قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً
{وَقَالُواْ} رؤساء اليهود والنصارى {كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} «أو» هنا للتفصيل، والمعنى: وقالت اليهود كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138)}
{وَقَالُواْ} رؤساء اليهود والنصارى {كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} «أو» هنا للتفصيل، والمعنى: وقالت اليهود كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فالمجموع قالوا للمجموع، لا أن كل فرد أمر باتباع أي الملتين. إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية، ولا النصراني يأمر باليهودية {تَهْتَدُواْ} تصيبوا طريق الحق وتكونوا مهتدين.
فبعد أن ذمهم الله تعالى بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية، بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه.
وفيه: أن أهل الباطل يدْعون إلى ضلالهم، ويدَّعون فيه الخير، وهكذا أيضاً قد ورث هؤلاء اليهود والنصارى من ضل من هذه الأمة، كأهل البدع في العقيدة، والقدر، والإيمان ــــ الذين ادعوا أنهم على حق، وأن من سلك طريقهم فقد اهتدى؛ لما رواه الإمام أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِثْلًا بِمِثْلٍ)
فكل داع إلى ضلال ففيه شبه من اليهود والنصارى؛ دعاة السفور الآن يقولون: اتركوا المرأة تتحرر؛ اتركوها تبتهج في الحياة؛ لا تقيدوها بالغطاءِ، وتركِ التبرج، ونحو ذلك؛ أعطوها الحرية؛ وهكذا كل داع إلى ضلالة سوف يطلي هذه الضلالة بما يغر البليد فهو شبيه باليهود والنصارى.
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ} دين {إِبْرَاهِيمَ} وإنما خص إبراهيم دون غيره من الأنبياء، وإن كانوا كلهم مائلين إلى الحق، مستقيمي الطريقة حنفاء، لأن الله اختص إبراهيم بالإمامة، لما سنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، مما يقتدى به إلى قيام الساعة.
{حَنِيفاً} الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل، والمراد الميل في المذهب، لأن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد. وإنما كان هذا مدحا للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة.
وصارت الحنيفية علماً مميزاً بين المؤمن والكافر. وسمي بالحنيف: من اتبعه واستقام على هديه، وسمي المنكث على ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي، وغير ذلك من ضروب النِحَل.
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكانت العرب ممن تدين بأشياء من دين إبراهيم، ثم كانت تشرك، فنفى الله عن إبراهيم أن يكون من المشركين.
قال ابن عاشور: وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله.
وقيل: في الآية تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم، وهو على الشرك، قاله الزمخشري.
فإشراك اليهود بقولهم: عزير ابن الله، وإشراك النصارى بقولهم: المسيح ابن الله، وإشراك غيرهما بعبادة الأوثان وغيرها.
وقال ابن عثيمين: اليهودية والنصرانية نوع من الشرك؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في مقابل دعوتهم إلى اليهودية والنصرانية يدل على أنهما نوع من الشرك؛ كل من كفر بالله ففيه نوع من الشرك؛ لكن إن اتخذ إلهاً فهو شرك حقيقة وواقعاً؛ وإلا فإنه شرك باعتبار اتباع الهوى.
{قُولُواْ} الخطاب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأمته جميعاً، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة، ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون.
{آمَنَّا بِاللّهِ} وقدم الإيمان بالله لأنه أصل الشرائع فلا يختلف باختلاف الشرائع الحق، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الْآيَةَ
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
" (لَا تُصَدِّقُوا أَهْل الْكِتَاب وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) أَيْ: إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا؛ لِئَلَّا يَكُون فِي نَفْس الْأَمْر صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ، أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ، فَتَقَعُوا فِي الْحَرَج.
وَلَمْ يَرِد النَّهْي عَنْ تَكْذِيبهمْ، فِيمَا وَرَدَ [أي: شرعنا] بِخِلَافِهِ، وَلَا عَنْ تَصْدِيقهمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعنَا بِوَفَائِهِ. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
وَيُؤْخَذ مِنْ هَذَا الْحَدِيث التَّوَقُّف عَنْ الْخَوْض فِي الْمُشْكِلَات، وَالْجَزْم فِيهَا بِمَا يَقَع فِي الظَّنّ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا جَاءَ عَنْ السَّلَف مِنْ ذَلِكَ" انتهى.
وقال علي القاري في "مرقاة المفاتيح": (لَا تُصَدِّقُوا): أَيْ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ صِدْقُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ (أَهْلَ الْكِتَابِ)، أَيِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ، (وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ): أَيْ فِيمَا حَدَّثُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ كَذِبُهُ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا؛ لِأَنَّ الْكَذُوبُ قَدْ يَصْدُقُ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَقُّفِ فِيمَا أُشَكِلُ مِنَ الْأُمُورِ وَالْعُلُومِ، فَلَا يُقْضَى بِجَوَازٍ وَلَا بُطْلَانٍ، وَعَلَيْهِ السَّلَفُ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا أَدْرِي فِيمَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: مَنْ أَخْطَأَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ.
{وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} وآمنا بما أنزل إلينا، وفيه الإشارة إلى البداءة بالأهم ــــ وإن كان متأخراً.
والمنزل إليهم هو القرآن، ويشمل السنة أيضاً؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وصح نسبة إنزالهما إليهم، لأنهم هم المخاطبون بتكاليفهما من الأمر والنهي وغير ذلك، وتعدية أنزل بـ «إلى»، دليل على انتهاء المنزل إليهم، وأن بعضها نسخ بعضا، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه.
أيضا قدم {مَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده، لأنه أولى بالذكر، لأن الناس، بعد بعثة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً.
{وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أنزل على إبراهيم عشر صحائف {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} جمع سِبْط؛ قيل: إنهم أولاد يعقوب، ومنهم يوسف؛ وقيل: هم الأنبياء الذين بعثوا في أسباط بني إسرائيل الذين لم يذكروا بأسمائهم.
ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعطفوا على إبراهيم، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه، فأضيف الإنزال إليهم، كما أضيف في قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا}.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} وما أعطوا من الآيات الشرعية، والكونية؛ الشرعية كالتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى؛ والكونية كاليد والعصا لموسى؛ وكإخراج الموتى من قبورهم بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله لعيسى؛ ونص على موسى وعيسى؛ لأنهما أفضل أنبياء بني إسرائيل.
قال ابن عثيمين: لِمَ عبر الله تعالى بقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} الآية، وفي موسى وعيسى قال تعالى: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}؛ فهل هناك حكمة في اختلاف التعبير؟
فالجواب: أن نقول بحسب ما يظهر لنا -والعلم عند الله-: إن هناك حكمة لفظية، وحكمة معنوية.
الحكمة اللفظية: لئلا تتكرر المعاني بلفظ واحد؛ لو قال: «ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وما أنزل إلى موسى... وما أنزل إلى النبيين» تكررت أربع مرات؛ ومعلوم أن من أساليب البلاغة الاختصار في تكرار الألفاظ بقدر الإمكان.
أما الحكمة المعنوية: فلأن موسى وعيسى دينهما باقٍ إلى زمن الوحي، وكان أتباعهما يفتخرون بما أوتوا من الآيات؛ فالنصارى يقولون: عيسى بن مريم يُحيي الموتى، ويفعل كذا، ويفعل كذا؛ وهؤلاء يقولون: إن موسى فلق الله له البحر، وأنجاه، وأغرق عدوه، وما أشبه ذلك؛ فبين الله سبحانه وتعالى في هذا أن هذه الأمة تؤمن بما أوتوا من وحي وآيات.
{وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} تعميم بعد تخصيص، وعطف العام على الخاص، وإضافة الربوبية إليهم على وجه الخصوص؛ وإلا فالله سبحانه وتعالى رب كل شيء؛ لكن هذه ربوبية خاصة.
{لاَ نُفَرِّقُ} أي في الإيمان؛ وليس في الاتّباع {بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم؟ وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره، وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام.
فنؤمن بالجميع، ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى. فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم، وكفروا بمحمد وعيسى، صلوات الله على الجميع. والنصارى آمنوا بالأنبياء، وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفيه أن الكفر برسول كفر بكل الرسل، فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصارى بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصحبوا بذلك مؤمنين.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} هذا كله مندرج تحت قوله: {قولوا}. ولما ذكر أولاً الإيمان، وهو التصديق، وهو متعلق بالقلب، ختم بذكرالإسلام، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح. فجمع بين الإيمان والإسلام، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل.
{فَإِنْ} جاء الشرط هنا بـ «إن» المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو {آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} الباء للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم.. وهذا من باب التبكيت، لأن دين الحق واحد، لا مثل له، وهو دين الإسلام.
{فَقَدِ اهْتَدَواْ} وفيه أن دينهم الذي هم عليه، وكل دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال، ونحو هذا قولك للرجل الذي تشير عليه: "هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه، فاعمل به"، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه.
{وَّإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الدخول في الإيمان {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} «إنما» دالة على الحصر؛ أي فما حالهم إلا الشقاق؛ و «في» للظرفية ــــ كأن الشقاق محيط بهم من كل جانب منغمسون فيه.
فجيء بـ «في» للدلالة على تمكن الشقاق منهم حتى كأنه محيط بهم، فالشقاق مستول عليهم من جميع جوانبهم، ومحيط بهم إحاطة البيت بمن فيه. وهذه مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي، وهذا كقوله: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأعراف:60] {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] هو أبلغ من قولك: زيد مشاق لعمرو، وزيد ضال، وبكر سفيه.
والحاصل أنه لا حجة لمن تولى عن شريعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا الشقاق، والمجادلة بالباطل.
و «الشقاق» الخلاف؛ وهو في كل معانيه يدور على هذا، أي: في خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك، إما من المشقة التي هي شدة المخالفة، مشتق من الشَق وهو الفلق وتفريق الجسم، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق، أي يقع بينهم خلاف.
قال القاضي: "ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه، وهذا وعيد لهم".
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ} تثبيتا للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم.
وهذا الإخبار ضمان من الله تعالى لرسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كفايته ومنعه منهم، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه، وغلبته إياهم، لأن من كان مشاقاً لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك، إذا لم يتوصل إلى ذلك، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه، وهذا نظير قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وقد كفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع، والنفي في بني النضير، والجزية في نصارى نجران.
والسين هنا لتحقيق وعد الله رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه يكفيه سوء شقاقهم.
وفيه الإشارة إلى التوكل على الله ــــ تبارك وتعالى ــــ في الدعوة إليه، وفي سائر الأمور؛ لأنه إذا كان وحده سبحانه وتعالى هو الكافي فيجب أن يكون التوكل والاعتماد عليه وحده.
{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأذاهم بالقول، العليم بضمائرهم ومكائدهم .. والمعنى: اطمئن بأن الله كافيك ما تتوجس من شرهم وأذاهم.
ولما كان تدبير الكيد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من هؤلاء قد يكون بالأقوال، وقد يكون بالأفعال؛ والتدبير أمر خفي ليس هو حرباً يعلن حتى نقول: ينبغي أن يقابل بقوة، وعزة؛ قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي حتى الأمور التي لا يُدرى عنها، ولا يبرزونها، ولا يظهرون الحرابة للرسول فإن الله سميع عليم بها.
وقيل: كلاً من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال، فناسب أن يختتم ذلك بهما، أي وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقادكم.
وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد، لأن المعنى، وهو السميع العليم، فيجازيكم بما يصدر منكم.
{صِبْغَةَ} أصلها صبغ بدون علامة تأنيث، وهو الشيء الذي يصبغ به «اللون»، واتصاله بعلامة التأنيث لإرادة الوحدة مثل تأنيث قشرة وكسرة وفلقة {اللّهِ} والمعنى: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى الأنبياء من قبل إيمانا صبغة الله، أي: دينه الذي طهرنا به ظاهراً وباطناً، فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه.
قال ابن عاشور: والصبغة هنا اسم للماء الذي يغتسل به اليهود عنوانا على التوبة لمغفرة الذنوب، والأصل فيها عندهم الاغتسال الذي جاء فرضه في التوراة على الكاهن إذا أراد تقديم قربان كفارة عن الخطيئة عن نفسه أو عن أهل بيته، والاغتسال الذي يغتسله الكاهن أيضا في عيد الكفارة عن خطايا بني إسرائيل في كل عام، وعند النصارى الصبغة أصلها التطهر في نهر الأردن، وهو اغتسال سنه النبي يحيى بن زكريا لمن يتوب من الذنوب، فكان يحيى يعظ بهم الناس بالتوبة فإذا تابوا أتوه فيأمرهم بأن يغتسلوا في نهر الأردن رمزا للتطهر الروحاني، وكانوا يسمون ذلك معموذيت، ويقولون أيضا ممعوذيتا وهي كلمة من اللغة الآرامية معناها الطهارة، وقد عربه العرب فقالوا معمودية.
وكان عيسى بن مريم حين تعمد بماء المعمودية أنزل الله عليه الوحي بالرسالة، ودعا اليهود إلى ما أوحى الله به إليه، وحدث كفر اليهود بما جاء به عيسى وقد آمن به يحيى، فنشأ الشقاق بين اليهود وبين يحيى وعيسى فرفض اليهود التعميد، وكان عيسى قد عمد الحواريين الذين آمنوا به، فتقرر في سنة النصارى تعميد من يدخل في دين النصرانية كبيرا، وقد تعمد قسطنطين قيصر الروم حين دخل في دين النصرانية، أما من يولد للنصارى فيعمدونه في اليوم السابع من ولادته.
وإطلاق الصبغة على ماء المعمودية أو على الاغتسال به استعارة مبنية على تشبيه وجهه تخييلي إذ تخيلوا أن التعميد يكسب المعمد به صفة النصرانية ويلونه بلونها كما يلون الصبغ ثوبا مصبوغا، وقريب منه إطلاق الصبغ على عادة القوم وخلقهم.
وقد جعل النصارى في كنائسهم أحواضا صغيرة فيها ماء يزعمون أنه مخلوط ببقايا الماء الذي أهرق على عيسى حين عمده يحيى، وأن ما تقاطر منه جمع وصب في ماء كثير ومن ذلك الماء تؤخذ مقادير تعتبر مباركة لأنها لا تخلو عن جزء من الماء الذي تقاطر من اغتسال عيسى حين تعميده كما قال في أوائل الأناجيل الأربعة
فقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} رد على اليهود والنصارى معا أما اليهود فلأن الصبغة نشأت فيهم وأما النصارى فلأنها سنة مستمرة فيهم، ولما كانت المعمودية مشروعة لهم لغلبة تأثير المحسوسات على عقائدهم رد عليهم بأن صبغة الإسلام الاعتقاد والعمل.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً} استفهام للنفي، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة.
ومجيء الاستفهام بمعنى النفي أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يتضمن التحدي؛ فإن القائل إذا قال: «ليس مثل زيد بشر» ليس كقوله: «مَنْ مثل زيد مِن البشر؟!»؛ الثاني أبلغ: كأنه يتحدى المخاطَب أن يأتي بأحد مثله.
وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن.
فالواجب على من دخل في الإِسْلام أن يغتسل غسلاً كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة الله تعالى، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي، وإدعاء أنه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.
{وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} تقديم المعمول على عامله هنا له فائدتان؛ أولهما: لفظية؛ وهي مراعاة فواصل الآيات؛ والثانية: معنوية؛ وهي الحصر، والاختصاص؛ فهو كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]
وقيل: هو قصر إضافي على النصارى الذين اصطبغوا بالمعمودية لكنهم عبدوا المسيح.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: