الدعاة .. ورعاية مقتضى حال المدعوين

منذ 2024-01-19

من أكبر ما يعين الداعية على نشر هذه الدعوة بين الناس ذلك مراعاة حال المدعوين وما يناسبهم في لحظتهم من أنواع الخطاب وهو ما يسمى بمراعاة مقتضى الحال.

الذكاء في الدعوة إلى الله له دوره الكبير والمؤثر في نشر هذه الدعوة بين الناس وفي مدى قبولهم لها وانتفاعهم بها.. ومن أكبر ما يعين الداعية على ذلك مراعاة حال المدعوين وما يناسبهم في لحظتهم من أنواع الخطاب وهو ما يسمى بمراعاة مقتضى الحال.

فينبغي للمرشد (الداعية) النابه أن يلاحظ ما تقتضيه أحوال الأشخاص والمجتمعات الخصوصية والعمومية، ويراعى أيضًا الزمان والمكان من إلقاء درس أو خطابة أو شدة أو لين أو جدل بالحسنى أو ضرب مَثَل أو رواية قصص أو إيجاز أو إطناب فيما يقول إلى غير ذلك مما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والجامع لهذه المتفرقات قول الله جل ثناؤه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125]، فإنه تعالى أمر النبي صَلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الإسلام - الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم، وأخرى بملة إبراهيم - بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبهة، وذلك بالنسبة لأولى النفوس القويةِ الاستعداد لإدراك المعاني الطالبين للحقائق وهم الخواص، وبالخطابيات المقنعة والعبر النافعة على وجه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتتوخى الخير لهم، وذلك بالنسبة لذوي النفوس الكدرة ضعيفة الاستعداد الشديدة الألف للمحسوسات القوية التعلق بالرسوم والعادات، ولكن لا عناد عندهم وهم العوام، وبأحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر، واستعمال المقدمات تسكينًا لشغْبهم وإطفاءً للهبهم، كما فعل الخليل عليه السلام، وهذا بالنسبة للمعاندين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، لما غلب عليهم من تقليد الأسلاف، ورسخ في نفوسهم من العقائد الباطلة فصاروا بحال لا تنفع فيه المواعظ والعبر، بل لابد من إلقامهم الحجر، لكن بأحسن طرق الجدال لتلين عريكتهم وتزول شكيمتهم.

أحوال المدعوين:
ويصح أن يقال: إن هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن المدعوين على ثلاثة أحوال:
منيب متذكر: وهذا شديد الحاجة إلى معرفة الأوامر والنواهي.
ومعرض غافل: وهذا شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب.
ومعارض متكبر: وهذا شديد الحاجة إلى المجادلة.

فجاءت هذه الآية الكريمة في حق هؤلاء الثلاثة، ولم يقيد الحكمة بوصف الحسنة؛ إذ كلها حسنة بخلاف الموعظة، إذ ليس كل موعظة حسنة، وكذلك الجدال.. وهذا قد يرجع على حال المجادل وغلظته ولينه وحدته ورفقه، فهو مأمور بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن.

والحاصل أن طرق الدعوة إلى الله تعالى تتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل نفس إعراضًا وإقبالاً، فقد يكون الدرس أنفع للقوم لاشتماله على الأخذ والرد والوقوف على ما عساه أن يكون غامضًا على السائل، فلا يعدل عنه إلى الخطابة، وقد تفضل الخطبة الواحدة ألف درس في بعض المجتمعات والأوساط، فلا يعدل عنها إلى الدرس.

وقد يكون اللين أفضل من الشدة، فقد تكره الموعظة لما فيها من الغلظة أو الخُرْق والحمق.

قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين! إني أريد أن أعظك بعظة فيها بعض الغلظة فاحتملها. قال: كلا، إن الله أمر مَن هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني، قال لنبيه موسى، إذ أرسله إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طـه:44]، فإن ظاهره عرض ما فيه الفوز العظيم والسعادة الدائمة بالنسبة إلى فرعون، والترجي بالنسبة لهما، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجهد طاقته ويبذل أقصى وسعه.

بين الإيجاز والإطناب:
كذلك الإيجاز لا يكون إلا للخواص وأولي الألباب الراجحة والقلوب الحاضرة.
وأما الإطناب فهو مشترك بين الخاصة والعامة ويكون مع الغبي والذكي. وليجعل القرآن الحكيم في ذلك إمامًا يقتدى به ومرشدًا يهتدى بهديه، ألا ترى أنه إذا خاطب العرب أخرج الكلام مخرج الوحي والإشارة لشدة ذكائهم وقوة فطنتهم ورجاحة عقولهم، وإذا خاطب غيرهم كبني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مطولاً مبسوطًا معادًا في مواضع كثيرة لبعد فهمهم وتأخر معرفتهم واحتياجهم إلى الإكثار والإطالة، فما خاطب به مشركي العرب في مقام الاستدلال على قدرة الله ووحدانيته قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:73، 74].

بيانه أن أقل درجة المعبود القدرة على جلب ما ينفع العابد، ودرء ما يضره، والآلهة التي عبدها المشركون لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه.
ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب وهو أضعف الحيوانات، ولا على استرجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها، فكيف يليق بعاقل أن يعبدها من دون الله، والمعبود في الضعف والعجز فهو عاجز متعلق بعاجز..

وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب الذباب والآلهة في الضعف والعجز، فالطالب الإله الباطل، والمطلوب الذباب يُطلب منه ما يأخذه مما هو عليه، ولفظ الآية يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود والمستلب، فمن جعل هذا إلهًا مع القوي العزيز؟! فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه.

وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتسفيه أحلامهم والشهادة على أن الشيطان قد لعب بهم أعظم من لعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، فأعطوها صورًا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإله الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلهيتهم أن هذا المخلوق الأقل الأذل العاجز الضعيف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستردوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه.

ومما جاء في مقام الرد على منكري البعث قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}[مريم:67]، فإنه لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الإيجاز لم يقدروا - ونظيره قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يـس:79]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم: 27].

فإن هذا معلوم لكل صانع يتكرر منه عمل؛ لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة الخيال، والثاني قد ارتسم وثبت له مثال، وإذا كان هذا في حق من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، كذلك فما ظنك بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية؟ فهذه الآيات الكريمة على إيجازها برهان قائم على أن البعث مما يدخل تحت سلطان قدرته تعالى من باب أولى، وغير خاف عليك ما جاء فيه عن بني إسرائيل.

وعلى الجملة فللإيجاز موضع كما أن للإطناب موضعا، فاستعمال أحدهما موضع الآخر خطأ واضح وعي فاضح، كما روي عن جعفر بن يحيى البرمكي أنه قال: "متى كان الإيجاز أبلغ كان الإكثار عيًّا".
وقال الخليل: يختصر الكلام ليحفظ ويبسط ليفهم - وقد كانت العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها - فالإطناب إذا لم يكن منه بد فهو إيجاز وهو في الوعظ خاصة محمود، كما أن الإيجاز في الإفهام محمود. والداعية الحازم هو الذي يتفرس في حال القوم ويأتي في كل حال ما يناسبه.

  • 0
  • 0
  • 345

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً