حق الأنبياء علينا
إن توقير الأنبياء من توقير الله، ولا يجوز أن نمُرُّ على مقالات أو مقاطع فيديو من هذا النوع تنتشر بيننا ثم لا نعترض عليها. ولا يجوز أن نُمرِّرَها للآخرين؛ لأننا بذلك ننشر أخبارًا غير صحيحة عن الأنبياء وتنتقص من مقامهم الشريف.
يمتاز ديننا الإسلامي الحنيف بأنه دين الأخلاق، فقد قال نبيُّنا الكريم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ويعلمنا ديننا الكثير من الأخلاق؛ مثل: عبادة الله وهي قمة الأخلاق؛ لأنها اعتراف منا بفضل الله علينا أن أوجدنا من العدم أولًا، ثم تكرم علينا وسوَّانا في أحسن تقويم، وأتَمَّ نعمته علينا بأن أضاف إلينا العقل والتفكير والذكاء العالي، بالإضافة إلى جمال الخلقة، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق، ولقد أرسل الله الرُّسُل والأنبياء إلينا كمعلمين ومرشدين؛ ليعلمونا ما فيه خير وصلاح أمر ديننا ودنيانا، وأمرنا أن نؤمن بهم جميعهم وليس ببعضهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150-151].
وهذا وإن دَلَّ على شيء فإنما يدل على مكانتهم السامية العالية، فما كان الله ليختارهم من بين البشر إلا لأفضليتهم في الأخلاق والتقوى، فهم الصفوة المنتقاة، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].
ولكن هل الأنبياء يخطئون؟
يَدَّعي اليهود أن الأنبياء لهم ذنوب عظيمة (خطايا)، لدرجة أنهم اتهموا الأنبياء بالزنا والمكر والسكر؛ بل والشرك أيضًا، وهذا رأي في قمة الظلم للأنبياء الأتقياء الأنقياء.
وفي المقابل هناك من قال بعصمة الأنبياء مطلقًا من كل خطأ، وهذا القول أيضًا فيه تطرُّف؛ لأن الله عز وجل عاتب أنبياءه في القرآن الكريم على أخطاء ارتكبوها.
والقول الصحيح الذي نراه هو ما يقوله الشيخ الجليل ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقَل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول[1]؛ انتهى.
فالأنبياء والمرسلون هم بَشَرٌ مثلنا؛ لكنهم أفضل البشر خلقًا؛ ولذلك فهم معصومون عن ارتكاب الكبائر وعن الذنوب التي تقع بسبب سوء النوايا؛ كالزنا والسرقة مثلًا، وهم كذلك معصومون عن الخطأ في تبليغ الوحي؛ ولكن من جهة أخرى هم كبشر لديهم أخطاء صغيرة أو زلَّات نادرة، لم ترتكب بقصد معصية الله أبدًا، وهذه الأخطاء يقعون فيها حين يجتهدون في تقدير الأمور التي ليس فيها وحي اجتهادًا شخصيًّا؛ بل إن أخطاءهم هذه من صغرها ربما لا نعتبرها نحن -كبشر- من الأخطاء؛ بل ربما اعتبرناها من الحسنات، كما قيل: سيئات المقربين حسنات الأبرار؛ ولكن الله عز وجل ينبههم عليها، ويصوبهم فيها رغم صغرها؛ لكونهم قدوةً للبشرية، فتعظم محاسبتهم، وذلك لا ينتقص من شأنهم شيئًا؛ بل إن وقوعهم في الخطأ أحيانًا بهذه الطريقة له حكمة؛ وهي أن يعرف الناس أنهم بَشَرٌ مثلنا، فيخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وليعرف الناس أيضًا أنهم مبلغون للوحي ولم يخترعوا الشريعة من أنفسهم، فهم يبلغونها للناس بكل أمانة حتى عندما يأتي الوحي بنقد شخصي لهم في سلوك قاموا به، فإنهم يبلغونه للناس كما أنزل وأوحي لهم.
ونجد في القرآن الكريم آياتٍ يعاتب فيها الله عز وجل رُسُلَه على بعض هذه الاجتهادات الشخصية، فعلى سبيل المثال عاتب الله عز وجل نبيَّه محمدًا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم حين أعرض عن الأعمى الذي جاءه يسأله عن الدين وفضَّل الرسول (كإنسان مجتهد يختار بين البدائل الأفضل لنشر الدعوة) أن يركز أولًا في دعوته على القوم أصحاب النفوذ والمناصب العليا؛ لأنهم إن آمنوا آمن بعدهم كثير من الناس بل وربما القبيلة كلها، أما الأعمى فإن آمن فهو فرد واحد؛ لكن ربَّ العزة عاتبه على هذا الاجتهاد والتصرُّف، فقال عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]، بمعنى أن الأعمى الذي جاء إليك يبحث عنك ليعرف الحق هو أوْلَى بالتبليغ من أشراف القوم الذين لم يسعوا إليك، فالرسول بلَّغ الوحي عن ربِّه وهو معصوم عن الخطأ في ذلك، فهو لا ينطق عن الهوى؛ لكن اجتهاده في طريقة التبليغ والتي كانت من اختياره هو كإنسان فقط كانت خطأً، وجاء فيها العتاب الإلهي.
ومثلها حين دعا نبي الله يونس قومه مرارًا وتكرارًا، ثم دعاهم فلم يستجيبوا له، فيأس منهم، وذهب الى البحر مسافرًا، فلم تكن لديه أي نية سيئة تجاههم، ومع ذلك عاتبه ربُّه لأنه أراده أن يكون أكثر صبرًا، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88].
هذه هي أخطاء الأنبياء البسيطة التي لا تذكر، وكان الصحابة يعرفون جيدًا ما هو الكلام الذي ينطقه الرسول وهو معصوم (الوحي) وما هو الكلام الذي ينطقه باعتباره بشرًا مجتهدًا، فكانوا يسألونه أحيانًا قبل الإدلاء بآرائهم.
"يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟.."، فإن قال: إنه الوحي، أطاعوه بدون نقاش؛ لأنه معصوم في تبليغ الوحي، أما إن قال: إنه الرأي والمشورة، فكانوا يدلون بآرائهم التي تختلف عن رأيه وكان يقبلها؛ لأنها في مقام الاجتهاد البشري وليس الوحي. ومن أمثلة ذلك أن الرسول أخذ برأي الصحابة في تحديد مكان القتال في يوم بَدْر، وأخذ برأيهم في حفر الخندق، وغيرها.
ومما يؤسف له أنه انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي اتهام الأنبياء بأخطاء لم ترد في القرآن الكريم ذاته، وهذه بلوى، فمَنْ نحن لنتقوَّل على نبي فضَّلَه اللهُ على سائر خلقه؟! ومَنْ نحن لننتقص من رُسُل الله وخاصته ونتهمهم بالزلل في مواضع لم يذكرها الله عز وجل؟!
إن توقير الأنبياء من توقير الله، ولا يجوز أن نمُرُّ على مقالات أو مقاطع فيديو من هذا النوع تنتشر بيننا ثم لا نعترض عليها. ولا يجوز أن نُمرِّرَها للآخرين؛ لأننا بذلك ننشر أخبارًا غير صحيحة عن الأنبياء وتنتقص من مقامهم الشريف.
وبعض هذه الاتهامات مصدره الإسرائيليات، والبعض الآخر مصدره الجهل، والإسرائيليات هي قصص وأخبار الأمم السابقة التي نقلت إلينا عن طريق بني إسرائيل؛ لأن لديهم في التوراة قصصًا تُشبه قصص القرآن لكنهم حرَّفُوها، وباعتبار أنهم أمة سبقت أمة الإسلام فإن بعض المُفسِّرين كانوا يستفيدون منهم في فهم هذه القصص، ومعروف أن اليهود سكنوا المدينة بجانب المسلمين؛ ولذلك كان من السهل معرفة ما يوجد في كتبهم السابقة المحرفة طبعًا، وقد أمرنا رسولنا الكريم أن نرفض وننكر ما جاء في كتبهم إن كانت مخالفة لمبادئ الدين، وألَّا نصدقهم ولا نكذبهم في الأخبار التي لا تتناقض مع ديننا. بمعنى أن نتوقَّف عن كل ما قالوه وكأنهم لم يقولوه أصلًا، ومع ذلك تسرَّبت بعض هذه الأخبار المكذوبة إلى تراثنا وانتشرت إما بسبب نوايا خبيثة لتشويه سمعة الأنبياء والمرسلين، وإما بسبب ضعف التأهيل للدُّعاة فينشرون بدون تثبُّت.
ونورد هنا بعض القصص التي انتشرت بشكل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي وفيها ما لا نرضاه عن الأنبياء والمرسلين.
• اتهام نبي الله يعقوب عليه السلام بعدم العدل بين أبنائه، وهذا لا يجوز في حق نبي كريم أحَبَّ جميع أولاده، وأخلص في نصحهم، فسبب كُرْه إخوة يوسف لأخيهم هو فساد قلوبهم هم وليس عدم عدالة أبيهم؛ ولذلك قالوا في آخر الآية حين أظهر الله الحق: {يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]، وكان نبي الله يعقوب عليه السلام يعلم مدى غيرتهم من أخيهم؛ لذلك قال لابنه حين قص عليه رؤياه: {يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5]، فإن كان يوجد بيننا نحن البشر آباء عدلوا بين أبنائهم، فإن الأنبياء أوْلَى بالعدل من باقي البشر؛ لأنهم أعلى أخلاقًا من كل البشر، وهذا هو سبب اصطفائهم من ربِّ العِزَّة.
• اتهام نبي الله يوسف عليه السلام أنه أخطأ حين قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وأنه لو سأل الله العافية لما دخل السجن، فالقدر موكل بالمنطق.. وهذا القول لا يجوز في حقِّ نبيٍّ كريمٍ ميَّزه الله بالعقل والحكمة وتعبير الرؤى، وعَلَّمه الله علم الإدارة والاقتصاد وترشيد الاستهلاك وتخزين المحاصيل وإدارة دولة، وبفضله أُنقِذت مصر من مجاعة مهلكة. فهل بقي فعلًا مجالٌ للشك أن نبي الله يوسف عليه السلام كان غير قادر على اختيار الكلمات المناسبة؟! لقد وضع نبي الله يوسف أمام خيارين فقط {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]، فهو لم يخير إلا بين السجن أو الفاحشة فقط، فاختار السجن على المعصية؛ لأنه رفض أن يبيع الآخرة بالدنيا، فهل يجوز أن نفكر مجرد تفكير أنه دخل السجن لسوء اختيار كلماته!
• اتهام أُمِّنا حواء أنها هي سبب الخطيئة الأولى في العالم، وأن الله عاقبها بالحيض بسبب أكلها من الشجرة، وهذا أيضًا قول باطل، فلم يرد في القرآن ولا في السنة شيء من ذلك إنما هو من الإسرائيليات، فسبب الخطيئة الأولى في القرآن الكريم هو الشيطان، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، أما عن عقاب الله لحواء بأن فرض عليها الحيض عقابًا لها، فهذا افتراء من الإسرائيليات التي تعكس حالة من المَقْت والاحتقار للمرأة، وهذا ليس من عند الله الخالق إنما من عند الكُتَّاب الذين يكتبون الكتاب بأيديهم بما يناسب أهواءهم ثم يَدَّعون أنها التوراة وأنها من عند الله.
• القول على نبي الله يوسف أنه تزوَّج زوجةَ العزيز بعد وفاته وهي نفس المرأة التي طلبت منه فعل الفاحشة، وهي نفسها التي رمته في السجن، وهذا أيضًا قول لا يصح فلم يرد في القرآن ولا في السُّنة؛ بل هو من الإسرائيليات التي علينا أن نتوقَّف عندها فلا نقبَّلها ولا نرفضها، فإن كنت أنت عزيزي القارئ ترفض فكرة الارتباط بامرأه خائنة لزوجها، فنبي الله أكرم وأفضل وأجل وأعلى منا جميعًا في الخلق.
• ومن الإسرائيليات التي تنتقص من شأن الأنبياء ما ورد عن نبي الله أيوب، فينتشر في وسائل التواصل أنه أصيب بالجذام في كل جسده حتى إن الدود كان يخرج منه، فابتعد الناس عنه تقزُّزًا، ويدعون أنه كان يلقى في مزبلة بني إسرائيل ولم يبق معه أحد إلا زوجته، وكانت تخدم الناس، وكان رزقها قليلًا، فباعت شعرها لتحصل على بعض النقود لتسد رمقها هي وزوجها، وتبادل مثل هذه القصص لا يجوز فلا قول عن الأنبياء المكرمين إلا ما قاله الله عنهم، وقد قال لنا رسولنا الكريم: إن نبي الله أيوب ابتُلي في جسده وأهله وماله، وصبر صبرًا عظيمًا، فشفاه الله وعوَّضَه في جسده وأهله وماله، ولا نعلم أي تفاصيل أخرى، ولا يجوز أن نقبل أي تفاصيل لم تَرِد في القرآن ولا في السنة، فنزيد في القصة، فنحن لا نعرف ما نوع مرضه، ولا نعرف أعراض مرضه، ولا نعرف ولا نقبل من يَدَّعي أن نبيًّا كريمًا ألقي في مزبلة بني إسرائيل، فأي شخص يمرض في أي مدينة يجد حوله أهله وعشيرته وجيرانه وأحبابه وأصدقاءه، فهل من المنطق أن نبي الله أيوب لم يجد أي أحد على الإطلاق، لا نعلم ولا ندعي، ولكن حين نعرف أن القصة من الإسرائيليات، وأنهم اعتادوا نشر كل ما ينقص من قدر الأنبياء، فإننا نفهم لماذا يسهبون في هذه التفاصيل التي تعكس نفسيتهم، أما نحن المسلمين فإننا نوقر أنبياءنا توقيرًا عاليًا، ونحسب فيهم كل خير.
• ومن القصص التي انتشرت أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي ذكر نبي الله سليمان بما لا يليق، فيقال: إن نبي الله سليمان أراد أن يتزوَّج ملكة سبأ، وقيل له: إن رِجْليها تشبه حافر الحمار؛ أي: أقدامه، وأن الشعر كثير في ساقيها، ولأنه أراد التأكُّد من ذلك أمر ببناء قصر يكون من زجاج وتحت الزجاج ماء وهدفه من ذلك أن تحسبه ماء فترفع ثوبها ويرى ساقيها، فلما رآهما أعجبه منظرهما، وهذه الرواية بهذه الطريقة هي من الإسرائيليات كذلك، أما التفسير الصحيح فهو أن نبي الله أجَلُّ وأعظمُ من أن يتحايل ليرى ساقيها بهذه الطريقة، وإنما بنى القصر ليريها عظمة ملكه، فالملوك لا ينقادون إلى غيرهم إلا إن كانوا أعظم وأقوى منهم؛ فلذلك أراها عظمة ملكه وسلطانه الذي بلغ درجة أعلى من ملكها وسلطانها، ونفس الطريقة اتَّبعها الرسول في فتح مكة، فحين أسلم أبو سفيان وهو زعيم قريش وكبيرها كان مُتردِّدًا في إسلامه، وخشي الرسول أن يقوم بتحريض قريش على قتال المسلمين، فطلب من أصحابه أن يجلسوا أبا سفيان في مضيق الجبل حيث يمُرُّ أمامه الجيش الإسلامي بكل عظمته وقوته وعدده وهم في أعلى درجات الاستعداد والقوة، وبالفعل هذا المشهد جعل أبا سفيان يسلم دون تردُّدٍ وأسرع إلى مكة يقنعهم بقوة المسلمين ويقنعهم بألَّا يقاتلوا. ونفس الإستراتيجية اتَّبَعها نبيُّ الله سليمان مع ملكة سبأ وبنى القصر لهذا الهدف، وبالفعل أثمرت طريقته وآمنت ملكة سبأ مع قومها.
وخلاصة القول، إن الأنبياء عليهم السلام هم أشرف الخلق وأزكاهم وأتقاهم وأفضلهم وواجب الناس هو الاقتداء بهم، لكن حين تعمل وسائل التواصُل الاجتماعي بقصد أو بدون قصد على الانتقاص والحط من شأن القدوات الحقيقية يبحث الناس عن القدوات الأخرى الخاطئة أو التافهة كالفنانين واللاعبين أو الأغنياء؛ لأنهم لم يجدوا نموذجًا مبهرًا يُقلِّدونه، وهذه مسؤولية الدول والإعلام أولًا، ومسؤولية الدعاة ثانيًا، ومسؤولية كل فرد فينا ثالثًا، فمسؤوليتنا جميعًا أن نراجع ما ينشر عن الأنبياء، فإن كان حسنًا نشرناه، وإن كان خطأً أوقفنا نشره ونبَّهْنا من حولنا، فالواجب أن يُحفَظ للأنبياء مقامهم العالي، وأن ينزهوا عن مَدِّ الألسُن إليهم بالنقد والاتهام.
[1] "مجموع الفتاوى" (4/ 319).
____________________________________________
الكاتب: لميس صالح الحبشي
- التصنيف: