وإقدام وإحجام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

 

فيا عباد الله، أرأيتم كيف ارتبطت قلوبهم بالله، فكانوا أجسادًا في الأرض، وقلوبًا في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك، حتى لا تكاد تأمره إلا بخير؟

 

• قال الذهبي: "ويُروى أن يحيى بن يحيى شرب دواء فقالت زوجته: قم فتمشَّ في الدار، قال: "أنا أحب أن أحاسب نفسي أربعين سنة على خُطاي، فما أعلم ما هذه المشية؟"، فتأمل – أخي - حال يحيى بن يحيى كيف أنه توقف عن المشي؛ لأنه ما يعلم هذه المشية التي تريد زوجته أن يمشيها، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يحاسبون أنفسهم عن كل خطوة، هل هي حلال؟ وهل تعود عليهم بالخير أم بالشر؟

 

• رياح القيسي: قال مالك بن ضغيم: "جاء رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر، فقلنا إنه نائم، فقال: نوم هذه الساعة؟ أهذا وقت نوم؟ ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولًا، فقلنا: قل له: ألَا نوقظه لك؟ فأبطأ علينا الرسول ثم جاء وقد غربت الشمس، فقلنا: أبطأت جدًّا، فهل قلت له؟ قال: هو أشغل من أن يفهم عني شيئًا، أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه، وهو يقول: أقلتِ أنوم هذه الساعة؟ أفكان عليكِ ينام الرجل متى شاء؟ وقلتِ: هذا وقت نوم؟ وما يدريكِ أن هذا ليس وقت نوم؟ تسألين عما لا يعنيكِ، وتكلمين بما لا يعنيكِ، أما إن لله عليَّ عهدًا ألَّا أنقضه أبدًا، ألَّا أوسدكِ الأرض لنومٍ حولًا، إلا لمرض جاء بكِ، أو لذهاب عقل زائل، سوءة لكِ سوءة لكِ، أما تستحين كم توبخين عن غيك؟ ألا تنتهين؟ قال: وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني، فلما رأيت ذلك، انصرفت وتركته"؛ [تاريخ دمشق].

 

قال الغزالي: "عرف أرباب البصائر من جملة العباد أنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسُن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه، دامت حسراته، وطالت في عَرَصَات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر، ألَّا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها".

 

قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى لرجل: "كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فمن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليُعِدَّ للسؤال جوابًا، قال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بقيَ يُغفَر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي".

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هِرَمِك، وصحتك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»؛ [أخرجه الحاكم في مستدركه، والبيهقي في الشعب، وصححه الألباني في صحيح الجامع].

 

أيها الأحبة الكرام، من لم يغتنم حياته في طاعة الله، ندِم بعد مماته، وتمنى العودة إلى الدنيا، وأنَّى له ذلك؟ وظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].

 

نسأل الله تعالى أن يجعل عامنا هذا عامَ خيرٍ ويُمنٍ، وأمن وإيمان، وسلم وسلام وإسلام، وأن يتجاوز عنا ما كان منا فيما مضى من سيئ الأعمال، وأن يوفقنا في عامنا هذا لصالح الأعمال، ويجنبنا فيه قبيح الفِعال، وأقم الصلاة.

_____________________________________________________

الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان

  • 6
  • 1
  • 4,145

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً