المراد بصلة الرحم
"صلة الرحم لا تَعني أن تصل من وصلك، لكن صلة الرحم أن تصل من قطعك"
صلة الرحم لا تَعني أن تصل من وصلك، لكن صلة الرحم أن تصل من قطعك، فمن الناس من يعامل قرابته وأرحامه بالمثل، إن قطعوه قطَعهم، وإن وصلوه وصلهم، وهذا ليس بواصلٍ في الحقيقة، بل هو مكافئ للمعروف بمثله، والمكافأة على المعروف يشترك فيها القريب وغيره، والواصل حقيقةً هو من يصل قرابته حتى لو قطعوه، فقد أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ[1]، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»؛ (صحيح الجامع: 5385).
وقال عمر رضي الله عنه: ليس الوصل أن تصل من وصلك وذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: لا يلزَم من نفي الوصل ثبوت القطع، فهم ثلاث درجات: واصل، ومكافئ، وقاطع، فالواصل يَتَفضلُ ولا يُتَفضَّلُ عليه، والمكافئ الذي لا يزيد في الإعطاء على ما أخذ، والقاطع الذي يُتَفضَّلُ عليه ولا يَتَفَضَّلُ، وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سُمِّي من جازاه مكافئًا؛ اهـ؛ (فتح الباري بشرح صحيح البخاري).
ومرَّ بنا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والحاكم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتُ بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: «يا عقبة، صِلْ من قطعَكَ، وأَعْطِ من حَرَمَكَ، وأعرض عمَّن ظلمَكَ -وفي رواية: واعفُ عمن ظلمك»؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 2536).
ومن عمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معه من الله معين، فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رجلًا قَالَ: يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ لِي قَرابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِم وَيُسِيئُونَ إِليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ وَيَجْهَلُونَ علَيَّ، فَقَالَ: «إنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ[2] المَلَّ[3]، وَلا يَزَالُ معكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ[4] عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلكَ».
قال النووي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث: وهو تشبيهٌ لما يلحقهم من الإثم، بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن إليهم، لكن ينالهم إثمٌ عظيم بتقصيرهم في حقه، وإدخالهم الأذى عليه، وقيل: معناه أنك بالإحسان إليهم تُخزيهم وتحقِّرهم في أنفسهم، لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كما يسف المَلَّ؛ اهـ.
وأخرج الطبراني وابن حبان واللفظ له من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصالٍ مِن الخيرِ: أوصاني بألَّا أنظُرَ إلى مَن هو فوقي، وأنْ أنظُرَ إلى مَن هو دوني، وأوصاني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم، وأوصاني أنْ أصِلَ رحِمي وإنْ أدبَرتْ، وأوصاني ألَّا أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأوصاني أنْ أقولَ الحقَّ وإنْ كان مُرًّا، وأوصاني أنْ أُكثِرَ مِن قولِ: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، فإنَّها كنزٌ مِن كنوزِ الجنَّةِ؛ (صحيح الترغيب والترهيب: 2525).
وفي رواية عند الإمام أحمد بلفظ: أَمَرَنِي خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ، وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.
وصدق القائل حيث قال:
عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَـا *** وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الأبَاعِدِ
وَلا تَصْحَبَنَّ إِلا تَقِيًّا مُهَذَّبًا *** عَفِيفًا ذَكِيًّا مُنْجِزًا لِلْمَوَاعِــدِ
(جواهر الأدب لأحمد الهاشمي صـــ 661)
ومن أجمل ما قيل في ذلك قول المقنع الكندي:ـ
وَإِن الذي بَيني وَبَين بَني أَبــــــي *** وَبَينَ بَني عَمِّي لَمُختَلِفُ جِــــــــــدًّا
إذا قدحوا لي نارَ حربٍ بزندِهـــم *** قدحتُ لهم في كلِّ مكرمةٍ زنــــــدا
وإن أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهــم *** وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدَا
وأعطيهم مالي إذا كنت واجــــدًا *** وإن قلَّ مالي لم أُكلفْهم رفــــــــــدَا
قال سليمان بن موسى: قيل لعبد الله بن مُحَيْريزٍ: ما حَقُّ الرحم؟ قال: تُسْتَقْبلُ إذا أقبلتْ، وتُتْبَعُ إذا أدْبَرَتْ؛ (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا: 64).
وقال الفضل بن عبد الصمد لأبي عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله -: رجل له إخوة وأخوات بأرض غصب، ترى أن يزورهم؟ قال: نعم، يزورهم ويراودهم على الخروج منها، فإن أجابوا، وإلا لم يقُم معهم، ولا يدع زيارتهم؛ (الآداب الشرعية لابن مفلح: 1 /452).
أخي الحبيب، صلْ من قطعك، وأعطِ مَن حرَمك، واعفُ عمن ظلمك.
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًــــا *** بالطوب يُرمى فيُعطي أطيبَ الثمر
[1] ليس الواصل بالمكافئ: يعني ليس واصل رحمه حقيقة من لا يصلهم إلا أن يصلوه، بل من يصلهم وإن قطعوه.
[2] تسفهم: بضم التاء وكسر السين المهملة وتشديد الفاء، والمل: بفتح الميم وتشديد اللام وهو الرماد الحار أي كأنما تطعمهم الرماد الحار (أفاده النووي).
[3] المل: بفتح الميم وتشديد اللام: هو ما خلفته النار من الرماد الحار، وقال الأزهري، أصله الملة التربة المحماة تدفن فيها الخبزة.
[4] الظهير: المعين والناصر.
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ ندا أبو أحمد
- التصنيف: