وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
يودون بكل قلوبهم أن يرجعوكم كفاراً {{حَسَداً}} أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد، لأن ما أنتم عليه نعمة عظيمة
{بسم الله الرحمن الرحيم}
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
{{وَدَّ}} أحب، بل إن "الود" خالص المحبة {{كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ}} من بعد أن ثبت الإيمان في قلوبكم {{كُفَّاراً}} أي: يودون بكل قلوبهم أن يرجعوكم كفاراً {{حَسَداً}} أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد، لأن ما أنتم عليه نعمة عظيمة؛ وهؤلاء الكفار أعداء؛ والعدو يحسد عدوه على ما حصل له من نعمة الله، و "الحسد" تمني زوال نعمة الله عن الغير.
{{مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}} ليس من كتاب، ولا من إساءة المسلمين إليهم؛ ولكنه من عند أنفسهم الخبيثة.
وجيء فيه بـ «من» الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأكد ذلك بكلمة «عندِ» الدالة على الاستقرار ليزداد بيان تمكنه.
وفيه: أن الكفر بعد الإسلام يسمى ردة؛ لقوله تعالى: {{لَوْ يَرُدُّونَكُم}} ؛ ولهذا الذي يكفر بعد الإسلام لا يسمى باسم الدين الذي ارتد إليه؛ فلو ارتد عن الإسلام إلى اليهودية أو النصرانية لم يعط حكم اليهود ولا النصارى.
{{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}} عرفوا أن محمداً رسول الله، وأنَّ دينه هو الدين الحق .. أي وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم بلا شك ولا ريبة، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يغرب عليهم وضوح الحق، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد. وهذا يدل على أن الكفر يكون عناداً.
{{فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ}} لا تؤاخذوهم ولا تلوموهم، إذ العفو ترك العقاب، والصفح الإِعراض عن المذنب بصفحة الوجه أي جانبه، وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو.
{{حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ}} غيا العفو والصفح بهذه الغاية، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح.
وفيه مراعاة الأحوال والواقع، وجواز موادعة ومهادنة الكفار إذ لم يكن للمسلمين قوة ولا شوكة، وفيه -أيضا- تطمينا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بَطَلًا، وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه، كقول الناس: «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا» فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية.
{{إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} لا يعتريه عجز في كل شيء فعله .. وفيه إشعار بالانتقام من الكفار، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين. وتعليما للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء، وهو يعفو ويصفح، وفي الحديث عند مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ)، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن.
{{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}} أدوا الصلاة على وجه الكمال؛ لأن إقامة الشيء جعله قيماً معتدلاً مستقيما {{وَآتُواْ الزَّكَاةَ}} مستحقيها .. وسميت زكاة؛ لأنها تزكي الإنسان، كما قال الله تعالى: {{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}} [التوبة:103]؛ فهي تزكي الإنسان في أخلاقه، وعقيدته، وتطهره من الرذائل؛ لأنها تخرجه من حظيرة البخلاء إلى حظيرة الأجواد، والكرماء؛ وتكفِّر سيئاته.
ولما أمر بالعفو والصفح، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق.
ففي الظرف الذي لم يكن مواتياً للجهاد، على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإِعداد للجهاد، وذلك بتهذيب الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على طاقاتهم الروحية والبدنية وثبات لهم إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
كما أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أسباب النصر؛ لأن الله ذكرها بعد قوله: {{فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ}} ؛ وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}} [الحج:40-41]
{{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم}} أي لنجاة أنفسكم {مِّنْ خَيْرٍ} قليلاً كان أو كثيراً {{تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ}} مدّخراً ومعدًّا عند الله.. والآية جملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير. والكلام مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح.
{{إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}} المجيء بالإسم الظاهر يدل على استقلال الجمل، فلذلك جاء إن الله، ولم يجىء إنه، مع إمكان ذلك في الكلام. وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها، تتضمن الوعد والوعيد.
وكنى بقوله: بصير عن علم المشاهد، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه، ومن كان مبصراً لفعلك، لم يخف عليه، هل هو خير أو شر.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: