الحزن على المنكوبين وعقيدة الإيمان بالقدر
هل هناك تضارب بين الإيمان بالقدر خيره وشره وبين الشفقة على المنكوبين من جراء الزلازل والمحن الشديدة مثل الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا والشمال السوري
كتب الأستاذ : أحمد سيف
سؤال قد يهجم على الإنسان: هل هناك تضارب بين الإيمان بالقدر خيره وشره وبين الشفقة على المنكوبين من جراء الزلازل والمحن الشديدة مثل الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا والشمال السوري, وخاصة مع الشدة التي يعاني منها الغخوة في سوريا جراء القصف الدائم والتشريد؟؟؟
الحمد لله .. وبعد،
قبل الإجابة على هذا السؤال بطريقة الفقه المجردة هذا حلال وهذا حرام يخامرني شعور ما أننا بحاجة إلى الركون إلى مأوى عقيدي تسكن إليه النفوس المكلومة إثر مرارة الحدث، وهذه إحدى أعظم فوائد الدين في الحياة.
بعيدًا عن جانب التنظير العلمي؛ أو التترس بالكلمات المكرورة؛ ثمة بُعد عقدي هاهنا ينبغي على أحدنا أن يعيه ويعقل معانية: مسألة عقدية أشرت إليها غير مرة؛ مسألة خلق الشرور.
من أصول اعتقاد أهل السنة كما تعلمون: الإيمان بالقدر؛ خيره وشره؛ ومنه أن الله خالق كل شيء؛ خلق الخير والشر؛ باعتبار ما يراه الناس شرًا، لا باعتبار حقيقة كونه شرًا..
يعني ما نراه نحن شرًا، قد لا يكون في حقيقته شرًا..
ومن الأخطاء التي نقع فيها قياس الخير والشر بعقولنا القاصرة بناء على المفهوم المادي للحياة الدنيا.
أما حقيقة الخير والشر عند الله؛ فالموازيين فيها غير موازين الدنيا .. فالموازين أنواع: هنالك ميزان الدنيا وما بعد الموت وغيبيات الآخرة، فافهم هذا.
أكثرنا في مثل هذه الحوادث المؤلمة يشتهي الخير بطريقته هو .. وفق ما يعقله عقله ويرجوه فؤاده، ولا يكاد قلبه يحتمل مرارة ما نراه من مشاهد تدمي القلوب وتُسبل الدموع دمًا.
من متقررات هاته العقيدة:
أن الشر لا يُنسب إلى الله عز وجل مراعاةً لمقام الأدب والتعظيم؛ فلا نقول إن الله خلق الشرور تأدبًا.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: والشر ليس إليك.
أي: لا يُنسب إليك، ولا يُتقرب به إليك.
ومنه قول الخضر عليه السلام في قصة السفينة: [فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا] فلم ينسب الشر الظاهر إلى الله.. والذي لا يعلم مآلات الأمور لا شك سيرى خرق السفينة شرًا؛ لكن حقيقة الأمر أن الخير كل الخير كان في خرقها.
وكذا مقتل الغلام في قصة موسى والخضر .
تأمل معي: هذا نبي من أنبياء الله .. اكتملت له آلة العلم والتقوى ومع ذلك ظن مقتله شرًا .. ثم أبان الله حقيقة الأمر فعقلنا منه حكمة الله ورحمته وحقيقة الخير والشر في هذه القصة.
وكأن هذا المعنى لم يكُ خافيًا عن أفهام الجن يوم أن تأدبوا مع الله فقالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}
فما قالوا أراد بهم ربهم شرًا.
وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
فنسب الهداية والإطعام إلى الله، ونسب المرض إلى نفسه، رغم أن المرض لا يصيب أحدًا إلا بإذن الله.
وجماع ذلك وبيانه أن ليس في أفعال الله شر محض؛ فاحفظ هذا وأودعه قلبك وعش به ما حييت؛ ليس في أفعال الله شر محض من كل جانب.
ولما كانت لله عز شأنه صفات الكمال والحكمة البالغة في الأفعال= امتنع في حقه خلق الشر المطلق من كل وجه .. بل كل ما خلق فمآله إلى الخير..
وهذا الخير اختص به أهل الإيمان؛ فنزلت بهم صنوف البلاء التي حوت شرًا ظاهرًا فارتفعت بهم درجاتهم وأنزلهم الله بها المنازل العلية..
فالحادثة الواحدة قد تحوي خيرًا وشرًا، باعتبار حقيقة المآلات لا النظر الدنيوي القاصر..
فيكون مآلها خيرًا على المؤمنين مهما بدت أليمة محزنة، وشرًا على الكافرين والمعاندين مهما بدت غير ذلك بمقاييس الدنيا.
لذلك مهما بلغ البلاء شدةً والأحداث عسرةً؛ فاعلم يقينًا أن مآلها في حق المؤمنين إلى خير..
وتأمل معي كم من مكلوم اليوم رُفعت درجته وبلغ منازل ما كان يبلغها بعمله، بل وكم من مفقود اليوم يتنعم الآن في فراش الجنة وقد أنزله الله منزلة الشهداء.
ثم انظر حولك كم من ثمرات أدركناها في هذه القصة الحزينة .. نعقل فيها معنى قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان.
نستشعر معنى كوننا أمة واحدة؛ لا تحدنا الحدود ولا الأوطان ولا الأعراق ولا الجنسيات؛ بل يجمعنا إخاء المعتقد وكليات الديانة.
ولعل من ثمراتها أن نشارك إخواننا همومهم وأحزانهم وتمس قلوبنا حقيقة أخوة الدين التي حرمتنا منها قوانين الجنسيات والحدود والأسوار الشاهقات.
ثم من وراء ذلك وحيث الزمان الأول فنعقل قوله صلى الله عليه وسلم: الشهداء خمسة .. ومنهم صاحب الهدم؛ فنستنشق شيئًا من رحمة الله بالمكلومين، وكأن الله جبر قلوبهم بعد روعة الموتة هذه بالجنة!
فأخرج هؤلاء المساكين من بؤس الدنيا وتشريد الحروب وقسوة الليالي إلى نعيم الآخرة إن شاء الله.
فقل لي بربك أليس في هاته المعاني المتكاثرة رحمات تتراءى لقلبك المنهك مهما أسدلت الأحزان سدولها وعقدت ضفائرها على القلوب المكلومة..
من علم ذلك وعقله رضي والله بالله وفرح به واطمئن بقضائه وأحسن الظن بربه.
بل وإني لأشتهي أن أناديك في نهاية مقالتي هذه بكل مشاعري لأقول: فانظر إلى آثار رحمة الله!
أما إجابة سؤالك: فالحزن أمر جبلي بل أرجو لك الأجر عليه وقد أجزل لنا نبينا صلى الله عليه وسلم من بديع البيان وأكمله في ماهية الإخاء وتألم المسلم لأخيه، ما لم يتجاوز هذا الحزن ما حده الله من عتبات السخط والجزع والاشتراط على الله عز وجل.
هذا شيء مما أردت بيانه وقد انعقد لساني بعجمة الحزن وعصيان الحروف وقلة البضاعة وقسوة القلب؛ عسى الله الكريم أن ينفع به كاتبه ومن قرأه أو نقله على ما فيه من قصور.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت .. أستغفرك وأتوب إليك.
- التصنيف: