الفطرة السليمة
إن من عظيم أسباب الانحراف عن الفطرة المستقيمة وعن الدين القويم، هو التشبُّه بغير المسلمين، والتقليد المذموم للكافرين، والمشي على منوالهم في عاداتهم وأديانهم...
إن من عظيم النعم التي أنعم الله عز وجل بها على بني آدم أن فطرهم على التوحيد والإسلام: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
الفطرة هي الخلقة الأصيلة السويَّة السليمة التي خلق الله عز وجل الناس عليها من الإيمان بالله ومعرفته، والإقرار بربوبيته تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، وينصرِّانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30][1].
والله سبحانه خلق الإنسان على الفطرة في باطنه وظاهره، فطر باطنه على التوحيد والإسلام كما كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، ومِلَّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين» [2].
وفطر ظاهره على الجمال والنظافة: قال عليه الصلاة والسلام: «عشر من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق بالماء، وقصُّ الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الآباط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» [3].
وفي مقدمة من أراد أن ينحرف الناس عن فطرتهم السليمة التي فطر الله الناس عليها هو الشيطان اللعين وأولياؤه من الإنس والجن.
وقد جاء في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» [4].
ولهذا وقع كثير من الناس فيما وقعوا فيه من الشرك بالله والكفر بالله وارتكاب ما حرم الله عليهم من الآثام والمعاصي والتمرد على الفطرة السوية ومتابعة الشيطان الذي أقسم على تغيير الفطر: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119].
قد لعب الشيطان بكثير من بني آدم، وزين لهم سيئ الأعمال، وأقصى كثيرًا عن زينة الإيمان وصالح العمل، وغمسهم في مستنقعه، وصاروا أولياء له يأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه فأطاعوه، والله يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] ووقع الانحراف في بني آدم، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب؛ ليخرجوا الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات.
جاءت الرسل بما يوافق فطر الناس، الفطر التي فطر الله عز وجل الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
عباد الله، أرسل الله نبينا صلى الله عليه وسلم والناس في جاهلية جهلاء، وفي ظلام دامس: شرك بالله تعالى، يشركون بالله تعالى، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الجن.
وهم في أقبح العادات وأنكر الأعمال: ابتداع في الدين، وفجور في الفروج، وزواجات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ورحم الله الخلق ببعثة نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فأنار الله عز وجل به الأرض بعد ظلمتها، وأشرقت بنور الإيمان والتوحيد بعد انحجابه، فأحيا الله به قلوبًا.
وفي هذه الأزمان جاءت الدعوات الشائنة من جديد بعد عمل دؤوب ونشاط خفي بطريق إبليس، وتلبيس عجيب للتمرد على الأديان، وإقصاء الإيمان، ثم بعد ذلك التمرد على الفطر السليمة.
وتغير الناس إلى ما فيه شهوة أو شبهة من أسهل الأشياء على من رقَّ دينه، وضعف يقينه، واتبع شهوات نفسه، فيتطلب العاجلة دون الآخرة.
وينصب لدنياه أكثر من دينه، فيقع في أوحال الشياطين، ويسير خلف الزائغين، لم يُسلِّح نفسه بسلاح الصالحين من الصدق مع الله والإيمان بوعده ووعيده والاستقامة على أمر الله ونهيه.
{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، ومن شياطين الإنس من نراه ويرانا، فهو مندوب إبليس، والحذر منه أوجب والبعد عنه مُتحتِّم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112، 113].
إن من عظيم أسباب الانحراف عن الفطرة المستقيمة وعن الدين القويم، هو التشبُّه بغير المسلمين، والتقليد المذموم للكافرين، والمشي على منوالهم في عاداتهم وأديانهم، وفي ألبستهم ورطانتهم، وهذا من أعظم ما يدعو إلى الاغترار بهم، والإعجاب بما هم عليه حتى ينسلخ المرء عن دينه، ويوافق ما عليه الكفار، ولا يردد من الكلام إلا مدحهم، وينعت المسلمين بالتخلُّف والرجعية ونحو ذلك من ألقاب السوء، وقلبه مشرب بالانهزامية والشك والحيرة والاضطراب التي هي في قلوب المنافقين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143]، فالأمر أمر يقين بالله وبشرعه وبمحاسن دين الإسلام، فمن ضعف يقينه جاءت الشبهات فانغرست في قلبه، وقد يصعب إخراجها وتبديدها إلا أن يشاء الله تعالى.
فيتحتم على المرء أن يتسلح بسلاح العلم النافع، العلم الأصيل، علم الكتاب والسنة الذي يدعو إلى خشية الله عز وجل.
التسلح بتقوية الإيمان بالقلب وبالعمل الصالح بإخلاص ويقين بوعد الله ووعيده، والبعد عن الهوى الذي هو قسيم الضد للوحي، فمن اتبع الهوى فهو معرض عن وحي الله عز وجل الذي هو حياة القلوب وروح الأبدان {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وأن يحذر المرء من صحبة الأشرار وأهل الشبهات والشهوات، فإن شرهم ظاهر وتأثيرهم قوي.
نسأل الله أن يعيذنا من مضلَّات الفتن، وأن يسلمنا من الشبهات والشهوات، وأن يُعيذنا من الشيطان الرجيم، نعوذ بالله من شره وكيده.
[1] البخاري 1359.
[2] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (9829)، وأحمد (15367).
[3] أخرجه مسلم (261).
[4] الأوسط 3/ 206.
- التصنيف: