وقفات مع قوله تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقال تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}  [الرعد: 20 - 24].

يقول تعالى مفرِّقًا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}  [الرعد: 19]، ففهِم ذلك وعمِل به،  {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، لا يعلم الحق ولا يعمل به، فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر؛ أي الفريقين أحسن حالًا وخير مآلًا، فيؤثر طريقه، ويسلك خلف فريقه، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه وما يضره.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]؛ أي أولو العقول الرزينة والآراء الكاملة الذين هم لبُّ العالم وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}  [الرعد: 20][1].

«في هذه الآيات جمع الله لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف، فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم أمره ونهيه الذي عهده إليهم، بينهم وبينه وبينهم وبين خلقه، ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه، كحال المنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان[2].

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}  [الرعد: 21].

يدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه وحق الله وحق خلقه، فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له والقيام بطاعته والإنابة إليه، والتوكل عليه وحبه وخوفه ورجائه والتوبة إليه، والاستكانة والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها، فهذه هي الصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن نوصل ما بيننا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء، والرضا لحكمه والتسليم له، وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه، فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله.

وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فإنه أمر ببرِّ الوالدين وصلة الأرحام، ذلك مما أمر به أن يُوصل، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهنَّ ومعاشرتهنَّ بالمعروف، وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأرقاء بأن نُطعمهم مما نأكل ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا، وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر، وأن نصل ما بيننا وبين عموم الناس بأن نأتي إليهم بما نحب أن يأتوه إلينا، وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم، ونستحيي منهم كما يستحيي الرجل من جليسه، ومن هو معه ممن يُجله ويُكرمه، وهذا كله مما أمر الله به أن يوصل، ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة وهو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب، ولا يمكن لأحد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب، انقطعت هذه الوصلة»[3].

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}  [الرعد: 22].

«أي صبروا على المأمورات بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها، ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر ابتغاء وجه ربهم، لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا الصبر النافع الذي يحتسب العبد نفسه طلبًا لمرضاة ربه ورجاء للقرب منه والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة»[4].

قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}  [البقرة: 277]؛ أي: بأركانها وشروطها ومواقيتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي».

«ثم ذكر لهم ما يعينهم على الصبر وهي الصلاة، فقال: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ }، وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة، وهما الصبر والصلاة، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}  [البقرة: 45]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  [البقرة: 153][5].

«قوله: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}، يدخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة، وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة سرًّا وعلانية، فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة وإلى غيرهم بالإنفاق عليهم»[6].

قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}، إذا جهل عليهم وأوذوا أنهم لا يقابلون ذلك بمثله، بل يدرؤون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}  [فصلت: 34]،وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}  [فصلت: 34، 35].

وقال بعضهم: المراد أنهم يدفعون الذنب بالحسنة بعده، قال القرطبي بعدما ذكر الأقوال الكثيرة في هذه الآية: ومعناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}  [هود: 114]، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» »[7]، [8].

قال ابن القيم رحمه الله: «والتحقيق أن الآية تعم النوعين»[9].

والمقصود أن هذه الآيات تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، اشتملت على فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}  [آل عمران: 125]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}  [يوسف: 90].

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}  [آل عمران: 200]، فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر اشتمل على الأمور الثلاثة، فإن حقيقة التقوى فعل المأمور وترك المحظور.

قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}  [الرعد: 23، 24]، {جَنَّاتُ عَدْنٍ}؛ أي إقامة لا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولًا، لأنهم لا يرون فوقها غاية، لما اشتملت عليه من النعيم والسرور الذي تنتهي إليه المطالب والغايات، ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم يدخلونها مع من صلح من آبائهم وذرياتهم من الذكور والإناث وأزواجهم؛ أي: الزوج أو الزوجة؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}  [الطور: 21]، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب يهنونهم بالسلامة وكرامة الله لهم، لزوال كل مكروه ومستلزم لحصول كل محبوب، والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.

قوله: {بما صبرتم}؛ أي صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية والجنان الغالية.

{فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}؛أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها، عملتم فيها ما أعقبكم هذه الدار التي أنتم فيها، فالعقبى على هذا اسم والدار هي الدنيا، وقال بعضهم: فنعم عقبى الدار: الجنة عن النار، وقيل: الجنة عن النار.

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرُونَ أوَّل مَن يدخَلُ الجَنَّة مِن خَلقِ اللَّهِ»؟، قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أعلُم، قال: «أوَّل مَن يدخُلُ الجَنَّة مِن خَلقِ اللَّهِ الفُقَراءُ والمُهَاجِرُون، الَذِيْنَ تُسَدُّ بِهِم الثُغُورُ ويُتَّقَى بِهِم المكارِهُ، وَيموتُ أحَدُهم وَحَاجَتُهُ في صَدْرِه، لا يَستطِيعُ لها قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لمَنْ يَشَاءُ مِن مَلائِكَتِه: ائتُوهُم، فَحَيُّوهُم، فَتَقُولُ الملائِكَةُ: نَحْنُ سُكَانُ سَمَائِكَ وَخِيْرَتُكَ مِن خَلْقِكَ، أفتَأمُرُنا أن نَأتِيَ هَؤلاءِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهِم؟ قَالَ: إنهم كانُوا عِبَادًا يَعبُدُوني لا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا، وَتُسَدُّ بِهِم الثُّغُورُ[10]، ويُتَّقَى بِهِم المَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أحَدُهم وَحاَجَتُهُ في صَدْرِهِ، لا يَستطيعُ لها قَضَاءً، قَالَ: فَتأتِيهِم الملائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِن كُلِ بَابٍ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}  [الرعد: 24]»[11].

والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين [12].

[1] تفسير الشيخ السعدي ص532.

[2] نص الحديث في صحيح البخاري برقم (6095)، وصحيح مسلم (59).

[3] بدائع التفسير لابن القيم رحمه الله (2/ 394-395).

[4] بدائع التفسير لابن القيم رحمه الله (2/ 495).

[5] تفسير الشيخ السعدي رحمه الله، ص533.

[6] تفسير الشيخ السعدي رحمه الله ص533.

[7] سنن الترمذي برقم (1987)، وقال: حديث حسن صحيح.

[8] الجامع لأحكام القرآن (12/ 59).

[9] بدائع التفسير (2/ 496).

[10] الثغور: هو موضع يكون حدًّا فاصلًا بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أطراف البلاد، والمراد أنهم يقدمون إلى الثغور والمكاره ويبعثون إليهما؛ حتى لا تدخل الكفرة بلاد الإسلام من الثغور، وحتى تندفع المكاره.

[11] (11/ 131-132) برقم (6570)، قال محققوه: إسناده جيد.

[12] بدائع التفسير لابن القيم رحمه الله (2/ 494-496)، تفسير ابن كثيررحمه الله (8/ 135-138)، تفسير القرطبي رحمه الله (12/ 53-61)، تفسير الشيخ السعدي رحمه الله، الجامع لأحكام القرآن (ص532-533) باختصار.

___________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي