{إن كيد الشيطان كان ضعيفًا}
إن موضوع المقال مهم جدًّا؛ فهو يتعلق بمواجهة عدوٍّ خبيث، عداوته متأصلة؛ بل قطع على نفسه العهد لإغواء الإنسان، وإرادة المهالك أسوة بحاله الشقية حين لم يستجب لطاعة ربه وخالقه سبحانه؛ فاستحق اللعنة والخلود في جهنم وبئس المصير.
الجزء الأول: 1-3
ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]
إن موضوع المقال مهم جدًّا؛ فهو يتعلق بمواجهة عدوٍّ خبيث، عداوته متأصلة؛ بل قطع على نفسه العهد لإغواء الإنسان، وإرادة المهالك أسوة بحاله الشقية حين لم يستجب لطاعة ربه وخالقه سبحانه؛ فاستحق اللعنة والخلود في جهنم وبئس المصير.
وقد بيَّن كتاب الله العزيز بيانًا وافيًا لمنشأ وأحداث عداوة الشيطان، والوسائل المناسبة للتصدي له، ولأهمية توضيح ذلك للقارئ الكريم، سأكتفي بالإشارة إلى أسماء بعض سور القرآن الكريم وأرقام الآيات التي تناولت هذا الموضوع، وتلخيص أبرز ما ورد فيها.
أولًا: بعض سور القرآن الكريم وأرقام الآيات التي أوضحت منشأ وأحداث عداوة الشيطان:
1- سورة البقرة: (من الآية 34 إلى الآية 38).
2- سورة النساء: (من الآية 116 إلى الآية 121).
3- سورة الأعراف: (من الآية 11 إلى الآية 18).
4- سورة الحجر: (من الآية 28 إلى الآية 43).
5- سورة الإسراء: (من الآية 61 إلى الآية 65).
6- سورة طه: (من الآية 116 إلى الآية 127).
7- سورة ص: (من الآية 71 إلى الآية 85).
ثانيًا: ملخص أبرز ما ورد في الآيات السابقة:
هناك تشابه لمنشأ وأحداث عداوة الشيطان في مضامين الآيات المشار إليها، وهو من سمات القصص القرآني، ولكن بأساليب مختلفة وسياقات متنوعة، ولا شك أن لذلك حكمًا وفوائد عظيمة أشار إليها العلماء المختصون في مؤلفات خاصة، وإليكم أبرز ملخص مما أشارت إليه الآيات:
1. أمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم عليه السلام، فسجد الملائكة وامتنع إبليس عن السجود.
2. سبب امتناع إبليس عن السجود هو الكبر بأنه خير من آدم لأنه خُلِق من نار وآدم من طين.
3. من الأسباب الرئيسة لتسلُّط الشيطان على الإنسان الانحراف عن منهج الله تعالى، وإهمال شرعه رغم تحذير الله تعالى عن مآلات الانحراف وخطورته.
4. حَرم الله تعالى إبليسَ من البقاء في الجنة ونعيمها؛ لعصيانه وتمرُّده.
5. أعظم إغواء يحرص عليه الشيطان الشركُ بالله، فليس بعد الكفر ذنب.
6. من استجاب لأماني الشيطان ووالاه وتابع خطواته المؤدية للشرك، فقد خسر خسرانًا مبينًا.
7. الموفق من عرَف الحق، وعلم عداوة الشيطان وأمانيه ووعوده الكاذبة قبل فوات الأوان.
8. كتب الله على إبليس الذل والصغار في الدنيا والآخرة.
9. تمادى إبليس في طغيانه ووعد أن يتربص بذرية آدم وإغوائهم في كل اتجاه حتى يبعدهم عن طاعة ربهم فيكونون على شاكلته وحاله الشقية.
10. استحقاق إبليس العقاب الصارم من الله تعالى باللعن والطرد من رحمته في الدنيا والآخرة.
11. حفظ الله عباده المخلصين من الإغواء لرعايته لهم وبطاعتهم له بامتثال أمره واجتناب نهيه.
12. من اتبع الشيطان من عباد الله واستجاب له في الإغواء فمصيرهم جهنم أجمعين.
13. التأكيد على عداوة الشيطان للإنسان.
14. استخدام أسلوب الوسوسة في تزيين المعاصي وإظهارها على غير حقيقتها.
15. الحرص والإسراع بالتوبة والاستغفار لمن وقع في المعاصي قبل فوات الأوان.
16. العناية التامة بالتمسُّك بالقرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة وعدم الإعراض عنهما.
17. كل من أسرف وتمادى في عصيانه ولم يتُبْ فيوم القيامة ينتظره عذابٌ أشدُّ وأبقى.
قد يسألُ سائلٌ: ما العلاقة بين الشيطان المذكور في الآية موضوع المقال، وبين إبليس في الآيات السابقة من سور: البقرة والنساء والأعراف والحجر والإسراء وطه وص؟ وبمعنى آخر: هل الشيطان هو نفسه إبليس؟ الجواب:
قال ابن عثيمين رحمه الله: الشيطان هو إبليس، والشياطين يكونون من الجن والإنس؛ كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]؛ بل يكون الشيطان من غير العقلاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكلب الأسود شيطان»؛ (صحيح مسلم: حديث رقم: 510).
مهم جدًّا التنويه قبل عرض تفسير الآية موضوع المقال، أنه يجب أن يستقر في عقل المسلم ووجدانه أن الشيطان أداة من أدوات الابتلاء في الدنيا، فلا يخفى أن غاية وجود الإنسان في الدنيا هي عبادة الله تعالى مع وجود الابتلاء؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، والإنسان متعبد بالابتلاء في خيره وشره، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، قال البغوي رحمه الله: نختبركم بالشر والخير، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، وقيل: بما تحبون وما تكرهون، {فِتْنَةً} ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2999).
ومن عظيم الابتلاء وشدته أن الشيطان مع الإنسان في كل أحواله؛ بل ويجري منه مجرى الدم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّم»؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2174)، قال العيني رحمه الله: قيل: هو على ظاهره، وأن الله عز وجل جعل له قوة على ذلك، وقيل: هو على الاستعارة؛ لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دَمُه، وقيل: إنه يُلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب؛ (العيني، بدر الدين، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، 11/ 152).
لذلك يجب على المسلم أن يكون حذرًا ويقظًا ومحاسبًا لنفسه ومجاهدًا لها أشد الاجتهاد بالبُعْد عن الشهوات والشبهات متبعًا ما أمره الله به مجتنبًا ما نهى عنه، حتى يكون في منأى عن تسلُّط الشيطان وإغوائه، ويصدق عليه قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]، قال سفيان الثوري رحمه الله: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر؛ ( البغوي، تفسير سورة النحل).
أبدأ مستعينًا بالله في تفسير الآية موضوع المقال، سائلًا الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يلهمنا الصواب ويهدينا ويسددنا.
قال الطبري رحمه الله: قال الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به؛ يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.
وقال السعدي رحمه الله: والكيد سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.
وجميل قول القاضي عبدالجبار الهمداني رحمه الله: إن المراد بأن كيد الشيطان ضعيف، أنه لا يقدر على أن يضر، وإنما يوسوس ويدعو فقط، فإن اتبع لحقته المضرة، وإلا فحاله على ما كان، فهو بمنزلة فقير يوسوس إلى الغني في دفع ماله إليه، وهو يقدر على الامتناع، فإن وافقه فليس ذلك لقوة كيد الفقير، لكن لضعف رأيه واتباعه؛ (المنية والأمل، 1/ 130)، (انظر: سير أعلام النبلاء للإمام للذهبي، ترجمة القاضي عبدالجبار، 17/ 245).
- التصنيف: