مآخذ شرعية على المقالب

منذ 2024-02-01

انتشرت كثيراً في هذا العصر عمل المقالب أو ما يسمى بــــــالـــ (Pranks). وذلك في وسائل الإعلام والتواصل وعلى أرض الواقع.

انتشرت كثيراً في هذا العصر عمل المقالب أو ما يسمى بــــــالـــ (Pranks). وذلك في وسائل الإعلام والتواصل وعلى أرض الواقع. وهي عمل خدعة أو نكتة عملية على شخص ما عادة بغرض الفكاهة والتسلية وإثارة الضحك. وغالبا ما تحدث تحت الكاميرات لرفعها على مواقع التواصل بغرض جلب المال. ومن يقرأ هذا يبدو له من اول وهلة أن الأمر ليس فيه حرج وهو مجرد تسلية. وهذا ربما يصح إن كانت من نوع المزح البسيط الذي لا يجلب الضرر. ولكن إذا تأملنا فيما يحدث في كثير من هذه المقالب نجد أن من يقع عليه المقلب كثيرا ما يصاب بضرر. قد يكون مادي أو معنوي أو كليهما. وفي كثير من الأحيان يكون المصاب غير راضي بما حصل له. وأقل ما يُؤخذ فيه أن تُعرَض صوره على الملأ دون رضاه أو أذنه. هذا غير الأضرار الأخرى والأذى الذي يلحقه. ولذا نسلط الضوء على هذا الموضوع هنا لبحث جوانبه المختلفة وننظر إليه من منظور مقاصد القرآن الكريم. وذلك لإنتشاره بصورة كبيرة في مواقع التواصل وعلى أرض الواقع، ولتضرر الكثيرين منه.

المقالب والمزاح

معنى مقلب:

          مقلب من "مصدر (قَ لَ بَ)، ويعنى في اللغة أي مكيدة وحيلة"[1]. ويُقال عمل مقلب أي دبر خدعة عادة لغرض الفكاهة والضحك.

معنى مزاح

مزاح في اللغة من مصدر "مَازَحَ. والْمِزَاح - بكسر الميم - أي الْهَزْل، والْمُدَاعَبَة"[2]. والمزاح غير المقلب. فالمزاح أمره هين وسهل وغالبا لا يضر. بل يجلب الأنس والتلطف بين الأصدقاء. فربما بدعابة أو كلمات لطيفة أو نكتة بريئة يمكن الترويح بين الناس والتخفيف عنهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أهله ويباسطهم. وكان كثير التبسم، بل وكان يمازح حتى الصغار. وعن عبد الله بن الحارث – رضي الله عنه – قال: (ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم)[3].

حكم المزاح وشروطه

والمزاح مباح إن وافق الشروط الشرعية. فقد أفتت دار الإفتاء المصرية بأن "الأصل في المزاح الإباحة، وقد يستحب إذا كان بقصد التلطف وإدخال السرور على الآخرين، وتطييب نفوسهم ومؤانستهم، وما أشبه ذلك، ولا يكون جائزًا إذا اشتمل على نحو كذبٍ، أو ترويع أحد، أو كلامٍ فاحشٍ بذيءٍ، أو أيِّ قولٍ أو فعلٍ محرم؛ كالغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية، أو كان عادةً مفرطة، أو إذا أضر بالآخرين"[4]. وقد وضع العلماء شروط للمزاح، وهي: "ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين، ولا يكون المزاح إلا صدقاً، وعدم الترويع، وعدم الاستهزاء والغمز واللمز، وألا يكون المزاح كثيراً، ومعرفة مقدار الناس، وأن يكون المزاح بمقدار الملح للطعام، وألا يكون فيه غيبة، وإختيار الأوقات المناسبة للمزاح"[5]. وهذه الشروط ذُكرَت عن المزاح والذي يكون برئ وسهل عادة. فكيف الحال بالمقلب الذي يكون فيه خداع ومباغتة وضرر وقد ينتج عنه ما لا يحمد عقباه؟!

الفرق بين المقالب والمزاح

والمقالب تختلف عن المزاح ... فهي عادة بها وضع المفعول به في وضع لم يتوقعه ... وكأن بها شيء من الخداع والمكر، حتى وإن كانت بقصد الفكاهة. فهذا لا يبرئها من وقوع الأضرار. بينما المزاح لا يكون فيه مفاجأة أو خدعة، ولا يضر في معظم الأحوال، ولا يكون تحت الكاميرات عادة ... بل يصدر عفوياً ويجلب المرح والتلطف بين الناس. ولذا بين ابن حجر وغيره أنه يكون مستحب إن كان من باب تطييب النفوس وبالطبع ألتزمت فيه الشروط.

أضرار المقالب

تتسبب المقالب في أضرار كثيرة للناس، إعتمادا على شدتها وما نتج عن وقوعها. وقد تضرر منها الكثير من الناس، ورغم ذلك لا يزال البعض يقوم بها. ولا قانون يوقفهم أو وازع يردعهم. وقد نتج منها حوادث ومشاكل كثيرة. فكان لابد من بحث أمرها وتفقد ما يجرى فيها ومنها، وقياسه بما جاء في الشرع. وذلك منعا للضرر وما يؤذي الناس. وليس كل المقالب ينتج عنها ضرر وينطبق عليها هذا الوصف، ولكن الكثير منها. وعادة المقالب التي تخيف الإنسان أو توهمه بأشياء تمس الشرف أو المال تكون أكثر ضرراً وتؤدي إلى كوارث ونهايات سيئة. وسنحاول هنا بحث بعض أضرارها إستناداً لما تم رصده بالكاميرات.

إصابات جسدية وحسية:

كثيرا ما يصاب من وقع عليه المقلب بأضرار حسية. فربما يجري مخلوعاً ويصاب بخبط شيء أمامه أثناء فراره وخوفه. ولأن في معظم الأحيان لا أحد يعلم كيف تجري عليه الأمور في هذه المقالب، فلا يؤمن وقوع مثل هذه الحوادث حتى وإن كانت من باب الهزل واللعب. فربما يتفاجأ الإنسان من أبسط الأمور ويحدث ما لا تحمد عقباه. فربما وقع وأصيب في بدنه وكسر عضو مثل ساقه أو يده. وربما أصاب عينيه أو إحداها فينتهى به الأمر إلى العمى أو نقصان النظر. وربما أصيب بجرح ونزف وفقد كمية كبيرة من الدم أودت بحياته أو أصابته بالأنيميا التي يصعب علاجها أحياناً. وربما يخدش وجهه فينتج عنه تشويه ملامحه. أو كسر أنفه أو فكه الذين يصعب علاجهما. أو ترك كدمات وآثار دائمة على جسده. وربما وقع وكسر فقرة في ظهره أودت به إلى الشلل، وغيرها الكثير من الإحتمالات، والتي تم استيحاءها من حوادث حدثت وشوهدت بالفعل في مقاطع مختلفة.

أضرار عقلية وصحية:

كثير من المقالب تؤدي إلى الخوف الشديد لمن وقع به المقلب. وذلك الخوف خطر في حد ذاته، حيث يمكن أن ينتج عنه أمور صحية خطيرة. وربما يصاب الشخص بالجنون أو بمرض نفسي يصعب علاجه. ومنها حدوث جلطة القلب أو توقفه بالسكتة القلبية، أو حدوث جلطة أو سكتة دماغية، ينتج عنها غيبوبة أو شلل أو حتى الموت. وقد قال د. خالد النمر لبرنامج اليوم في قناة الإخبارية: "أن عمل المقالب قد يؤدي إلى إصابة الشخص بجلطة في القلب ... والدخول في حالة إغماء، ويتعرض المريض لمضاعفات شديدة"[6]. والخوف يسبب "تلف القلب والأوعية الدموية، وضعف في مناعة الجسم، ومشاكل في الجهاز الهضمي مثل القرحة ومتلازمة القولون العصبي، وانخفاض الخصوبة، وضعف في الذاكرة نتيجة حدوث ضرر في أجزاء من الدماغ، وجفاف في الفم نتيجة عدم إفراز الدموع واللعاب في حالة الخوف، وزيادة التعرق والشعور بالارتجاف"[7]. وكل هذه مضار صحية، وبعضها خطير يمكن أن تؤثر على حياة الإنسان ومستقبله. ربما تكون في القلب أو العقل أو الجهاز الهضمي أو المناعة وغيرها.

أضرار أسرية وإجتماعية:

          إن المقالب قد تصيب الإنسان بالضرر المعنوي، خاصة وإن كانت من النوع الذي يحتوي على كذب ومكر. وربما دمرت حياته الزوجية أو العائلية بسبب توهُّمَّات غير صحيحة. فمنها من لعب من الزوجات على الأزواج أو العكس بتمثيل أوضاع الخيانة وغيرها. فنتج عنها هدم بيوت وطلاقات ومشاكل كبيرة. وربما يقع الطلاق في ثوان قبل أن يعرف الطرف الأخر أن ما يحدث هو مجرد هزل ومقلب. فتدمر حياة أسرة كاملة بسبب ذلك المقلب. وربما يتسبب المقلب في خسارة الأصدقاء والخلان وغيرهم. وكثير منها تعرض الناس لمواقف سخيفة وغير مقبولة. فتنشأ منها المشاكل التي ربما تصل لحد الشجار الحاد والقطيعة أو حتى الأذى الجسدي. ومن المقالب السخيفة التي عُرِضت مقلب قام به مشهوران في مواقع التواصل. لعب أحدهما دور فتاة لعوب شاركت التاكسي مع شخص بسيط، وبدأت بأسئلته عن حساباته بطريقة مائعة. فأجابها على اسئلتها بطريقة عفوية ... ربما للتحرج أو الخجل من ألا يجيب عليها. وبعد نشر المقلب طالبت زوجته بالطلاق لتلك المحادثة. فخسر المسكين أسرته لأجل مقلب سخيف لم يختاره ولم يتحضر له. فأي ظلم أكثر من هذا يقع من صاحب المقلب على هذا المسكين لأجل أن يضحك متابعيه. فهو دمر حياة إنسان بسيط يكافح ليعيل أسرته وتقوم زوجته برعاية أبنائهم. أسرة كانت في هدوء وصبر على الحلو والمر رغم الفقر وصعوبة الحياة. ويأتي هذا اللاعب بمقلبه فيدمر حياتهم دون أسف ولا حساب ولا عقاب أو تعويض. ومقلب آخر عُرض: وهو أن يأتي شخص ويسأل فتاة: "هل تتزوجيني مقابل عمل ما". فهل هناك أسخف من هذا الهزل الذي يسبب الإحراجات والغضب والتلاعب السخيف. وهذا من أسوأ أنواع الهزار الذي لا مسوغ له.

أضرار جنائية:

وأحياناً تنتهي المقالب بجرائم وأضرار قضائية على من وقع عليهم المقالب. وذلك لأنها تسبب الفزع والمفاجأة، فتحدث أمور من غير قصد. ومثالها أن يتسبب المقلب بإخافة شخص فيندفع ويعرِّض إنسان آخر للأذى دون قصد أثناء هروبه. فيكون فاعل المقلب قد أوقع ذلك الشخص في مشكلة ربما تعرضه لمساءلة قانونية. ومن المقالب التي عرضت أن شخص أخاف آخر بطلب ماله فقام الآخر بقتله دون وعي. ومنها أن شخص كان في منتزه وحيداً في المساء المتأخر وظهر عليه مهرج ... فخاف الأول وجرى وتسلق السور المكهرب ومات. ومنها أن شخص يمثل أن هناك باب زجاجي يمنعه من الخروج من المصعد، فيندهش من معه ويخرج بعنف وسرعة لإستكشاف الأمر الغريب ويقع ويضرب وجهه. وغيرها الكثير من الأمثلة التي لا تحصى.

أضرار مادية:

المقالب قد تتسبب في أضرار مادية قد تفقد الناس شيء من أموالهم ولو بسيط. ويحدث هذا في قليل من المقالب. ومن أمثلتها من خاف فقام بكسر شيء قيِّم، مثل باب زجاجي أو قطعة أثاث أو أنتيك قيمة ونحوه. أو اندفع وصدم سيارته. وهذا غير ما يتكلَّفَّه من يعمل المقلب للتحضير له وتهيئة ما يحتاجه من جو وعلامات توهم الناس بشيء معين. ومنها أحياناً خسائر في المال العام ككسر عمود أو مقعد أو لمبات إنارة في الشارع العام أثناء المقلب ونحوها.

أضرار روحانية:

وربما يصاب المخلوع أو من وقع عليه المقلب بالمس. فقد ذكر أحد الراقين "أن الجن يدخل الإنسان عندما يخاف ويتفاجأ، وتخويف الإنسان وخلعه قد يؤدي إلى المس بالجن"[8].

إرتكاب ذنوب مقصودة

المقالب تكون مدبرة من قبل صاحب المقلب، والذي غالبا ما يكون عمل شيء من المعاصي سواء من الصغائر أو الكبائر حتى يرتب لهذا المقلب. وذلك لأنها تقوم على جعل المرء يتفاجأ بشيء لم يتوقع حدوثه. وللتحضير لهذا تجد مرتب المقلب يستعمل الحيل والخداع والمكر ليصل لمبتغاه. وفي كل ذلك محاذير شرعية ربما تكون عمل مكروه أو محرم أو حتى من كبائر الذنوب. فتجد فاعلها لا يهمه ما يعمل منها، ولا الناحية الشرعية فيه. بل يهمه فقط نجاح المقلب بغض النظر عن أي شيء آخر. فيقدمه دون أي تفكير. ومن ذلك:

التحقير والإستهزاء والسخرية:

بعض المقالب التي نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي بها نوع من التحقير والبهدلة وإراقة ماء الوجه والفضيحة لمن يقع عليه المقلب. وتحقير المسلم والسخرية منه والإستهزاء به حرام شرعاً. قال تعالى: { (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)} [9]. وقال صلى الله عليه وسلم: «(حسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم)» [10]. وكم من ناس خسروا أصدقاء وأحباء من مقالب سخيفة. وبعضها تسبب في عقوق الوالدين وإيذاءهم النفسي. وغيرها جر إلى مشكلات كبيرة بين الأصحاب. وكثير منها يتسبب في الحرج وإراقة ماء الوجه لمن وقع عليهم المقلب. وذلك يجلب الغضب والشجار. وحتى قد يصل الأمر إلى السباب والضرب والقطيعة.

الإصابة بالترويع والخوف:

كثير من المقالب ينتج عنها إخافة الناس وترويعهم. ومن هنا تأتي معظم خطورتها. فالخوف طبيا خطر على صحة الإنسان وتنتج منه أثار سلبية عدة. وترويع المسلم حرام ويسبب المشاكل الصحية والإجتماعية وغيرها كما سنرى. ولقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عنه في قوله: ( «لا يحلُّ لمسلمٍ أن يُروِّعَ مسلمًا» )[11]. فكان حري بمن يصنع تلك المقالب أن ينتهي عنها حتى لا يدخل في هذا الذنب ويروع الناس ويخيفهم.

الكذب والخداع والمكر:

          كثيرا ممن يقوم بهذه المقالب يلجأ للكذب والخداع والمكر ليصل لمبتغاه. والكذب حرام في الإسلام. وهو من صفات المنافقين، لاسيما إن أصبح صفة دائمة ومستقرة في الإنسان. وقد مدح الله تعالى الصادقين في قوله تعالى: {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)} [12]. وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب لإضحاك الناس، فقال: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له)[13]. وقال: «(إيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا)» [14]. فلأجل مقلب يتجاهل المرء هذا الأمر ويكذب ويخدع ويمكر حتى يحكم مقلبه ويضحك الناس أو يحصل على مال قليل. فهذا كمن يبيع تعاليم دينه بثمن قليل لا قيمة له.

الغيبة والنميمة وإفساد ذات البين:

          تتسبب بعض المقالب في النميمة والغيبة وإفساد ذات البين. وكلها مذموم ومحرم في الإسلام. فقد قال الله تعالى: {(وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)} [15]. وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن التباغض وإفساد ذات البين، فقال: «(لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)» [16]. وقال: « (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة)» [17]. فلا يجوز نشر الخلاف والنميمة والغيبة وإفساد ذات البين. وكثير من هذه المقالب تكون مصدر للمشاكل والمشاحنات بين الناس.

تضييع الأوقات فيما لا ينفع والتلهي عن ذكر الله:

          ومن مضار المقالب أنها تضيع الأوقات وتهدرها فيما لا ينفع ولا فائدة منه. وذلك لأن تحضير المقلب يأخذ عادة وقت طويل. وكذلك تنفيذه وتصويره ورفعه. بالإضافة الى المخالفات التي تصاحبه في التصوير وغيره. وتضييع الوقت لا يحمد في الإسلام. قال تعالى: {(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)} [18]. وقال صلى الله عليه وسلم: «(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)» [19]. وكثرتها تشغل عن ذكر الله. فالتحضير لمقلب واحد قد يأخذ من وقت الفاعل الكثير. والأولى تركها وعدم تضييع الوقت فيما لا ينفع. ووقت المسلم غال وينبغي أن يستغله فيما ينفعه في آخرته ودنياه.

قسوة القلب والغفلة والذهاب بنور الوجه:

          كثرة عمل هذه المقالب قد يؤدي إلى قسوة القلب والغفلة. وذلك لأنها تجلب الضحك الكثير. والذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: «(إياك وكثرة الضح، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)» [20]. فهو يشغل من ذكر الله ويجعل المرء يعيش في عالم خيالي مملوء بالفكاهة، ويجعله ينسى الآخرة والموت والجنة والنار.

إرتكاب ذنوب وكبائر غير مقصودة

المقالب كثيرا ما تؤدي إلى عمل ذنوب وكبائر دون قصد ممن وقع عليهم المقصد. وهذا النوع قد يكون أخطر وأشد. لأن الفاعل لا يكون واعي بما يجرى له من شدة الخوف أو الغضب أو المفاجأة أو غيرها. ولذا ربما ينتج عنها جرائم وذنوب من الكبائر. ومثال لذلك: أن شخص تم ترويعه فجرى خائفاً في الشارع وصدمته عربة ومات. فهذا مقلب أودى بحياة إنسان وأُزهقت روحه لأجل مزاح لا سائغ له. ومثال آخر من أخافه شخصين فقام بالخوف بقتل أحدهما. فما موقف الشرع من هذا؟! فحال الفاعل ربما يوازي أو يكون أشد من حال قاتل القتل الخطأ. وفي كل هذا خلط للأمور نتيجة هذه المقالب الساذجة والتي حتى لا تضحك أحد. بل تثير الخوف والألم والضيق، وتجلب من المشاكل للإنسان ما يكون هو في غنى عنها. فهنا جريمة أخرى وقعت نتيجة مقلب، وهي قيام شخص بقتل آخر دون قصد. فمن وقع عليه هذا المقلب لم يختر أن يصير ما صار بإرادته ... بل حدث نتيجة إخافته وفزعه في وضع لم يرده أو يرتِّب له أو يتحضَّر لحصوله. فيكون ما وقع عليه من ظلم من فاعل المقلب وضرر أكثر مما يمكن تصوره. ولابد للقاضي في هذه الحال النظر في كل ذلك. وألا يترك من فعل المقلب دون حساب ... بينما يقع اللوم والعقاب على المسكين الذي وقع عليه المقلب ولم يقصد أو يخطط لأن يؤذي أي أحد.

المقالب من منظور مقاصد القرآن الكريم

          مما سبق بحثه، نجد أن هناك مآخذ شرعية عدة تُؤخذ على المقالب، لاسيما الكبيرة منها. وتكون مساوئها بقدر شدتها وما نتج عنها. وبتجميع جوانبها والنظر إليها من منظور مقاصد القرآن الكريم عند ابن عاشور وغيره، نجد الأتي:

  • المقالب كثيراً ما تتسبب في تخويف الناس وترويعهم. وترويع المسلم حرام. كما أنه عمل سخيف ويجلب الشجار والمشاكل. فمن يعمل المقلب يريد أن يضحك أو يضحك الناس على حساب الإضرار بشخص آخر. لذا كثيرا ما يكون فيها نوع من الظلم والتعدي على حقوق الغير، وحرماتهم. ولقد أفتت الشبكة الإسلامية لسائل بأن هناك "كثير من الأدلة الشرعية على حرمة ترويع المسلم بأخذ ماله، وإخفائه على وجه المزاح"[21]. وقد أكدت دار الإفتاء "أن الشّريعة الإسلامية نهت عن ترويع الناس، حتى ولو كان على سبيل المزاح"[22]. ولذا فإن ترويع الناس وإخافتهم لا يتماشى مع مقصد تهذيب الأخلاق ومقصد التشريع.
  • المقالب فيها هتك لخصوصيات الناس وتصويرهم ونشر مقاطعهم دون إذن أو مراعاة لخصوصيتهم. وربما يظهرون في أوضاع محرجة أو بملابس غير لائقة أو عدم تستر كافي. في كل ذلك أذى معنوي لهم. وهتك لخصوصياتهم وفضحهم. وهذا لا يتماشى مع مقصد تهذيب الأخلاق ومقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية.
  • المقالب قد تسبب الأضرار للناس، والتي ربما تكون أضرار صحية أو إجتماعية أو جنائية أو دينية أو معنوية وغيرها. وهذا كله لا يجوز، لأن ضرر المسلم حرام. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «(كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه،)» [23]. وقوله: «(لا ضررَ ولا ضِرارَ)» [24]. وقال العلماء أن هذا الحديث يمثل قاعدة في التعامل مع الناس، وهي قاعدة من القواعد الفقهية والأصولية تكمن في منع الضرر عن النفس والغير.
  • والمقالب التي تتسبب بأضرار على الناس قد تتعارض مع المقاصد العامة للشريعة وهي حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولذا كان الأولى تركها لما تجلبه من أضرار. وإن كان لابد فالمزاح البسيط غير المتكرر لا بأس به. ولكن فعل مقلب كبير يمكن أن يجر إلى هذه المخاطر الكبيرة فأولى تركه. وذلك لإحتمال ما يجره من مشاكل وأضرار للمفعول به، وربما للفاعل أيضاً أو لغيره. حيث أصيب بعض فاعلي المقالب بالضرب من المفعول بهم. فهي ضرر على الفاعل والمفعول به وربما غيرهم.

 

الخاتمة

ختاماً أرجو أن أكون قد سلطت الضوء على مشكلة يعاني منها الكثيرين. والخلاصة أن المزاح البريء الذي لا يضر ولا يدوم ويشغل الناس لا بأس به إن التزم الشروط الشرعية. وأما المقالب فلابد فيها من الحذر والتوقف عما يضر الناس منها. فالمقلب إن كان من المزاح الخفيف البريء الذي لا يضر ولا يروع الناس ولا يضيع الوقت لا بأس به إن لم يتسبب في ضرر أي إنسان سواء من وقع عليه المقلب أو الفاعل أو غيرهما. وإن تسبب في أي ضرر أو أذى حسي أو معنوي أو كان هناك احتمال وقوعه فيجب تركه وتجنبه. وذلك لحرمة أذى الناس ولأن للمسلم حرمة. والأفضل والأولى البعد عن غش الناس وأذاهم. والمستحسن أن تُوضع حدود وقوانين من قبل الدولة لضبط المقالب المسموح بها في المجتمع، وتدخل السلطات في هذا لحماية الناس من شرور المقالب. هذا فإن أصبت فبتوفيق الله وفضله، وإن أخطأت فمن عندي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. واستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المراجع والمصادر

  • القرآن الكريم.
  • صحيح البخاري، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، المحقق: د. مصطفى ديب البغا، الناشر: (دار ابن كثير، دار اليمامة) – دمشق، الطبعة: الخامسة، ١٤١٤هـ - ١٩٩٣م.
  • صحيح مسلم، أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (٢٠٦ - ٢٦١ هـ)، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، (ثم صورته دار إحياء التراث العربي ببيروت، وغيرها)، حققه محمد فؤاد عبد الباقي، ١٣٧٤هـ - ١٩٥٥م.
  • حكم المزاح وضوابطه في الإسلام، فتاوى دار الإفتاء، د. شوقي إبراهيم علام، 16 يناير 2023، فنوى رقم: 7385.
  • شروط المزاح الشرعي، محمد صالح المنجد، الإسلام سؤال وجواب، سؤال رقم 22170.
  • موقع الشبكة الإسلامية، حكم المزاح الذي يسمى (المقالب) بين الأصحاب، فتوى رقم 286954.
  • موقع توازن، تأثير الخوف على الجسم.
  • د. خالد النمر، برنامج اليوم، قناة الإخبارية، 29 أغسطس 2022م.
  • المرقي والقارئ: شيخ طارق لبيب، الخوف يمكن ان يسبب المس بالجن، حوار عن المس والعين والسحر.
  • معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي، معنى مقلب ومزاح.

 

 

 

[1] تعريف ومعنى مقلب في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.

[2] تعريف ومعنى مزاح في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.

[3] أخرجه الألباني في صحيح الترمذي (3611)، وقال صحيح. وأخرجه الترمذي (3641)، وأحمد (17704).

[4] حكم المزاح وضوابطه في الإسلام، فتاوى دار الإفتاء، د. شوقي إبراهيم علام، 16 يناير 2023، فنوى رقم: 7385.

[5] شروط المزاح الشرعي، محمد صالح المنجد، الإسلام سؤال وجواب، ملخص من سؤال رقم 22170.

[6] خطر الخوف، د. خالد النمر، برنامج اليوم، قناة الإخبارية، 29 أغسطس 2022م.

[7] موقع توازن، تأثير الخوف على الجسم.

[8] المرقي والقارئ: شيخ طارق لبيب، حوار عن المس والعين والسحر.

[9] الحجرات 11.

[10] أخرجه الألباني في صحيح أبي داوود (4882)، وحكم عليه بالصحة. وأخرجه أبو داود (4882) واللفظ له، وابن ماجه (4213) مختصرا، وأحمد (7727) في أثناء حديث.

[11] أخرجه الألباني في صحيح الترغيب (2805)، وحكم عليه بأنه صحيح.

[13] أخرجه الألباني في صحيح الجامع (7136)، وقال حسن.

[14] أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607).

[15] الأنفال 1.

[16] أخرجه البخاري (6065)، ومسلم (2559)

[17] أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) واللفظ له، وأحمد (4/ 444).

[18] العصر 1-3.

[19] أخرجه البخاري (6412).

[20] أخرجه الألباني في صحيح الترغيب (2868)، وقال صحيح لغيره.

[21] موقع الشبكة الإسلامية، حكم المزاح الذي يسمى (المقالب) بين الأصحاب، فتوى رقم 286954.

[22] دار الإفتاء، فتوى رقم 109891.

[23] أخرجه الألباني في صحيح أبي داوود (4882)، وحكم عليه بالصحة. وأخرجه أبو داود (4882) واللفظ له، وابن ماجه (4213) مختصرا، وأحمد (7727) في أثناء حديث.

[24] أخرجه ابن ماجه (٢٣٤١)، وأحمد (٢٨٦٥) مطولاً.

منال محمد أبو العزائم

أستاذ مساعد بقسم القرآن الكريم وعلومه بالجامعة الاسلامية بمينيسوتا.

  • 2
  • 1
  • 391

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً