قتل الأبرياء بين سماحة الإسلام وشرائع الإجرام

منذ 2023-08-30

نصوص هذا الدِّين العظيم، ومقرَّراتِه وتاريخَه، وسيرتَه - شاهدةٌ على سموِّه الأخلاقيِّ سِلمًا وحربًا، سموًّا لا يكون إلَّا ربانيًّا في مورده ومصدره.

إنَّ شريعة الإسلام هي شريعةُ الرَّحمة للعالَمين، وهي شِرعة العدل والسَّماحة في كلِّ الميادين؛ من أجل ذلك لم يكن عجيبًا أن تجدَ هذه الشريعةَ تأتي في مسائل القتال والجهاد بقواعدَ أخلاقيَّة، ومبادئَ أدبيَّة لا يملك أيُّ مُنصِف إلَّا أن يعبِّر عن شدة احترامه وإجلاله لهذه الشريعة، والجزم بأنَّه لا يمكن لكلِّ ذاك المكنون الأخلاقي إلَّا أن ينبثق من نور الوحي الإلهي.

ومن هذه القواعد الأخلاقيَّة العظيمة قاعدة: "عدم قتال مَن لم يُقاتِل"، وهي تابعةٌ في الأساس لقاعدةٍ عُظمى؛ وهي قاعدة تحريم الاعتداء على الآخرين بغير حقٍّ، أو التَّعدِّي على الأبرياء بغير ذنب اقترفوه.

من أجل ذلك قرَّرت الشريعةُ الإسلاميَّة: أنَّ قتال الذين لا يشتركون في القِتال ولا يَقدرون عليه هو نوعٌ من الاعتداء الذي نهى الإسلام عنه، وذَمَّه وحرَّمه، وعدَّه من الجرائم الحربيَّة.

ومن الأدلة على ذلك:
- قوله الله - تعالى -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ: "وإذا كان أصلُ القتال المشروع هو الجِهادَ، ومقصودُه هو أن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، فمن مَنَع هذا قوتِل باتِّفاق المسلمين.

وأمَّا من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنِّساء والصِّبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم - فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلَّا أن يُقاتِل بقوله أو فِعْله، وإن كان بعضُهم يرى إباحةَ قتل الجميع لمجرَّد الكفر إلَّا النِّساء والصبيان؛ لكونِهم مالًا للمسلمين.

والأوَّل هو الصواب؛ لأنَّ القتال هو لِمَن يقاتلنا إذا أردنا إظهارَ دِين الله؛ كما قال الله – تعالى -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]"[1].

ومن الأدلة أيضًا: ما جاء في الصَّحيحَين عن نافع: أنَّ عبدالله - رضي الله عنه - أخبرَه: أنَّ امرأةً وُجدت في بعض مغازي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقتولة، فأنكر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتْلَ النِّساء والصِّبيان[2].

وفي لفظ: "فنهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن قتْلِ النِّساء والصِّبيان" [3].

ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خرج في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالدُ بن الوليد، فمرَّ أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على امرأةٍ مقتولة ممَّا أصابتِ المُقدِّمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويتعجَّبون من خَلقها، حتى لحقهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «ما كانتْ هذه لتقاتِل»، فقال لأحدهم: «الْحقْ خالدًا فقلْ له: لا تقتلوا ذُريَّة، ولا عسيفًا»[4].

وقد ذكر المحقِّقون أنَّ هذه الواقعة كانت في غزوة حنين.

ومنها أيضًا: ما رواه مسلم وأبو داود عـن سليمان بن بُريدةَ، عـن أبيه: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كَفَر بالله، اغزوا ولا تَغدِروا، ولا تَغلُّوا ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[5].

وفي رواية عند البيهقي وغيره: «ولا تقتلوا وليدًا طِفلًا، ولا امرأةً، ولا شيخًا كبيرًا...» [6].

وفي شرح معاني الآثار للطحاوي بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا بعث جيوشَه قال: «لا تقتلوا الوِلْدان»، وفي رواية: «لا تقتلوا شيخًا كبيرًا»، وفي رواية «لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً»[7].

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كتب عمر - رضي الله عنه - إلى الأجناد: "لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا".

ومن وصايا أبي بكر لأمراء الجُند: "لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرمًا، ولا تقطعوا شجَرًا مُثمرًا، ولا تُخرِّبُنَّ عامرًا، ولا تَعقرنَّ شاةً ولا بعيرًا إلَّا لمأكلة، ولا تُغرقُنَّ نخلًا ولا تحرقنَّه، ولا تغلل، ولا تجبُن"[8].

وعن يَزيد بن هُرْمُز: أنَّ نجدَةَ كتبَ إلى ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - يسأله عن قتْل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "إنَّك كتبتَ إليَّ تسأل عن قتل أطفال المشركين، فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يقتلْهم، وأنت فلا تقتلْهم، إلَّا أن تعلمَ منهم ما عَلِم الخَضِرُ من الغلام حين قتلَه"[9].

فلا يُقتل أحدٌ بذنب غيره، ولا يُؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه، أو امرأة بجريرة زوجها، ولا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، وهذا أسمى معاني العدالة والرَّحمة.

روى النسائي بسند صحيح عن مسروق عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض، ولا يُؤخذ الرَّجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه»[10]، والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة.


أمَّا من الناحية العمليَّة التطبيقيَّة، فإنَّنا نجد بتصفُّح السِّيرة النبويَّة ودراستها أنَّه على الرَّغم من كثرة عدد الحروب والغزوات التي خاضها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ التي خاضها أصحابه - رضوان الله تعالى عنهم - فإنَّه لم يُعرف عنهم أنَّهم قصدوا قتلَ ذراري وأطفال المشركين، أو قتْل نِسائهم، أو شيوخهم رغمَ ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة.

وقد جمع العلماءُ أصنافَ الذين لا يجوز قتالهم، أو التعرُّض له بالاعتداء، فذكروا منهم: النِّساء، والأطفال، والرُّهبان ورجال الدِّين، والشُّيوخ كِبار السِّن، والزَّمنْىَ[11]، والعُسفاء - وهم الأجراء والفلاَّحون - ويُشترط في الجميع ألاَّ يشتركوا في القِتال، ولا يُعينون عليه بحال.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وللعلماء فيهم صور سِتٌّ:
الأولى: النساء: إن قاتلنَ قُتلنَ، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدَها؛ لعموم قوله – تعالى -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وقوله – تعالى -: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، وللمرأة آثارٌ عظيمة في القِتال؛ منها: الإمداد بالأموال، ومنها: التحريض على القتال، وقد يَخرجنَ ناشراتٍ شعورهنَّ، نادباتٍ مثيرات معيِّرات بالفرار، وذلك يُبيح قَتلَهنَّ.

غيرَ أنَّهنَّ إذا حصلن في الأَسْر فالاسترقاق أنفعُ لسرعةِ إسلامهنَّ، ورجوعهنَّ عن أديانهن، وتعذر فرارهنَّ إلى أوطانهن، بخلاف الرَّجل.

الثانية: الصبيان: فلا يُقتلون للنهيِ الثابت عن قتْل الذُّريَّة، ولأنَّه لا تكليفَ عليهم، فإن قاتَلَ الصبيُّ قُتِل.

الثالثة: الرهبان: لا يُقتلون، ولا يُسترقُّون، بل يُترك لهم ما يعيشون به مِن أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهْل الكُفر؛ لقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقوامًا زعموا أنَّهم حبسوا أنفسَهم لله، فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفَّار في الكنائس قُتِلوا".

الرابعة: الزَّمْنى: الصحيح أن تُعتبر أحوالُهم، فإن كانت فيهم إذايةٌ قُتلوا، وإلَّا تُركوا وما هم بسبيله من الزَّمانة، وصاروا مالًا على حالهم وحشوة.

الخامسة: الشيوخ: قال مالك في كتاب محمَّد: "لا يُقتلون، والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخًا كبيرًا لا يُطيق القِتال، ولا يُنتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنَّه لا يُقتل، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة، والثاني: يقتل هو والراهب، والصحيح الأوَّل؛ لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالِفَ له، فثبت أنَّه إجماع، وأيضًا فإنَّه ممَّن لا يقاتل، ولا يُعين العدوَّ، فلا يجوز قتلُه كالمرأة.

السادسة: العسفاء: وهم الأُجراءُ والفلاَّحون، فقال مالك في كتاب محمَّد: لا يُقتلون، وقال الشافعي: يُقتل الفلاَّحون والأجراء والشُّيوخ الكِبار إلَّا أن يُسلِموا، أو يُؤدُّوا الجِزية.
والأوَّل أصحُّ؛ لقوله - عليه السلام - في حديث رباح بن الربيع: ((الْحقْ بخالد بن الوليد، فلا يَقتلنَّ ذريَّة ولا عسيفًا".

وقال عمر بن الخطاب: "اتقوا الله في الذُّريَّة والفلاَّحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"، وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرَّاثًا؛ ذكره ابن المنذر"[12].

وقال ابن قدامة - رحمه الله -: "إنَّ الإمام إذا ظَفِر بالكفَّار، لم يجز أن يقتل صبيًّا لم يبلغ بغير خلاف، وقد روى ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن قتْل النِّساء والصِّبيان"؛ (متفق عليه) .

ولا تُقتل امرأة ولا شيخٌ فانٍ، وبذلك قال مالك، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصِّديق، ومجاهد، وروي عن ابن عبَّاس في قوله - تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، يقول: لا تقتلوا النِّساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا يُقتل زَمِنٌ، ولا أعمى، ولا راهب، ولا يُقتل العبيد، وبه قال الشافعي؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أدركوا خالدًا، فمروه ألاَّ يقتلَ ذريَّة ولا عسيفًا»، وهم العبيد؛ لأنَّهم يَصيرون رقيقًا للمسلمين بنفس السبيِّ، فأشبهوا النِّساء والصِّبيان...".

ثم قال: "ومَن قاتل ممَّن ذكرنا جميعهم، جاز قتلُه؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتل يومَ قُريظة امرأةً ألقتْ رحى على محمود بن سلمة، ومَن كان من هؤلاءِ الرِّجال المذكورين ذا رأيٍ يُعين به في الحرْب، جاز قتلُه؛ لأنَّ دريدَ بنَ الصمة قُتل يومَ حنين وهو شيخ، لا قتال فيه، وكانوا خرجوا به معهم يتيمَّنون به، ويستعينون برأيه، فلم يُنكرِ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتلَه، ولأنَّ الرأي من أعظم المعونة في الحرْب.

ثم قال: "أمَّا الفلاَّح الذي لا يُقاتل، فينبغي ألاَّ يُقتلَ؛ لِمَا روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: "اتقوا الله في الفلاَّحين الذين لا يَنصبون لكم الحرب".

وقال الأوزاعي: "لا يقتل الحرَّاث إذا عُلِم أنَّه ليس من المقاتلة"[13].

والخلاصة:
أنَّه لا يجوز أن يُقصد بالقتال مَن ليسوا بأهل له، كالنِّساء والأطفال والشُّيوخ، والزَّمنى والعُمي والعَجَزة، والذين لا يُباشرونه عادةً كالرُّهبان والفلاَّحين، إلَّا إذا اشترك هؤلاء في القِتال وبدؤوا هم بالاعتداء، فعندها يجوز قتالُهم.

ولم يقتصرِ النهي عن الاعتداء على بني البَشر فقط؛ وإنَّما تجاوز ذلك ليشملَ النهي عن الإتلاف، وقطع الشَّجر، وقتْل الحيوانات، وتخريب الممتلكات بغير مصلحة، أو ضرورة تقتضي الإقدامَ على ذلك، وهذا سُموٌّ أخلاقي لم تعرفْ له البشرية مثيلًا في تاريخها قديمًا وحديثًا.

فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - لَمَّا بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع، خرج - رضي الله عنه - معه يُوصيه، ويزيد راكب وأبو بكر يَمشي.


فقال يزيد: يا خليفةَ رسول الله، إمَّا أن تركب وإمَّا أن أنزل.
فقال: "ما أنت بنازلٍ، وما أنا براكب، إنِّي أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله.
يا يزيد، إنَّكم ستَقدَمون بلادًا تُؤتَوْن فيها بأصناف من الطعام، فسمُّوا الله على أوَّلِها، واحمدوه على آخرها.

وإنَّكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسَهم في هذه الصوامع، فاتركوهم وما حبسوا له أنفسهم، وستجدون أقوامًا قد اتَّخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعدَ؛ يعني: الشمامسة، فاضربوا تلك الأعناق، ولا تَقتلوا كبيرًا هَرمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا.

ولا تُخرِّبوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرة، إلَّا لنفع، ولا تعقرنَّ بهيمةً إلَّا لنفع، ولا تُحرِّقنَّ نخلًا، ولا تُغرقنَّه، ولا تَغدِر، ولا تُمثِّل، ولا تجبن، ولا تغلل، ولينصرن الله مَن ينصره ورسلَه بالغيب، إنَّ الله قويٌّ عزيز"[14].

وإنَّ هذا ينسجم تمامًا مع الهدف السامي للحرْب في الإسلام؛ فإنَّها وسيلة لإصلاح الناس وإرشادهم، وإزالة العوائق التي تَحول دونَ اطِّلاعهم على الدِّين الصحيح؛ ولذلك فلا يجوز في دِين الإسلام أن يُقاتل المسلمون رغبةً في التدمير، أو إذلالًا للناس أو تعذيبًا لهم، كما كانت تفعل جيوشُ الأمم الأخرى كاليهود والنصارى، الذين كانوا يُذلُّون الشُّعوب، ويُدمِّرون كلَّ شيء لأعدائهم؛ مدنَهم ومزارعَهم وحيواناتِهم، منفِّذين في ذلك تعاليمَ كتابهم الذي جاء يأمرهم بالقتْل والدَّمار.

فقد جاء في كتاب اليهود والنصارى المعظَّم عندَهم جملةٌ من النصوص التي تحثُّ على قتل الضُّعفاء من الأطفال والشُّيوخ والنساء، ومن ذلك:
• "يا بِنتَ بابِلَ المُخْرَبَة، طُوبَى لِمَن يُجازيكِ جَزاءَكِ الذي جازَيْتِنا، طوبَى لِمَن يُمْسِكُ أَطْفالكِ ويَضْرِبُ بِهم الصَّخْرَة"[15].

هل تتعجَّب من ذلك؟
أقول: لم يأتِ أوان التعجُّب بعدُ، فإنَّ الأمر لا يتوقَّف على مجرَّد قتْل الأطفال فقط، بل قد تعدَّى ذلك لما هو أبشع بكثير، مما قد لا تتحمَّل الطاقة الإنسانيَّة مجرَّد تصوُّرِه، إنَّه الأمر بقتل الأجنَّة في داخل بطون أمهاتِهم، بشقِّ تلك البُّطون، كما يوضِّح النص التالي:
• "تُجازى السامرة؛ لأنَّها قد تمرَّدت على إلهها، بالسَّيف يسقطون، تُحطَّم أطفالهم، والحواملُ تُشقُّ"[16].

ثم إنَّ الأمر غير متوقف عند قتل الأطفال فقط؛ بل هو شامل لجميع الأبرياء من نساء وشيوخ كما جاء في سفر حزقيال:
• "لا تُشفق أعينُكم ولا تعفوا، الشَّيخ والشاب، والعَذراء والطِّفل والنِّساء، اقتلوا للهلاك"[17].

ثم يتعدَّى الأمر بني البشر ليطول هذا الإجرام حتى العجماوات التي لا تعرف بأي ذنب قتلت، كما في النص التالي:
• "فالآن اذهب، واضربْ عماليق، وحرِّموا كلَّ ما له ولا تعفُ عنهم؛ بل اقتلْ رجلًا وامرأًة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا"[18]. 

لن أقول: قارنوا تِلكم النصوصَ بنصوص الشريعة الإسلاميَّة التي نقلناها آنفًا، فأين الثرى من الثُّريا؟! وأين تُرَّهات وضعها حثالةُ الخلق من شريعة خالق الخلق، ومالك الملك؟!

ولكن أقول: أين دُعاة التحضُّر، والمتشدِّقون بالمبادئ والقِيَم الإنسانيَّة من هذه النصوص الدمويَّة، وهم يلمزون شريعة الإسلام؛ لأنَّها تقطع يدَ سارق معتدٍ؟!

أين جمعيات رعاية الطُّفولة من نصوص تأمر بقتْل الأطفال والرضُّع؛ بل حتى الأجنَّة في بطون أمهاتهم؟!
إنَّ الذين اخترعوا أسلحة الدَّمار الشامل، وقذفوا الشُّعوب بالقنابل الذَّريَّة التي أتت على الأخضر واليابس، وسبَّبت من الدَّمار والإفساد ما امتدَّ أثره لعشرات السنين، وهؤلاء الذين قَتلوا أطفالَ البوسنة وكوسوفا، وبقروا بُطونَ أمهاتهم، وارتكبوا جرائمَ بشعةً تقشعر الأبدان من تصوُّرها، ويبقى عارُها على جبين تلك الحضارة المزعومة، وأولئك الذين ألقَوْا أطنان المتفجِّرات والموادِّ الفتَّاكة على أطفال فلسطين الأبرياء، فحرقتْ أجسادَهم، وقطَّعت أوصالهم، وبترت أطرافَهم، فتركتهم بين الموت والعجز، أقول: إنَّ أولئك القَتَلة جميعًا هم إفرازٌ طبيعي لتلك التعاليم الإرهابيَّة.

ومِن العجب أن تراهم في تبجُّح وحُمق يَقذفون المسلمين بتُهمِ الإرهاب، وسَفْك الدِّماء، ويتطاول بعضُهم في جهْل وغفلة، أو صَلَف وحِقد - لا يُنـزَّه عن الأغراض الوضيعة - لينسبَ ذلك إلى الدِّين الإسلامي نفسِه!!

والأمرُ كما جاء في المثل العربي: رَمتْني بدائها وانسلَّت.

وممَّا لا ريبَ فيه أنَّ نصوص هذا الدِّين العظيم، ومقرَّراتِه وتاريخَه، وسيرتَه - شاهدةٌ على سموِّه الأخلاقيِّ سِلمًا وحربًا، سموًّا لا يكون إلَّا ربانيًّا في مورده ومصدره.


[1] السياسة الشرعيَّة، لابن تيمية، (ص: 105)، مكتبة المعارف.
[2] البخاري (3014)، ومسلم (1744).
[3] البخاري (2792)، ومسلم (3280).
[4] أحمد (17158)، وأبو داود (2669).
[5] أخرجه مسلم (1731)، وأبو داود (2613).
[6] أخرجه البيهقي في الكبرى (17934).
[7] شرح معاني الآثار للطحاوي (3/ 221).
[8] قال ابن كثير في كتابه إرشاد الفقيه (2/ 320): رُوِيَ هذا عن أبي بكرٍ من وجوه كثيرة.
[9] أخرجه مسلم (1812).
[10] أخرجه النسائي (4127).
[11] زَمِن زمنًا وزمنة وزمانة: مرض مرضًا يدوم زمانًا طويلًا، أو ضعْف بكبر سِن أو مطاولة علَّة، فهو زمِن (بكسر الميم)، وزمين، والجمع زَمْنَى، انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ص426، مادة زمن، طبعة دار الفكر، بيروت، لبنان.
[12] الجامع لأحكام القرآن (2/ 348 - 350)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، باختصار وتصرُّف.
[13] المغني، لابن قدامة المقدسي، (10/ 530 - 535)، دار الفكر، بيروت، باختصار وتصرف.
[14] البيهقي في الكبرى (17929).
[15] سفر المزامير (137: 8 - 9).
[16] سفر هوشع (13: 16).
[17] سفر حزقيال (9: 6 ).
[18] سفر صموئيل الأوَّل (3: 15).

________________________________________________________
الكاتب: إيهاب كمال أحمد

  • 1
  • 0
  • 1,813

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً