نحتفل بالمولد أم نحزن بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
إذا تذكَّرنا المصائب العِظام، هان علينا ما دون ذلك، فلن يضرَّ الأمة موت فلان أو فلان، فقد فقدت الأمة قبل هؤلاء محمد بن عبدالله
في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من الهجرة، أُصِيبت هذه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها؛ ألَا وهو وفاة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإذا تذكَّرنا المصائب العِظام، هان علينا ما دون ذلك، فلن يضرَّ الأمة موت فلان أو فلان، فقد فقدت الأمة قبل هؤلاء محمد بن عبدالله، عليه صلوات الله، نعم، كل المصائب تهون عند هذه المصيبة؛ قال أبو الجوزاء: "كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة، جاء أخوه فصافحه، وقال: يا عبدالله، اتَّقِ الله؛ فإن لك في رسول الله أسوةً حسنة".
عباد الله، لقد أكَّد القرآن العظيم حقيقةَ بشريةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كغيره من البشر سوف يذوق الموت، ويعاني من سكراته، كما ذاق ذلك قبله إخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، فلما قرأها صلى الله عليه وسلم قال: ( «نُعِيَتْ إليَّ نفسي» )، وقال الله جل في علاه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34، 35].
كذا أخبرنا هو صلوات ربي وسلامه عليه بأنه سيموت؛ فعن جابر رضي الله عنه قال يوم كان حجة الوداع، وقد التفَّت الجموع والأفئدة من حوله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: «خُذُوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حِجَّتي هذه، [وقال] : بل لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»؛
قال النووي: "وفيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته، وحثُّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين"؛ ولهذا سُمِّيَت حجة الوداع، وأخذ يودِّع الناس قال معاذ: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، خرج راكبًا والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته))، تأمل تواضعه صلوات ربي وسلامه عليه، وهو يودِّع أحد شباب الإسلام سفيرًا إلى اليمن، فقال: «يا معاذ، إنك عسى ألَّا تلقاني بعد عامي هذا، فتمر بقبري ومسجدي»، فبكى معاذ لفراقه صلى الله عليه وسلم، كيف لا يبكي وهو الذي أنقذه الله به من الظلمات إلى النور، ونزلت عليه في أواسط أيام التشريق: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]،
فهذه الآيات والأحداث مؤشرات تدل على أن مهمته صلى الله عليه وسلم قد انتهت، وأن عليه الإكثار من الدعاء والاستغفار، والاستعداد للقاء الرفيق الأعلى، نعم، لقد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغُمَّة، وتركنا على المحجَّةِ البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فأخذ بعد عودته من حجة الوداع يرغِّب أصحابه بكثرة ملازمته، والجلوس معه، قبل أن يُحرَموا ذلك، حتى قال لهم يومًا: «والذي نفس محمد بيده، ليأتيَنَّ على أحدكم يومٌ ولا يراني، ثم لأن يراني أحبُّ إليه من أهله وماله»، فبكى أصحابه رضوان الله عليهم، وبدؤوا يستشعرون أن حبيبهم بدأ يودِّعهم، وفي أواخر الأيام خرج إلى أُحُدٍ، وصلى على الشهداء، كالمودِّع للأحياء والأموات، فلما رجع انصرف إلى المنبر؛ فقال: «يا أيها الناس، إني فَرَطُكم، وإني شهيد عليكم، وإني لَأَنْظُر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيتُ مفاتيحُ خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم من الدنيا أن تَنافَسُوها كما تنافسوها، فتُهْلِككم كما أهلكتهم»، وفي جوِّ ليلة من الليالي الأخيرة في حياته، أيقظ مولاه أبا مُوَيْهِبَةٍ وقال له: «إني قد أُمِرْتُ أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي»، فلما وقف بين أظْهُرِهم، قال: «السلام عليكم يا أهل القبور، لِيَهْنِكم ما أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلتِ الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولها آخرها، الآخرةُ شرٌّ من الأولى»، ثم أقبل على أبي مويهبة، فقال: يا أبا مويهبة، «إني قد أُوتيتُ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة»، فقال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي، خُذْ مفاتيح الدنيا والخلد فيها والجنة، فقال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي، لقد اخترت لقاء الله والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف بعد أن قال لهم: إنا بكم لاحقون».
وبعد رجوعه من البقيع بدأ وجعُه الذي قُبِضَ فيه، ودخل على عائشة ووجدها تشكو صداعًا في رأسها وتقول: ((وا رأساه! وا رأساه! فقال: «بل أنا والله، يا عائشة وا رأساه» ! ثم قال لها مهدئًا من رَوعها، ومداعبًا لها على ما به من شدة الألم: «وما ضرَّكِ يا عائش لو متِّ قبلي، فقمتُ إليكِ وكفَّنتكِ وصليت عليكِ ودفنتكِ»، فقالت له وهي تداعبه ولم تعلم أن هذا المرض هو الذي سينقله إلى ربه: والله لَكأني ولو قد فعلت - يعني: مت - لَرجَعتَ إلى بيتي فأعْرَستَ ببعض نسائك، قالت: فتبسَّم صلى الله عليه وسلم))، ثم ازداد به الوجع، وبدأ يطوف على نسائه وهو يقول لهن: «أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا» ؟، فاستأذنهن أن يُمرَّض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذِنَّ له، تأمل إلى مراعاته خواطر نسائه مع شدة مرضه، واستمر معه المرض ثلاثة عشر يومًا، وقيل: أربعة عشر، والمرض يزداد عليه يومًا بعد يوم، زيادة في التشريف والتكريم؛ تقول عائشة رضي الله عنها: كنت كثيرًا ما أسمعه في أيام مرضه يقول: «إن الله لم يقبض نبيًا حتى يخيِّره»، فسمعته وهو يُحتضَر يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة»،
فعلمت أنه يُخيَّر فقلت: إذًا لا يختارنا، لقد اشتاق إلى لقاء ربه كما اشتاق ربه إلى لقائه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظْلَمَتِ المدينة على ساكنيها، عبَّر أنس عن هذه المصيبة بقوله: "والله ما رأيت أجمل ولا أحلى من ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد أضاء فيها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظْلَمَ منها كل شيء، وما نَفَضْنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي، حتى أنكرنا قلوبنا"، وما إن تسرب النبأ الخادع، والمصاب العظيم، وعلِم الناس الخبر، حتى طاشت عقولهم، وعمَّتهم الحَيرة، وأقعدتهم الدهشة، وأظلمت الحياة في وجوههم.
وفي تلك اللحظات ابتُلِيَ المؤمنون وزُلْزِلوا زلزالًا شديدًا، فمنهم من خرَّ مغشيًّا عليه، ومنهم من لم يستطِعِ القيام، ومنهم من حُبس لسانه فلم يستطع الكلام، ومنهم من أنكر موته من شدة هول الصدمة والمصيبة، إنها مصيبة عظمى، وخطب جَلَل، إنه فَقْدٌ وغياب لسيد ولد آدم، خير من صلى وصام، وخير من عَبَدَ ربِّ الأنام.
فمن أُصيب بمصيبة، أو فَقْدِ عزيز أو رحيل حبيب، فلْيعزِّ نفسه برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مات وانقطع بعده الوحي، وليقتدِ بحبيبه محمد عليه الصلاة والسلام الذي مات أبناؤه وبناته وزوجته، وأحبابه وأصحابه، وصبر واحتسب، ودمعت عيناه حزنًا، لكنه رضِيَ بقضاء الله وقدره.
عباد الله: يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»، وقال: «مَن أحْدَثَ في ديننا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ».
هذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية دلَّت دلالة واضحة على أن نقتدي بما ورد في الكتاب والسنة، وألَّا نبتدع شيئًا في الدين لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، ومهما بلغت محبتنا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن تمام المحبة بالاتباع وليس بالابتداع، كما يفعله بعض من ابتُلوا بإحياء البدع وإماتة السنن؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
- إن الثابت في تاريخ هذه الأمة ثبوتًا صحيحًا هو أن المؤرخين دوَّنوا تاريخ موت النبي صلى الله عليه وسلم باليوم والشهر والسنة، والوقت الذي تُوفِّيَ فيه من ليل أو نهار؛ حيث مات صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، لعام أحد عشر هجريًّا، لكن تاريخ ولادته لم يحدد بصفة مجمَع عليها؛ لأنه وُلِد كغيره من البشر، لكنه مات وهو أعظم البشر صلوات ربي وسلامه عليه.
الغريب أن فِئامًا ممن ينتسبون لأمة محمد يحتفلون بيوم 12 من ربيع الأول الذي ثبت فيه وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنهم يُحْيُون يوم مولده، ويُرَدُّ عليهم بأن يُقال لهم أنتم في الحقيقة تحتفلون بموته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ثبت في أشهر الأقوال أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت في 12 ربيع الأول، أما ولادته فلم يثبت فيها تاريخ صحيح، بل الخلاف في التحديد معروف ومشهور.
وبفضل الله علينا في هذه البلاد المباركة التي لا يظهر فيها مثل هذه البدع والاحتفالات، كما في كثير من بلاد المسلمين والله المستعان، لكننا بُلينا في هذا الزمن بوسائل التواصل التي تروِّج لهذه البدع التي تروج للاحتفالات بالمولد وما فيها من بدع وشركيات؛ حيث يُنشِدون الأشعار الشركية، ويتغنَّون بالمدائح الكفرية، ويستغيثون بالرسول، ويسألونه قضاء الحاجات، أو يرجونه لشفاء الأمراض أو تفريج الكربات، وما يحصل من رقص الرجال وتمايلهم، وما يصاحبه من طبول في المساجد، ما أنزل الله بها من سلطان.
وللرد على من يروِّج لهذه البدعة؛ فإن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقد رَدَدْنا الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله، فوجدناه يأمرنا باتباع نبينا، صلى الله عليه وسلم، ويخبرنا بأن الدين كامل، ورددنا الاحتفال بالموالد إلى سُنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه، فعلمنا أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ولا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بكثرة من يفعل الموالد، ويحضرها من الناس؛ قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
ومن العجائب أن بعض أولئك الناس يجتهد في حضور الاحتفالات المبتدعة، لكنه يتخلَّف عن الجُمَعِ والجماعات، نسأل الله العفو والعافية والهداية.
ونعلم جميعًا أنه لا يتم إيمان عبدٍ حتى يُحِبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعظِّمه، ومن تعظيمه وتوقيره اتخاذه إمامًا متبوعًا، فنتبع أمره وسُنَّته ولا نتجاوز ما شرعه من العبادات؛ قال الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]
.
فحبيبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل به، ولا الصحابة، ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة، ولا أصحاب الصحاح والسنن، بل احتفل به أولئك الذين يستقبلون قبره ويطلبونه الشفاعة لهم، أو يتوسلون به، وكل هذه من البدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ فقد أمركم الله بذلك؛ فقال جل من قائل عليم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
____________________________________________________
الكاتب: متعب بن علي الأسمري