إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء....
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) }
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما امتن عليهم بخلق ما في الأرض لهم، وكان قبله إخراجهم من العدم إلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه وجعله خليفة وإسكانه دار كرامته، وإسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه وتنبيهاً على مكانه واختصاصه بالعلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات، ولا شك أن الإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع، وشرف الفرع بشرف الأصل.
{{وَإِذْ}} واذكر يا محمد {{قَالَ رَبُّكَ}} وإسناد القول إلى الرب في غاية من المناسبة والبيان، لأنه لما ذكر أنه خلق لهم ما في الأرض، كان في ذلك صلاح لأحوالهم ومعايشهم، فناسب ذكر الرب وإضافته إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وهز لاستماع ما يذكر بعد ذلك من غريب افتتاح هذا الجنس الإنساني، وابتداء أمره ومآله.
قال ابن عاشور: أسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان «الرب» لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.
{ {لِلْمَلاَئِكَةِ}} مشتقة من الألوكة وهي الرسالة، والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة.
{{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}} يخلف الله في عباده بإبلاغ شريعته والدعوة إليها، والحكم بين عباده؛ أو يخلف من سبقه؛ أو يتناسلون ويخلف بعضهم بعضاً.
قال أهل العلم: وفي قوله: { {خَلِيفَةً}} أوجه من التفسير للعلماء:
أحدهما: أن المراد بالخليفة أبونا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره. أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لَمْ يَكُنْ حَالًّا فِي الْأَرْضِ ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السَّلْطَنَةُ على موجودات الأرض، ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان.
فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقين ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم.
فكانت الآية من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الْخُطَّتَيْنِ قال تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}} [النساء:64] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سدى.
وقيل: خليفة لأنه صار خلفا من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبله.
وقيل: لأنه إذا مات يخلفه من بعده.
وقوله: {{خَلِيفَةً}} مفرد أريد به الجمع، أي خلائف، وهو اختيار ابن كثير. والمفرد إن كان اسم جنس يكثر في كلام العرب إطلاقه مرادا به الجمع كقوله تعالى: { {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} } [القمر:54]؛ يعني وأنهار، بدليل قوله: {{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}} [محمد:15] وقوله: {{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}} [الفرقان:74]، وقوله: {{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}} [النساء:4]
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل كل هذه الأوجه. فقد دلت آيات أخر على أن المراد بالخليفة: الخلائف من آدم وبنيه لا آدم نفسه وحده. كقوله تعالى: {{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}} [البقرة:30].ومعلوم أن آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها، ولا ممن يسفك الدماء.
وكقوله: {{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ}} [فاطر:39]، وقوله: { {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} } [الأنعام:165]، وقوله: {{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ}} [النمل:62] ونحو ذلك من الآيات.
ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم، وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء. فقالوا ما قالوا، وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية، وبخلافة ذريته أعم من ذلك، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر.
وقول الله تعالى هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليسن الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفي من حكمه خلق آدم ..كذا ذكر المفسرون.
قال القرطبي: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة؛ يسمع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم [أبي بكر الأصم المعتزلي] حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال: ودليلنا قول الله تعالى: {{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} } [البقرة:30] وقوله تعالى: {{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}} [ص:26] وقال: { {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}} [النور:55] أي: يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي.
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش.
فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها. ولقال قائل: إنها غير واجبة لا في قريش ولا في غيرهم. فما لتنازعكم وجه، ولا فائدة في أمر ليس بواجب، ثم إن الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك. فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين. [تفسير القرطبي]
{{قَالُواْ}} وَفَصَلَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَعْطِفْ بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية، وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول، فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل.
وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل، ومما عطف بالفاء قوله تعالى: {{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ} } [المؤمنون:23-24]
وقد يعطف بالواو أيضا كما في قوله: {{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ}} [المؤمنون: 32-33]
وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية مما جرى في أوقات متفرقة أو أمكنة متفرقة.
ويظهر ذلك لك في قوله تعالى: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25] إلى قوله: {{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}} [غافر:26] ثم قال تعالى: {{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ}} ثم قال: {{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}} [غافر:28]
{{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} } بالكفر والمعاصي {{وَيَسْفِكُ}} السفك: الصب والإراقة، ولا يستعمل إلا في الدم، وعطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به، وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق، فالتعبير بالفعل المضارع في قوله: {{مَنْ يُفْسِدُ} {وَيَسْفِكُ}} يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة.
{{الدِّمَاء}} قياساً على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه، وفي هذا دليل لمن رجح قول أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها.
وقال بعضهم: مجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة.
واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، والتعجب، والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك، وليس للاعتراض.
وقولهم هذا دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع، وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى: { {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ}} [محمد:23] وقال: {وَإِذَا {تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} } [البقرة:205]
ولا يرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مشورة ونحوها كالخطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار في شأنه من النقائص، ورجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره، ولأن الموصوف بذلك غير معين إذا الحكم على النوع، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة.
{{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}} أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول: "جاء زيد بثيابه"، فنقول: "سبحان الله وبحمده".
{نُسَبِّحُ} التسبيح: تنزيه الله وتبرئته عن النقائص، ولا يستعمل إلا لله تعالى، وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السَّبْحِ وهو الذهاب السريع في الماء، وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص.
أي نُنَزِّه؛ والذي يُنَزَّه الله تعالى عنه شيئان؛ أولاً: النقص؛ والثاني: النقص في كماله؛ وزد ثالثاً إن شئت: مماثلة المخلوقين؛ كل هذا يُنَزَّه الله عنه.
النقص: مطلقاً؛ يعني أن كل صفة نقص لا يمكن أن يوصف الله بها أبداً. لا وصفاً دائماً ولا خبراً.
والنقص في كماله: فلا يمكن أن يكون في كماله نقص؛ قدرته: لا يمكن أن يعتريها عجز؛ قوته: لا يمكن أن يعتريها ضعف؛ علمه: لا يمكن أن يعتريه نسيان... وهلم جراً؛ ولهذا قال عزّ وجلّ: {{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} } [ق:38] أي تعب، وإعياء؛ فهو عزّ وجلّ كامل الصفات لا يمكن أن يعتري كماله نقص.
ومماثلة المخلوقين: هذه إن شئنا أفردناها بالذكر؛ لأن الله تعالى أفردها بالذكر، فقال: {{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}} [الشورى:11]. وقال تعالى: {{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}} [الروم:27]، وقال تعالى: {{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ}} [النحل:74]؛ وإن شئنا جعلناها داخلة في القسم الأول «النقص» لأن تمثيل الخالق بالمخلوق يعني النقص؛ بل المفاضلة بين الكامل والناقص تجعل الكامل ناقصاً، كما قال القائل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره .. إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
{{بِحَمْدِكَ}} الحمد هو الثناء، والثناء ناشئ عن التوفيق للخير والإنعام على المثنى.. وبحمدك أي: بتوفيقك وإنعامك.
قال العلماء: الباء هنا للمصاحبة. أي: تسبيحاً مصحوباً بالحمد مقروناً به؛ فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد؛ لأن الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً؛ فإن وصفتَ مرة أخرى بكمال فسَمِّه ثناءً؛ والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى قال: (قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذ قال: {{الحمد لله رب العالمين}} قال تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: {{الرحمن الرحيم}} قال تعالى: أثنى عليّ عبدي)؛ لأن نفي النقص يكون قبل إثبات الكمال من أجل أن يَرِد الكمال على محل خالٍ من النقص.
{{وَنُقَدِّسُ لَكَ}} ننزهك عما لا يليق بك.. توكيد، لأن التقديس هو: التطهير، والتسبيح هو: التنزيه والتبرئة من السوء. والمعنى: ونحن نعظمك وننزهك، والأول بالقول والعمل، والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية، فلا يتوهم التكرار بين نسبح ونقدس.
وأصل التقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي. واللام في {{لك}} زائدة لتقوية المعنى. وقيل: اللام هنا للاختصاص؛ فتفيد الإخلاص؛ وهي أيضاً للاستحقاق؛ لأن الله -جلّ وعلا- أهل لأن يقدس.
وبناء «قدس» كيفما تصرف فإن معناه التطهير، ومنه قوله تعالى: {{ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}} [المائدة:21] أي المطهرة. وقال: {{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} } [الحشر:23] يعني الطاهر، ومثله: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:12] وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر، ومنه قيل للسطل: قَدَس، لأنه يتوضأ فيه ويتطهر، ومنه القادوس.
وفي الحديث: (لا قدست أمة [يريد لا طهرها الله] لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) [أي دون أن يصيبه أذى أو ضرر]) أخرجه ابن ماجة في سننه [صحيح الجامع].. فالقدس: الطهر من غير خلاف.
قال ابن عثيمين: "التقديس" معناه التطهير؛ وهو أمر زائد على "التنْزيه"؛ لأن "التنزيه" تبرئة، وتخلية؛ و"التطهير" أمر زائد؛ ولهذا نقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب؛ اللهم نقني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس؛ اللهم اغسلني من خطاياي بالماء، والثلج، والبَرد): فالأول: طلبُ المباعدة؛ والثاني: طلب التنقية. يعني: التخلية بعد المباعدة؛ والثالث: طلب الغسل بعد التنقية حتى يزول الأثر بالكلية؛ فيجمع الإنسان بين تنْزيه الله عزّ وجلّ عن كل عيب ونقص، وتطهيره. أنه لا أثر إطلاقاً لما يمكن أن يعلق بالذهن من نقص.
قولهم {{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}} يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهام علمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسد منه رأيا وأرجح عقلا فيشير ثم يفوض، كما قال أهل مشورة بلقيس إذ قالت: {{أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}} أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله: {{وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}} [النمل:31] {{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}}
الاحتمال الثاني: أن يكون الغرض من قولهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف، والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد وسفك الدماء.
وفي الآية إشارة إلى وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخير لا بأس به إذا كان المقصود مجرد الخبر دون الفخر، وجواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجور والحيف، ورأى في ذلك مصلحة. ولذلك جاز ليوسف -على نبينا وعليه السلام- طلبه الولاية، ومدح نفسه بما فيها فقال: {{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}} [يوسف:55]
{{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} } أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد، وأعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال، وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب، واطلاعا على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك، وأجعل فيهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين والخاشعين. يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت.
ثم لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته على سبيل الإجمال، أراد أن يفصل، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوماً لهم، وذلك بأن علمه الأسماء ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: