الفاجعـة واحـدة.. لكن سوريا لا بـواكـي لها
بعد 12 عامًا من المآسي التي لا تتوقف بسبب الحرب والنزوح والدمار، كان السوريون على موعد آخر مع كارثة طبيعية أضرّت بشدة بما تبقى لهم مما يعينهم على البقاء
في ظل ظروف الطقس البارد وما تعانيه مناطق شمال غرب سوريا من فقر ومرض واحتياج لأبسط مقومات الحياة، ضربهم زلزال هو الأسوأ على المنطقة منذ أكثر من قرنين من الزمان، وبينما يتعالى أنين الجرحى وصرخات المفجوعين بموت ذويهم على الجانبين التركي والسوري، يسرع المجتمع الدولي موجهًا كل أوجه الدعم والإغاثة للجانب التركي، فيما يقف حائرًا في تحديد الآليات التي بموجبها سيقوم بمساعدة السوريين، يمرَّ الوقت بطيئًا على هؤلاء البؤساء الأكثر ضعفًا على هذا الكوكب، بينما يظل الساسة متمسكين بجدالاتهم وتفسيراتهم الضيقة لما يسمّونه بـ"القانون الدولي" وشعارات مكافحة دعم الإرهاب، هنا يتبلور حجم الكارثة أكثر فأكثر مع تزايد أعداد الضحايا، حيث لا تجد الصرخات تحت الأنقاض من ينقذها.
أزمة فوق الأزمة:
اجتاحت الصراعات أراضي سوريا منذ احتجاجات الربيع العربي في عام 2011م، بعدما رد نظام بشار الأسد بالعنف على الانتفاضة الشعبية ضد حكمه، وبفضل الدعم الروسي والإيراني تمكن الأسد من قلب دفة الحرب نسبيًا لصالحه، لكن الاقتصاد السوري تعرض للدمار شبه الكامل طيلة هذه السنوات، وباتت البلاد بأكملها تعاني من النقص الحاد في مختلف مقومات الحياة بسبب العقوبات الصارمة المفروضة عليها، فيما أصبح 90 في المائة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، جغرافيًا على أرض الدولة التي مزقتها الحرب يخضع الجزء الأكبر من البلاد لسيطرة نظام الأسد، فيما تسيطر القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة على الشمال الشرقي، أما الشمال الغربي ـ والذي يعدّ موطنًا لحوالي 4 ملايين نازح داخلي وهو الأكثر تضررًا من الزلازل ـ فتسيطر عليه جماعات المعارضة السورية المسلحة، بما فيها هيئة تحرير الشام التي تصنفها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، الجارة التركية هي أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم حيث يعيش بها حوالي 3.6 مليون لاجئ سوري منذ بدء الحرب الأهلية السورية التي طال أمدها، والمحزن أن العديد من هؤلاء اللاجئين يعيشون في مناطق جنوب شرق تركيا التي ضربها الزلازل.
إن "المجتمع الدولي خذل حتى الآن الناس في شمال غرب سوريا، ولديهم الحق بأن يشعروا أنهم متروكون لمصائرهم"، الأمر ذاته وصفه رائد الصالح، رئيس منظمة الخوذ البيضاء الإغاثية وهي من بين المستجيبين الأوائل للزلزال في سوريا
وقع الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر في الرابعة صباحًا من يوم الاثنين الموافق 6 فبراير 2023م، بالقرب من مدينة غازي عنتاب التركية، تبعته هزة ارتدادية لاحقة بنفس الدرجة تقريبا وكان مركزها في قهرمان مراش، تأثر الجانب التركي بشدة حيث تحولت أحياء سكنية كاملة إلى أكوام من الأنقاض، اتضحت ضراوة الزلزال بعدما أظهر تركيا المجهزة تجهيزًا جيدًا للتعامل مع آثار الكوارث الطبيعية، ضعيفة ومتخبطة بالرغم من حشد فرق الطوارئ والجيش إلى جانب فرق الإغاثة من مختلفة البلدان لدعمها، على الجانب السوري كانت الأمور أشد بؤسًا وقد لا تكشف الأرقام عن حقيقة الوضع بدقة، فبينما كانت المدن التركية ذات أكثرية في حصيلة المباني المدمرة والضحايا والجرحى والمشردين، إلا أنها كانت الأوفر حظًا في نيل المساعدة والدعم والإغاثة من أكثر من 70 دولة حول العالم، وعلى النقيض كان الجانب السوري ـ الذي يعاني بالأساس من بنية تحتية منهارة وتفشي للأمراض مثل الكوليرا وغياب تام للمعدات التي يمكن بها مواجهة الكارثة ـ مطالبًا بمواجهة هذا الدمار الناتج عن الزلزال في ظل طقس شديدة البرودة.
لم يشهد العالم ارتفاعًا في عدد الضحايا وحجم الاحتياجات الإنسانية جراء كارثة طبيعية بهذا الحجم منذ العام 2011م عندما ضرب زلزال مدمر وتسونامي مناطق واسعة من اليابان، وعلى عكس الاستجابة الطارئة التي أظهرها المجتمع الدولي تجاه اليابان في تلك الأثناء، فإن المساعدات الضئيلة والبطيئة المقدمة للسوريين الآن تفاقم من أزمتهم، حيث لا تزال تغيب عنهم أبسط الاحتياجات الطبية والمعيشية، وكان من المؤسف أن الأيام الأولى بعد الزلزال لم تشهد دخول أي مساعدات إنسانية من الجانب التركي إلى شمال غرب سوريا، وأشارت تقارير إلى أن هول الكارثة في بعض المدن التركية قد أحدث حالة من الارتباك تسببت في تعطل المعابر وتأخر دخول المساعدات، بيد أن ثمة شاحنات كانت تمر بكل سلاسة عبر المعابر، شاحنات لا تحمل مواد إغاثية أو أدوية، بل تحمل جثث ضحايا سوريين فروا ذات يوم من منازلهم للعيش بأمان في تركيا بعيدًا عن الحرب المستعرة في وطنهم، لكنهم أعيدوا إليه بعدما قضوا جراء الزلزال وقد سُمِحَ لتلك الشاحنات بالمرور عبر المعابر فيما كان أفراد عائلاتهم الثكلى ينتظرونهم في البرد القارس على الجانب السوري من الحدود.
تمييز في الدعم:
قبل أسابيع من وقوع الزلزال، قال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في بيان إن الاحتياجات الإنسانية في سوريا وصلت إلى أعلى المستويات منذ بدء الحرب الأهلية في عام 2011م، وسط تفشي الكوليرا المستمر وشتاء شديد البرودة، وطالب المنظمات المعنية بالعمل الإغاثي أن تكثّف من إرسال المزيد من المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا، إلا أن هذه المطالبة تصطدم على أرض الواقع بتفسيرات شديدة الحذر للقانون الدولي والتي بسببها تتم المخاطرة بحياة ملايين السوريين، فهذه التفسيرات هي التي تحججت بها الدول الأوروبية والعربية عندما وُجِهَت إليها سهام النقد لتأخرها الشديد في إرسال المساعدات إلى شمال غرب سوريا على غرار هبّتها لمساعدة تركيا أو حتى النظام السوري، فبينما كانت الطائرات المحمّلة بأطنان المساعدات تحط رحالها في المطارات التركية أو مطار دمشق عبر جسور جوية طارئة كان الصمت يكتنف الموقف فيما يخص الشمال السوري الذي يكابد فيه الناس من أجل البقاء، يشير البعض إلى أن غياب التنسيق هو السبب الرئيسي؛ فالكثير من دول العالم لا تعترف بنظام بشار الأسد الدموي بسبب تورطه في قتل عشرات الآلاف وتهجير الملايين، بينما لا تعترف دول أخرى بفصائل المعارضة المسلحة التي تسيطر على معظم المناطق المنكوبة بالزلزال، وبين هذا وذاك يضيع الوقت وتتضاءل فرص إنقاذ المتضررين من الزلزال.
هذا التخاذل والتمييز في تقديم الدعم للشمال السوري كان واضحًا، وقد عبّر عنه مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، بقوله إن "المجتمع الدولي خذل حتى الآن الناس في شمال غرب سوريا، ولديهم الحق بأن يشعروا أنهم متروكون لمصائرهم"، الأمر ذاته وصفه رائد الصالح، رئيس منظمة الخوذ البيضاء الإغاثية وهي من بين المستجيبين الأوائل للزلزال في سوريا، حين انتقد استجابة الأمم المتحدة للزلزال في سوريا ووصفها بأنها "كارثية"، ودعا المجتمع الدولي إلى تقديم "الاعتذار للشعب السوري بسبب عدم تقديم أي مساعدة طارئة له"، لكن بعيدًا عن التمييز الغربي والانتقائية في تقديم المساعدات، فإن الديناميكيات الداخلية في سوريا تعقد الوضع أيضا.
إن المناطق السورية لم تصلها أية مساعدات، ولم تشفع توسلات المنظمات الإغاثية لحكومات العالم كي يحركوا ساكنًا لتنفيذ عمليات البحث والإنقاذ الفعالة في أول 72 ساعة من الأزمة من أجل العثور على أحياء تحت الأنقاض
نظام الأسد يفاقم المأساة:
خارج منظومة الأمم المتحدة، هناك من اختار إيصال المساعدات الأساسية إلى سوريا عبر نظام الأسد، غير أن توجيه المساعدات إلى النظام القابع في دمشق لا يضمن بالضرورة وصولها إلى من هم في أشد الحاجة إليها، فالنظام الفاقد لكافة أشكال العدالة والإنسانية يرسل المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرته فقط، وبخلاف ذلك فإنه يسرقها إلى مستودعات تديرها مخابراته، وفي ظل الأزمة الراهنة يحاول النظام الاصطياد في الماء العكر لرفع العقوبات عنه وتطبيع العلاقات معه مجددًا في الحاضنة الإقليمية والدولية، وذلك من خلال دفع المنظمات الإغاثية التابعة له كالهلال الأحمر السوري للمطالبة برفع العقوبات عن النظام كي يستطيع تلبية متطلبات المناطق المتضررة، حتى أن وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، صرّح قبل أيام بأن العقوبات المفروضة على حكومته هي السبب في جعل الكارثة أسوأ، وكأن الفساد المستشري والدمار والتخريب الذي ألحقه النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون لم يكن له أي تأثير على ما آلت إليه الأوضاع.
زعم النظام أن دخول المساعدات إلى الأراضي السورية دون مرورها عبر دمشق يعد انتهاكًا للسيادة السورية، لذا عمل بجد من أجل عرقلة جهود إرسال المساعدات بشكل مباشر إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ونجح بالفعل بفضل الفيتو الروسي في إغلاق 4 معابر عبر الحدود كانت قد أنشأتها الأمم المتحدة في عام 2014م، لم يعد هناك سوى معبر باب الهوى كخيار وحيد متبقي، ومن المفارقات الغريبة أن المساعدات الدولية التي كانت تنتقل بالفعل إلى سوريا عادةً ما كانت تصل إلى الأراضي التي يسيطر عليها نظام الأسد، وقد خَلُص تقرير أممي صدر في أكتوبر الماضي إلى وجود فساد منهجي في توزيع المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة لسوريا، وكشف التقرير أنه بين عامي 2019 و2020 ذهب ما يقرب من 47٪ من تمويل مشتريات الأمم المتحدة في سوريا إلى شركات تابعة لنظام الأسد ومرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان، ووجد التقرير أن النظام قد احتفظ بـ 51 سنتًا من كل دولار مساعدات دولية تم إنفاقه في سوريا خلال العام 2020، لقد أضرَّ النظام بالسوريين مرتين؛ الأولى حين تسبب في مقتل الآلاف وتشرين الملايين منهم ودمّرَ منازلهم وأفسد حياتهم، والثانية حين حرمهم من وصول المساعدات الإنسانية التي هم في أشد الحاجة إليها، فبسبب حالة عدم الثقة في النظام امتنعت العديد من دول العالم عن تقديم المساعدات خشية أن يستغلها النظام لصالحه في المناطق التي يسيطر عليها من أجل تحقيق مكاسب سياسية، فيما تُحرَم المناطق الأشد احتياجًا منها.
تأثير العقوبات الغربية:
بينما كانت المساعدات تتدفق بشكل متزايد إلى تركيا من جميع أنحاء العالم عن طريق الجو والبر والبحر، فإن المناطق السورية لم تصلها أية مساعدات، ولم تشفع توسلات المنظمات الإغاثية لحكومات العالم كي يحركوا ساكنًا لتنفيذ عمليات البحث والإنقاذ الفعالة في أول 72 ساعة من الأزمة من أجل العثور على أحياء تحت الأنقاض، وفيما كان الجميع يعلن عن نواياه بأنه سيرسل المساعدات كانت النقاشات على جانب آخر تستعر حول مدى إمكانية المساعدة في ظل العقوبات، من الناحية النظرية فإن المساعدات الإنسانية لسوريا معفاة من العقوبات، لكن من الناحية العملية فإن هناك حالة من عدم الوضوح بشأن ما هو مسموح به وهذا ما يؤخر عملية المساعدة على أرض الواقع، فالعديد من البنوك تخشى من القيام بأي عمليات تحويل أموال ذات علاقة بسوريا حتى لا تقع تحت مقصلة العقوبات الغربية.
تحت الضغوط والاستغاثات، تحركت الولايات المتحدة وأصدرت إعفاءً لمدة 6 أشهر لجميع المعاملات المتعلقة بتقديم الإغاثة في حالات الكوارث إلى سوريا، لكن المثير للبكاء والسخرية في آنٍ واحد، هو أن العقوبات الغربية التي وُضِعَت لحماية السوريين لم تعمل على منع نظام الأسد من قصفهم والتنكيل بهم طيلة الأعوام الماضية، وهي الآن ذاتها من تحرمهم من الحصول على الأغذية والأدوية ووسائل الإيواء الطارئة، وتزداد المأساة حين تتوالى الدعوات الغربية لروسيا والفاعلين الإقليميين للضغط على نظام الأسد للسماح بوصول المساعدات إلى السوريين الذين يعتبرهم النظام أنهم أعدائه.
أين الضمير الإنساني؟
على مدار 12 عامًا مضت، كان من الطبيعي أن يقوم المتطوعون بإخراج الناس من المباني المنهارة في المنطقة التي قصفها نظام الأسد وداعموه الروس والإيرانيون ببراميلهم المتفجرة وقنابلهم القذرة، تحركات الصفائح التكتونية للأرض أتت لتضيف مزيدًا من الألم والحزن، حيث أدت التبعات التدميرية للزلزال إلى انهيار جهود الإنقاذ كونها لم تألف هذا الحجم الهائل من الدمار، لقد كان الزلزال بمثابة تذكير مأساوي بأن النزاع السوري المنسي لم يتم حله، لقد تلاشى الغضب الغربي بعد أن استعاد بشار الأسد السيطرة على معظم أنحاء البلاد وتعثرت الجهود المبذولة لإيجاد تسوية سياسية للصراع، عادةً من خلال المحن يمكن للدول تعزيز علاقاتها بالعالم مرة أخرى، لكن للأسف بالنسبة للسوريين الذين طالت معاناتهم لا يمكن أن يحدث ذلك لبلدهم، طالما أن الأسد في السلطة، وطالما يستمر الغرب في تصنيف فصائل معارضتها وفقًا لآليات محددة تخص مصالحه.
في ذات الإطار أطلقت الأمم المتحدة قبل يومين تحذيرًا بأن أكثر من 5 ملايين سوري قد يصبحون بلا مأوى بعد الزلزال، لكن لا يمكن أن تُختزل المأساة في أرقام، ثمة أسئلة معقدة لا بد من طرحها؛ لماذا انصب تركيز العالم بشكل أساسي على تركيا دون سوريا؟، ما سر تجييش وسائل الإعلام الغربية وطواقم الإنقاذ الدولية والمساعدات والمعدات نحو أنطاكيا وغازي عنتاب وكهرمان مرعش، فيما غابت تماما عن إدلب وريف حلب؟، أليست المأساة واحدة في تركيا وسوريا والإنسان واحدًا في كليهما؟
_________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر
- التصنيف: