التحذير من الطلاق
إن ارتفاع نسب الطلاق ليس فسادًا للأسرة فحسب، بل هو فساد للمجتمع بأسره، وليس شقاءً لأفرادها فقط، ولكنه فساد للأمة كلها، ودمار للبشرية جميعها"
إن العلاقة الزوجية علاقة عميقة الجذور، بعيدة الآمال؛ فرحِمَ الله رجلًا محمود السيرة، طيب السريرة، سهلًا رفيقًا، لينًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله، مُتَّبِعًا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يكلف زوجته من الأمر ما لا تطيق.
وبارك الله في امرأة لطيفة العشرة، قويمة الخلق، تسُرُّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها، ولا مالها بما يكره، لا تطلب من زوجها غلطًا، ولا تُحْدِث عنده لغطًا.
إن هذه الأسرة – والله - هي دِعامة البيت السعيد، وركنه العتيد، ووالله إنها لمن أعظم متع الدنيا ولذائذها؛ قال الله جل وعلا: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: 34)، وقال صلى الله عليه وسلم: ( «(إذا صلَّتِ المرأة خَمْسَها، وصامت شهرها، وحفِظت فَرْجَها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت»؛ (أخرجه أحمد وابن حبان في صحيح، وحسنه الشيخ الألباني).
عباد الله:
جاءت شريعة الإسلام وأحكامه بالمحافظة على هذه العلاقة بين الزوجين، والارتفاع بجوهرها، وصيانة ظاهرها وباطنها.
وحثَّ ديننا العظيم على حسن العشرة، والحفاظ على عقد الزوجية؛ بطاعة الله، وسماحة الخلق، وصفاء الود، والصبر بين الزوجين، والتغاضي عن الزِّلَّة، وتجاوز الهفوة؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا، رَضِيَ منها آخر»؛ (رواه مسلم).
أيها الإخوة:
لقد كثُرت حالات الطلاق في مجتمعنا كثرةً توحي بخطرٍ يهدِّد كِيان الأسرة، ويُورِث تشرذمها؛ فقد كشفت تقارير إحصائية عن الهيئة العامة للإحصاء، عن زيادة غير مسبوقة في معدلات الطلاق خلال عام ألفين واثنين وعشرين في بلادنا حرسها الله، فقد وصلت إلى مائة وثماني وستين حالة يوميًّا، بواقع سبع حالات طلاق في كل ساعة.
أيها المؤمنون:
إن ارتفاع نسب الطلاق ليس فسادًا للأسرة فحسب، بل هو فساد للمجتمع بأسره، وليس شقاءً لأفرادها فقط، ولكنه فساد للأمة كلها، ودمار للبشرية جميعها، بل كم من حضارة هَوَتْ لانهيار كيان الأسرة فيها، واختلاط الحلال والحرام في نظامها، وانتشار الفساد في أخلاقها!
عباد الله:
الإسلام كرَّه الطلاق ونفَّر منه؛ قال صلى الله وسلم وبارك عليه: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا من غير بأس، فحرامٌ عليها رائحة الجنة»؛ (أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه الشيخ الألباني).
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أُبِيح منه قدر الحاجة"؛ (انتهى كلامه).
ولهذا كان فساد الأسرة قرةَ عينِ الشيطان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدْنِيه منه، ويقول: نعم، أنت، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه»؛ (رواه مسلم).
أيها الإخوة الكرام:
وإذا تلمَّسنا أسباب الطلاق، نجد أسبابًا كثيرةً؛ فمنها:
ضعف علم الزوجين بالحكمة من الزواج، وما يترتب على عقده؛ الذي سماه الله تعالى بالميثاق الغليظ، من الحقوق والواجبات، وما في الزواج من الأجر للزوجة والزوج بسبب هذا العقد العظيم.
ومن الأسباب كذلك: الفهم الخاطئ للرجولة الذي يدفع الرجل للتسلط على المرأة، وكذا عمل المرأة مع تقصيرها في حياتها الزوجية.
ومن أسباب الطلاق أيضًا: سوء العشرة بين الزوجين، وعدم قيام أحدهما بما أوجب الله عليه للآخر؛ فقد أمر الله بحسن العشرة فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
ومن أسباب الطلاق أيضًا: اختلاف الزوجين بسبب ما تأخذه المرأة من راتب على عملها، فمن الرجال من يكون طمَّاعًا أشرًا، يضيِّق على المرأة، ويطالبها بمالها، ويهدِّدها بمنعها من العمل، أو الطلاق، ومن النساء من تكون بخيلةً بمالها، مانعةً له عن زوجها وعن أولادها، ويراها تبذر المال فيما يحل ويحرم، فالواجب على الرجال أن يستغنَوا بما أعطاهم الله، وعلى المرأة أن تكون كريمةً في مالها، ولا يكن المال أحب إليها من عشرتها الحسنة مع زوجها، وسببًا للخصومة، وتنكيدِ حياتها، وربـما تسبب ذلك في الفراق، فتتقوَّض الأسرة، ويتشرد الأولاد، وليكن حال الجميع التعفُّف عما في يد الآخر، والكرم بما يملك، فمتى صارت الأمور كذلك، صلحت الحال، وعاش الزوجان وذريتهما بعيشة هنيَّة رضِيَّة.
ومن الأسباب: تدخُّل الأقارب في التفاصيل الصغيرة والكبيرة بين الزوجين، فيثور الأبوان ويُعضِّدهم الإخوة والأخوات، حتى إذا انتزعوا ابنتهم من زوجها، ذهبوا لحياتهم، ونسَوها، تقاسي مرارة الفرقة والوحدة.
ومن الأسباب: طلب الحرية المزعومة، والاستجابة لتخبيب الْمُخَبِّبِين والْمُخَبِّبات في وسائل التواصل وغيرها، وعقد المقارنات مع أسفارهم وأموالهم، والاغترار بحياتهم الكاذبة.
وكذلك: ما تثيره وسائل الاتصال الحديثة من فتـنٍ وشكوك، وسوء ظن بين الزوجين، ومن اطلاع من أحد الزوجين على ما يخص الآخر، وخاصة المرأة التي تسعى للتفتيش في أجهزة زوجها، وقد تجد ما لا يسرها، وقد تكون وجدت بجهاز الزوج شيئًا عن طريق الخطأ، ولكنها تعظِّم الأمور، وتُخرِج القضية إلى خارج حدود بيت الزوجية.
ومن الأسباب: عدم التواصل والتحاور والتفاهم بين الطرفين، مما يجعل حياتهما أشبهَ بعالم من العزلة، فتبعد المسافات، وتبدأ المشكلات، وتتعقد الخلافات.
ومنها: تقصير الزوجة في الواجبات المنزلية، والاهتمام بالزوج خصوصًا في فراشه، أو تقصير الزوج في تحمل المسؤولية والالتزام بالأعباء المالية.
ومن الأسباب أيها الكرام: إدمان الزوج على الكحول والمخدِّرات، الأمر الذي يؤدي إلى اللجوء للطلاق، وخاصة من قِبَلِ الزوجة أو أهلها.
كذلك: السهر خارج المنزل إلى وقت متأخر، أو السفر بالنسبة للزوج، وكثرة تكرار الزوجة زيارة أقاربها، أو صديقاتها، أو الخروج للأسواق بدون مبرر.
ومنها: عدم الرجوع إلى المختصين والمختصات، ممن يملكون الخبرة والقدرة على الإصلاح، وحل المشاكل، كما هو الحال في جمعيات الاستشارات الأسرية المنتشرة في بلادنا ولله الحمد، التي ظهر لها آثار مباركة وموفَّقة، ولله الحمد.
وتحت إصرار كل طرف على توجيه الاتهام للآخر، دون مراعاة للظروف والإمكانيات، يتسلل الطلاق بوجهه الخبيث للقضاء على هذه المؤسسة الإنسانية الرائعة.
أيها الفضلاء:
وثمة أسباب ربما ليس للزوجين دخل ولا حيلة فيها؛ مثل: عدم الإنجاب، أو القيام بأعمال محرمة كاستخدام السِّحر، أو نظرة العين من الآخرين؛ الأمر الذي يؤدي للفُرقة والطلاق.
فالطلاق - يا عباد الله - حلٌّ شرعيٌّ لمن تعسَّرت حياتهم، وتعذَّر استمرار الوفاق بينهم، ونفدت كل وسائل الإصلاح، وأصبح بيت الزوجية جحيمًا لا يُطاق، جاء الشرع بالطلاق، وإنهاء حالة الشقاق والنزاع بينهما؛ حتى يستأنف كلٌّ منهما حياته الخاصة؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].
تصوروا - أيها الفضلاء - لو أن الشرع الحكيم ألْزَمَ الزوجين بالبقاء على رغم ما بينهما من تنافس وخلاف وشِقاق، لَترتَّبَ على ذلك آثار اجتماعية ونفسية وأخلاقية سيئة، فلو لم يُمنَح الزوج الحقَّ في حلِّ الوَثاق، لَتلمَّس أسباب التمتع من طرق ملتوية، فتفسد البيوت، وتشيع الفاحشة، ويكثُر الفسق والمجون.
أيها الكرام: وإذا صار التوجه إلى الطلاق، فيكون وفق الوجه الشرعي: بأن يكون طلاقًا رجعيًّا بطلقة واحدة، تقضي العدة في بيت زوجها.
فإذا انتهت العدة وتم الفراق، فليكن تسريح بإحسان، كما اجتمعا لهذا القصد، دون تجريح أو قسوة أو تشهير، ودون الإساءة والإضرار بالزوجة والأولاد؛ كما قال الرب الرحيم: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، فتذهب إلى بيت أهلها معززةً مكرمةً، يُنفِق عليها زمن عدتها، وينفق على أولادها النفقة الشرعية.
وإذا تفرَّقا، فلا يحل لأحدهما أن يفشِيَ سرَّ الآخر؛ ففي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها».
ونُقِل عن بعض الصالحين أنه أراد تطليق امرأته، فقيل له: ما يُريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سرًّا، فلما طلقها، قيل له: لِمَ طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري؟
اللهم احفظ بيوتنا، واملأها سكينةً وطمأنينةً، واصرف عنها الحسد والشرور، وألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهْدِنا سُبُلَ السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.
هذا، وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم.
______________________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي
- التصنيف: