الحصار الظالم: دروس وعبر
إنه لخزي وعار للذين يستعملون التجويع والحصار لثني الناس والشعوب عن إرادتهم واختيارهم، حتى غدت كسجن كبير أمام عجز الأمة وضعفها وهوانها وتخاذلها، وأمام صمت أدعياء حقوق الإنسان والحيوان...
عباد الله، في السنة السابعة من البعثة: تعاهدت قريش على قطيعة بني هاشم إلا أن يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفةً وعلَّقوها في جوف الكعبة.
وفي نفس السنة (أي: في السنة السابعة) اعتزل بنو هاشم وتبعهم إخوانهم بنو المطلب مع أبي طالب في الشعب (فجوة في جبل يقع بين جبل أبي قبيص وجبل الخندمة وكان ملكًا لعبد المطلب)، باستثناء عمه أبي لهب لم يكن معهم، فأقاموا به ثلاث سنين، إلى أن سعى المطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود وغيرهم في نقض الصحيفة، فخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الشعب في أواخر السنة التاسعة.
عباد الله، من المستفادات من هذا الحدث لواقعنا ما يلي:
1- الأعداء لا يحبون لراية الإسلام أن تُرفَع: قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدًا أصابوا به أمنًا وقرارًا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب. فالذي جعلهم يكتبون الصحيفة هو ما رأوه من انتشار الإسلام وعلوِّ رايته، وهكذا أعداء المسلمين اليوم يغيظهم امتلاء المساجد بالمصلين، وانتشار مظاهر الإسلام في الشوارع كالحجاب، وبهذا يعمدون إلى التغيير بالترهيب والقوانين، وخاصةً لما فشلوا في تغيير عقائد المسلمين بالترغيب مسخرين في ذلك إعلامهم المأجور، ونقول لهم كما قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، فهؤلاء {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
2- الحصار سلاح الجبناء: اتفق الكفار في الصحيفة التي كتبوها على: ألَّا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، حصار اجتماعي بمنع الزواج من بناتهم، ومنع تزويجهم إذا خطبوا إليهم، وحصار اقتصادي بمنع البيع لهم أو الشراء منهم؛ ولذلك عاشوا في ضيق شديد، حتى قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: سمعت قعقعةً تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثًا، وإنها لمكرمة لهؤلاء الأبطال الذين تحملوا من أجل عقيدتهم، ومن أجل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه لخزي وعار للذين يستعملون التجويع والحصار لثني الناس والشعوب عن إرادتهم واختيارهم، مما لم نر له مثيلًا في وقتنا الحاضر إلا في الحصار الغاشم المفروض على إخواننا في غزة بفلسطين، حتى غدت كسجن كبير أمام عجز الأمة وضعفها وهوانها وتخاذلها، وأمام صمت أدعياء حقوق الإنسان والحيوان.
3- الشرفاء لا يخلو منهم زمان: رأينا أن بعض الكفَّار من بني هاشم وبني المطلب دخلوا في الشعب تضامنًا وعصبية لبني قومهم، أناس لا يعرفون النفاق، ليس كما في زماننا يبيعون أوطانهم وينقلون أخبار المسلمين إلى الأعداء، والذين نقضوا الصحيفة لم يكونوا مؤمنين إذ ذاك، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أبي أمية المخزومي (وهو ابن عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم) والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، لكن فيهم نخوة، أناس رفضوا الظلم؛ ولهذا رأينا في زماننا من اليهود والنصارى من يقول الحق ويرفض ما عليه سياسة دولهم من الظلم والقهر، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
من الدروس المستفادة:
4- على الباغي تدور الدوائر: ومصير الظالم الهلاك، فمن الظلمة:
• منصور بن عكرمة وهو الذي تولى كتابة الصحيفة، وقيل: النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشل بعض أصابعه.
• أبو لهب وامرأته: فهذا أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، خرج إلى قريش، فظاهرهم، ولقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، فقال: يا بنت عتبة، هل نصرت اللات والعزى؟ قالت: نعم، فجزاك الله خيرًا يا أبا عتبة، وأما امرأته أم جميل فكانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر، فأنزل الله تعالى فيهما: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5]. ولما نزلت سورة المسد أتت أم جميل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك، فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مذممًا عصينا، وأمره أبينا، ودينه قلينا، ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني.
وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذممًا، ثم يسبونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذممًا، وأنا محمد.
وهكذا إخواني رأينا مصير هؤلاء الظلمة الذين آذوا نبيَّه وحاربوا دينه، وهو لا شك مصير كل محارب لأولياء الله في كل زمان ومكان، قال صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب» [2].
فاللهم إنا نعوذ بك من الظلم، آمين؛ (تتمة الدعاء).
[1] مراجع الخطبة: القرآن الكريم، المصادر الحديثية (انظرها في تخريج الأحاديث)، سيرة ابن هشام: 1/350-356، الروض الأنف: 3/217.
[2] رواه البخاري: 6502.
_____________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
- التصنيف: