التحصين الفكري
لم يمر عليها في التاريخ هجمةٌ على القيم والمبادئ كما نراه اليوم في عصرنا، ولهذه الهجمة صور دينية واجتماعية وسياسية وفنية، وهدفها واحد؛ وهو إبعاد الإسلام عن حياة الناس
الحمد لله معزِّ من أطاعه، ومذل من عصاه، خلق الكون ومن عليه بالحكمة ابتداء، وبالقدرة اعتلاء، وبالعمل ابتلاء، كل ذلك نعمة منه وعطاء، نحمده حمد الشاكرين له، المنقادين لحُكمه، المتمثلين لأوامره، المنتهين بنواهيه، ونشهد أن لا إله في الأرض ولا في السماء إلا هو، ونصلي ونسلم على من بعثه الله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وهاديًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
بلغ العلا بكمالــــــــــه ** كشف الدُّجى بجماله
حسنت جميع خصاله ** صلوا عليه وآلــــــــه
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]، وبعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يرسِّخ التوحيد، ويعمِّق الإيمان، ويبني أصول الدين، ولما هاجر إلى طيبة نزلت عليه التشريعات التفصيلية في العبادات والمعاملات، وهذا له حكمة بالغة، وهي أن البناء لا بدَّ أن يبدأ بالقواعد، لا بالفروع؛ كالشجرة التي تمدُّ جذورها لترسخ في الأرض، حتى إذا عظمت وكثرت فروعها وأوراقها لم يضرَّها ريح ولا عواصف.
هذا هو التحصين الفكري الذي تحتاج إليه الأمة، يحتاج إليه شباب الأمة وشاباتها، وصغارها وكبارها؛ لأن البشريَّة لم يمر عليها في التاريخ هجمةٌ على القيم والمبادئ كما نراه اليوم في عصرنا، ولهذه الهجمة صور دينية واجتماعية وسياسية وفنية، وهدفها واحد؛ وهو إبعاد الإسلام عن حياة الناس، وحصره وقصره على الاختيار الشخصي غير الملزم، وتحويله إلى شكليات لا لون لها ولا طعم ولا رائحة.
حصَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فكريًّا، ورسَّخ إيمانهم، وجمَّل إخلاصهم، حتى يهجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، ومنهم كعب بن مالك رضي الله عنه، بأمر من الله سبحانه تعزيرًا لهم وابتلاءً وامتحانًا، فتأتي لكعب رسالة من ملك الروم: بلغنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسِك، فيقول كعب: هذا والله من البلاء، ثم يحرقها في التنور. إنه محصَّن فكريًّا، لا تهزُّه الإغراءات.
حصَّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوية الإيمان بالله سبحانه في قلوبهم، الإيمان الذي لا يهتزُّ ولا يضعف أمام المغريات والتهديد، لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تُعرَضُ الفتنُ على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أشربَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مرباد كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا»؛ (رواه مسلم).
يقال لأحدهم وهو خبيب بن عدي رضي الله عنه، وهو مصلوب: هل تتمنى أن محمدًا مكانك؟ فيقول: لا أتمنى أنه يشاك بشوكة وأنا في أهلي.
تقول أمُّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الكافرة له: ارجع عن دينك أو أترك الطعام والشراب. فيقول: لو أن لك مائة نفس خرجت نفسًا نفسًا على أن أترك الإسلام ما تركته.
حصَّنهم صلى الله عليه وسلم بتوحيد مصدر التلقي عند الصحابة، فلا الأحبار ولا الرهبان ولا السحرة ولا الكهنة مصادر صحيحة للتلقي عنهم أو الأخذ منهم، أما أهل الكتاب فشنَّ القرآن الكريم عليهم حملةً شعواء بما بدَّلوا كلام الله سبحانه، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب وقال: والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى عليه السلام حيًّا ما وسعه إلا اتِّباعي. فالمبتدؤن ليسوا مؤهلين للتعرض للفتنة.
حصَّنهم صلى الله عليه وسلم بإقناعهم بالثقة المطلقة بالمنهج النبوي، وتفضيله على كل مناهج الأرض، وكيف لا يثقون وهم يرون يوميًّا دلائل النبوة وصدق القرآن، يرون نصره لهم، وخذلانه أعداءهم، يحسُّون السكينة والراحة والسعادة بذكر الله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] بعد أن كانوا مشتتين في آلهة متعددة {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] فازدادت ثقتهم بالقيادة والمنهج، واليوم مصادر التلقي في زماننا متنوعة المنابع، مختلفة المشارب، تأخذك ذات اليمين وذات الشمال، وكلها كَدَرٌ ومرض إلا ينبوع الوحي الإلهي فهو الحياة، وتأمل كلام المؤمن الورِع الحكيم المجرِّب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الفتنة، فقد دعاه بعض الناس للخروج معهم، فأبى عليهم، وقال: "لا، إلا أن تعطوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكفر فأقتله، وبالمؤمن فأكف عنه"، وضرب لهم سعد مثلًا فقال: "مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجَّة- أي: البيضاء الواضحة - فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فننيخ، فأناخوا وأصبحوا، فذهبت الريح وتبين الطريق".
إن من أهم الواجبات حراسة ثغور الإسلام، والعمل على إطفاء الحرائق التي علقت بأطراف دين الناس، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا وئامهم وصلاحهم، ودفع ورفع عاديات الشر والفساد عنهم، والاشتغال بصيانة المسلَّمات الكبرى للشريعة في الأمة، والتأكيد على امتثال الشريعة معتقدًا وعملًا، وسلوكًا وأخلاقًا، وهذا هو الدخول في الإسلام كافة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208، 209].
وها نحن نرى خطوات الشيطان في إحقاق الباطل وإبطال الحق وتزيين القبيح وتقبيح الجميل، وتبقى الحصانة الفكرية هي العاصم للمسلم بعون الله سبحانه، خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًّا مستقيمًا على الأرض، وخط حوله خطوطًا مائلة، ثم قال: «هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كلٍّ منها شيطان»، ثم قرأ قول الله سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
- التصنيف: