قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ

منذ 2024-02-16

كان عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السَّحَر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}

قال ابن جرير: قال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لما أنزلت: {{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ.. }} قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت: {{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ..}}

{{قُلْ}} تشير إلى الاهتمام به والعناية به؛ لأن الله أمر نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرا خاصا أن يبلغه للناس.

{{أَؤُنَبِّئُكُمْ}} أخبركم؛ والإنباء هو الخبر عن أمر هام، ولا يكون النبأ غالبا إلا في الأمور الهامة، كما في قوله تعالى: {{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}} [النبأ:1-2] والاستفهام هنا للتشويق إلى ما هو خير من متع الحياة السبعة سالفة الذكر، وهذا كقوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}} [الصف:١٠]

{{بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}} ولما قال: {{ذلك متاع}} ، فأفرد، جاء: {{بخير من ذلكم}} ، فأفرد اسم الإشارة.

وأشار إليه بلفظ المفرد المذكر لأجل طي ذكره بشيء واحد؛ حتى لا يشار إلى التفصيل فيه؛ لأن الدنيا كلها في الواقع ينبغي أن يزهد فيها الإنسان ولا يحتسبها شيئًا، ألم تر إلى قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)» [متفق عليه]، ولم يذكرها تحقيرا لها.

{{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} } اتقوا الله -عز وجل-، كما قال تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} } [البقرة:٢٧٨].

وأحيانًا نؤمر بتقوى النار: كقوله: {{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} } [آل عمران:١٣١].

وأحيانًا نؤمر باتقاء اليوم الآخر؛ كما في قوله: {{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}} [البقرة: ٢٨١].

ولكن المعاني وإن اتفقت في أصل الوقاية لكنها تختلف؛ لأن تقوى الله عز وجل تستلزم الخوف منه وتعظيمه، أما النار فإن تقواها تستلزم الخوف منها فقط لكنها ليست تقوى عبادة وإنابة وتعلق بها، بل تقوى فرارا منها. وكذلك تقوى اليوم الذي نرجع فيه إلى الله وهو يوم القيامة.

فينبغي هنا أن نحمل التقوى على أعلى درجات التقوى وأفضلها، وهي تقوى الله عز وجل، لا تقوى النار ولا تقوى اليوم الآخر؛ لأن تقوى الله تحمل على تقوى النار وعلى تقوى اليوم الآخر.

وقال بعض العلماء في تقوى الله: "أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله". وهذا يتضمن الإخلاص والعلم؛ العلم قوله: على نور من الله؛ والإخلاص: ترجو ثواب الله وتخشى عقاب الله. يعني لا يحملك على هذا حب الدنيا، أو الجاه، أو الرئاسة، أو ما أشبه ذلك.

وقال بعض العلماء: تقوى الله أن يخلي الإنسان جميع الذنوب؛ صغيرها وكبيرها.

وقال بعض العلماء: تقوى الله عز وجل: اتخاذ وقاية من عذابه، بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهذا أجمع ما قيل في التقوى.

{{عِنْدَ رَبِّهِمْ}} العندية هنا تفيد فضلا عظيمًا؛ لأنها هي القرب من الله عز وجل؛ ولا أقرب من شيء يكون سقفه عرش الله عز وجل كالفردوس الأعلى، كما قال الله تعالى: {{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}} [القمر:٥٤-٥٥] وقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} } [الأعراف:٢٠٦]، وقوله تعالى: {{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}} [الأنبياء:١٩-٢٠].

وقوله جل ذكره: { {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ}} جواب مضمون الاستفهام {{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}} .

{{جَنَّاتٌ} } بالجمع؛ لتعدد أجناسها، وأنواعها، وأفرادها، والجنة في الأصل البستان الكثير الأشجار، وذكر الله تعالى في سورة الرحمن أن أجناسها أربع، فقال: {{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}} [الرحمن:٤٦]، ثم قال: {{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}} [الرحمن:٦٢]، وفي الترمذي بسند صحيح عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «(إِنَّ فِي الجَنَّةِ جَنَّتَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ) » وهذا باعتبار الجنس، أما الأنواع فكثيرة.

{{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}} ليس من تحت أرضها، بل فوق أرضها، لكن من تحت أشجارها وقصورها، من مختلف أنواع الأشربة؛ كما قال تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:١٥]

وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا، وتقوية لنفوس تاركها، وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

{{خَالِدِينَ فِيهَا}} ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حِوَلا، والخلد من تمام وكمال النعيم، قال جل ذكره: { {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} } [الدخان:٥٦]، بل يقال لهم: «خُلُودٌ وَلا مَوْتَ» فيُسَرُّون، ففي صحيح ابن حبان بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْطَلِقُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَنْطَلِقُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَيُقَالُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبَّنَا هَذَا الْمَوْتُ، فَيَأْمُرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا: خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ فِيهِ أَبَدًا)»

وفي رواية للنسائي: «(إِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ..) » الحديث

بل يقال لهم كما في حيث مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(يُنَادِي مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ})» .. فكل الآفات التي في الدنيا المنغصة للنعيم كلها تنفى عنهم.

{{وَأَزْوَاجٌ}} معطوفة على {{جَنَّاتٌ}} أي جنات وأزواج؛ وعطفها عليها لاختلاف نوع التلذذ؛ فالتلذذ بالجنات تلذذ شهوة بطن، والتلذذ بالأزواج تلذذ من نوع آخر؛ ولهذا قال: {وَأَزْوَاجٌ} أي من الحور العين ومن نساء الدنيا، والإنسان الذي له زوجة في الدنيا تبقى زوجة له في الآخرة، وإذا كانت هي ذات زوجين فإنها تُخير بينهما، وإذا لم يكن للإنسان زوجة في الدنيا فإن في الجنة من ليس لهنّ أزواج في الدنيا، يُزوج هذا من هذه، وهناك أيضا أزواج من نوع آخر وهنّ الحور العين.

{{مُطَهَّرَةٌ}} من كل دَّنَس وخَبَث حسي أو معنوي؛ فالحسي مثل: البول والغائط والحيض والعرق المنتن والمخاط، وما أشبه ذلك، والمعنوي: الغل والحقد والفجور وكراهة الزوج، وما أشبه ذلك.

وقوله: {{مُطَهَّرَةٌ}} أطلق ولم يقل: من كذا وكذا؛ من أجل إفادة العموم؛ لأن من القواعد المعروفة أن حذف المعمول يؤذن بعموم العامل، قاعدة معروفة عندهم؛ ولهذا أمثلة كثيرة، مثلا: قوله تعالى للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}} [الضحى:٦-٨] قال: {{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا}} لم يقل: فآواك، مع أن الخطاب له {{وَوَجَدَكَ ضَالًّا}} ولم يقل: فهداك، {{وَوَجَدَكَ عَائِلًا}} ولم يقل: فأغناك، بل حذف المفعول ليؤذن على عموم العامل.

فالرسول عليه الصلاة والسلام وجده ربه يتيمًا فآواه، لكن ما آواه وحده، آواه وأوى به، حتى جعله فئة لكل مؤمن؛ ضالا فهداه، لكن هداه وهدى به؛ عائلا فأغناه وأغنى به، وإلا فمن أين للعرب هذه الغنائم العظيمة التي ما فكروا أن يغنموها، فكيف يغنم العرب -رعاء الشاء والإبل- أرض فارس والروم إلا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبدينه.

ولم يقل: مطهرات، لأن نعت الجمع يجوز أن يكون مجموعًا وأن يكون مفردًا، إلا جمع المؤنث السالم فإنه يكون مجموعًا؛ فتقول مثلا: مررت بنساء مؤمنة، ونساء مؤمنات [لأنه جمع تكسير]، وتقول: مررت بمسلمات صالحات، ولا تقل: بمسلمات صالح [لأنه جمع مذكر سالم].

{{وَرِضْوَانٌ} } أفرده بالذكر؛ لأنه نعيم قلب {مِنَ اللَّهِ} يحل عليهم رضوانه، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبدا؛ ولهذا قال تعالى: {{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} } [التوبة:72] أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم بالجنة.

وأظهر اسم الجلالة، دون أن يقول ورضوان منه -أي من ربهم- لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان.

وقد بدأ أولاً بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها: {{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}} [الزخرف:71] وفي الحديث النبوي الشريف: «(فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)» [مسلم] ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)» .

وقال الماتريدي: أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء عَلَم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى.

{{وَاللَّهُ}} إظهار اسم الجلالة لقصد استقلال الجملة لتكون كالمثل {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} بصير بالعباد الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة، فهو بصير بهم «بصر نظر»، لا يغيب عن نظره شيء، وبصير بهم «بصر علم» {{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ}} [سبأ:٣] فيعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء، فتضمنت الوعد والوعيد.

{{الَّذِينَ}} هذه بيان {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، لا للعباد {{يَقُولُونَ}} يريد بذلك القول باللسان والاعتقاد بالجنان؛ لأن الله تعالى إذا أطلق القول بالإيمان ولم يتعقبه، كان المراد به القول باللسان والعقد بالجنان. ودليل ذلك قوله تعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}} [البقرة:٨]، لما كان المراد بهذا القول: القول باللسان فقط قال: {{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}} . أما إذا أطلق الله قول الإنسان: آمنت، فإنه يريد به القول باللسان والعقد بالجنان.ولهذا قال عز وجل: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}} [البقرة:١٣٦]، لا يريد منا أن نقول ذلك بألسنتنا فقط، بل بألسنتنا وقلوبنا.

  {{رَبَّنَا} } توسلوا إلى الله بربوبيته للإخبار بحالهم في الإيمان به، كأنهم يقولون: ربنا آمنا ولكننا لم نصل إلى الإيمان إلا بربوبيتك لنا، تلك الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة.

{{إِنَّنَا}} للتوكيد {{آمَنَّا}} بكل ما يجب الإيمان به: بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك.. مدحهم تعالى بهذا القول، والإيمان يتضمن معنى زائدًا على مجرد التصديق، فهو تصديق متضمن لقبول وإذعان. ولو كان الإيمان مجرد التصديق لكان أبو طالب مؤمنا، فهو مصدِّق بالنبي ودعوته لكن لم يكن تصديقه هذا متضمنًا للقبول والإذعان.

وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان، لكن الذي نهى الله تعالى عنه هو تزكية الأنفس بالطاعات، كما قال تعالى: {{فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}} [النجم:32]

{{فَاغْفِرْ}} المغفرة مأخوذة من الغَفْر وهو الستر مع الوقاية، ومنه الْمِغْفَر الذي يلبسه المقاتل في رأسه ليستر الرأس ويقيه السهام، فليست المغفرة مجرد الستر بل هي ستر ووقاية، ولهذا مغفرة الذنوب سترها عن الناس والعفو عن عقوباتها، ويدل لهذا الحديث الذي رواه مسلم عن عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ» ).

{{لَنَا ذُنُوبَنَا}} أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك.

فالفاء هنا للسببية، أي: فبسبب إيماننا اغفر لنا؛ لأن الإيمان لا شك أنه وسيلة للمغفرة، وكلما قوي الإيمان قويت أسباب المغفرة، حتى إنه إذا أخلص الإنسان إيمانه صارت حسناته تُذهب سيئاته، وهذا من باب التوسل بالطاعة لقبول الدعاء.

وكل فعل بصيغة الأمر موجه إلى الله فهو دعاء يسمى «فعل دعاء»، لأن الله تعالى ما يُؤمَر.

والذنوب هي المعاصي، وهي إما قبائح وإما دون ذلك، وكلها تحتاج إلى مغفرة، كلها يستغفر الإنسان منها، ولا تظن أن الصغائر إذا كُفِّرت بالحسنات لا تظن أنها كما لو كُفِّرت بالتوبة؛ لأن بينهما فرقًا عظيمًا، إذا كُفِّرت بالتوبة أُبدلت السيئات بالحسنات، وإذا كُفرت بالطاعات فإنها تُمحى فقط لكن ما تُبدل بحسنات، الله يقول: {{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}} [الفرقان:٧٠] ويقول: {{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}} [هود:١١٤]، وفرق بين الأمرين.

يقول ابن عثيمين: إذن لا تعتمد على تكفير الحسنات للسيئات فتقول: إن سيئاتي مكفَّرة بحسناتي، لا، ثم إننا في الحقيقة حسناتنا نرجو أن تُبْرِئَ ذممنا، يعني لا تقوى على أن تُكفر، لا تظن أن أي صلاة تكفِّر، لا، قد تكون صلاة لا تبرأ بها الذمة إلا كما يقولون: بالدَّف؛ لأنها صلاة يفعلها الإنسان عادة ثم إذا دخل فيها بدأ يضارب بماله إن كان تاجرًا، وبدأ يقلّب دفاتره إن كان طالبًا، وبدأ ينظر إلى قدّومه ومنشاره إذا كان نجارًا، وهكذا، ولا تكثر الوساوس إلا إذا دخل في الصلاة، وإذا سلّم طارت الوساوس هذه، وصار قلبه حاضرًا للذكر الذي بعد الصلاة، أما الصلاة نفسها فهو يتجول في كل مكان، وإذا سد بابًا فإذا بالشيطان يفتح بابًا بعيدًا ما كان يطرأ على باله أبدًا، فإذا حاول سده فإذا باب آخر مفتوح، وهكذا، من أجل أن يحول الشيطان بين الإنسان وبين ربه؛ لأن الشيطان يعلم أن هذه الصلة التي بين الله وبين العبد -وهي صلته بالله في الصلاة- لها شأن عظيم ودور كبير في إصلاح العبد، قال الله تعالى: {{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}} [العنكبوت:٤٥]

{ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} } قنا العذاب فلا نعمل العمل الذي يوصلنا إلى العذاب، أو قِنَا العذاب عند استحقاقنا له بتعجيل التوبة والتوفيق لها أو بالأعمال الصالحة الماحية.

ولما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان، وأكد الجملة بـ «إن» مبالغة في الإخبار، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك الإيمان، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة.

{{الصَّابِرِينَ}} في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات، والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، كنبي الله أيوب -عليه الصلاة والسلام- فإنه صبر صبرًا عظيمًا، قال الله تعالى: {{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}} [ص:٤٤] وكصبر الرسل على أذية الناس في الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته، وأيضا العلماء المبلغين لهم حظ من هذا الصبر، فكل من حمّله الله علمًا فإن تحميله ذلك العلم عهد وميثاق بينه وبين ربه أن يبلغه إلى الناس، وأن يدعو به الناس، قال الله تعالى: {{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}} [آل عمران:١٨٧]، فتعليم الله لهم هو عهد وميثاق، اختصهم الله بالعلم من بين سائر الناس، هذا هو العهد والميثاق، فما هو مبايعة حسية يشهدها الناس في المساجد أو في الفلوات، ولكنه نعمة ينعم الله بها على الإنسان، فمتى أنعم الله بالعلم على إنسان فهذا هو العهد والميثاق الذي أخذه الله.

وانظر إلى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أوذي وحُبس عدة مرات، بل مات في السجن، فكان يكتب وهو في السجن، ينشر العلم من السجن فمنعوا عنه الدواة والقرطاس، فجعل يكتب العلم على جدران السجن، فيكتب ما يفتح الله عليه، وذكر عن نفسه أن الله فتح عليه علمًا عظيمًا؛ لأنه انقطع إلى الله عز وجل، فيأتي إليه أصحابه ويأخذون ما كتبه، فمنعوا أصحابه عنه، ومع ذلك صبر وانقطع إلى تلاوة القرآن وكان معه أخوه يدارسه القرآن حتى ختم قوله تعالى: {{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}} [القمر:٥٤-٥٥] ففاضت نفسه رحمه الله تعالى.

فالصبر من المقامات العالية، وأفضلها الصبر على طاعة الله، لأن الصبر على طاعة الله جامع بين أمرين: بين حمل النفس الباطنة على هذا العمل وبين حمل الجسد الظاهر على هذا العمل.

ثم يليه الصبر عن معصية الله لأن فيه عمل باطن فقط، وهو حبس النفس عن الفعل، ما فيه تعب بدني، لا فيه لا ركوع ولا سجود ولا قيام ولا قعود ولا بذل مال ولا شيء، كفّ فقط، ففيه معاناة باطنة فقط.

ثم يليه الصبر على أقدار الله، فهو إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سُلُوّ البهائم.. فالإنسان لابد أن ينسى هذه المصيبة على ممر الزمان، فإذا كان لابد من نسيانها فكونه يصبر صبر الكرام الذي يثاب عليه خير من كونه يتجزع ويتسخط ثم في النهاية يسلو كما تسلو البهيمة، فالبهيمة إذا ضربها صاحبها تصرخ وتنتفض وفي النهاية تسكت وتنسى بعد الضرب والصراخ الكثير.

وقال شبيب بن شيبة للمهدي: "إن أحق ما تصبر عليه ما لم تجد إلى دفعه سبيلا".

هذا من حيث الأصل، لكن قد يعاني الإنسان من الصبر على الأقدار أكثر مما يعاني من الصبر على الأوامر، فيؤجر من هذه الناحية من حيث المشقة، وقد يعاني من الصبر عن محارم الله أكثر مما يعاني من الصبر على طاعة الله، فيكون من هذه الناحية أكثر أجرًا بسبب المشقة.

{{وَالصَّادِقِينَ} } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال، فالصدق هو مطابقة القول للواقع، والصادق هو الذي يكون خبره مطابقًا لواقعه، والصدق يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون مع الله [وعكسه النفاق]، ويكون مع عباد الله.

والصدق من صفات المؤمنين، والكذب من صفات المنافقين، قال تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} } [التوبة:١١٩] وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «(عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)» [مسلم]، والصديقية ليست مرتبة دنيّة، بل هي التي تلي مرتبة النبيين، قال تعالى: {{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}} [النساء:٦٩]

{{وَالْقَانِتِينَ}} القنوت: دوام الطاعة والخضوع {وَالْمُنْفِقِينَ} من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلات، ومواساة ذوي الحاجات، وقدر الإنفاق يختلف باختلاف الزمان والمكان.

{{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}} دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وهو الوقت قبل طلوع الفجر، قيل: سدس الليل الأخير. وأصل السحر الخفاء للطفه، ومنه السحر.

وقد قيل: إن يعقوب -عليه السلام- لما قال لبنيه: {{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}} [يوسف:98] أنه أخرهم إلى وقت السحر.

وخص السحر بالذكر، وإن كانوا مستغفرين دائماً، لأسباب:

** أولا: لأنه مظنة الإجابة، وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند والسنن، من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر فيقولُ: هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ؟) [البخاري ومسلم]

** والثاني: أنه وقت فراغهم من التهجد، والإنسان مطلوب منه إذا فرغ من العبادة أن يستغفر الله، ولهذا يُشْرَع لنا أن نستغفر الله تعالى ثلاثًا بعد الصلاة، وأمر الله سبحانه وتعالى أن نستغفر في الحج قال جل ذكره: {{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [البقرة:١٩٩]

وسؤال المغفرة بعد الانتهاء من العبادة فيه كمال الذل لله عز وجل، وأن الإنسان لا يعجب بعمله بل يخشى من التقصير فيه، فلهذا يستغفر عما يكون منه من نقصان وتقصير في هذه العبادة.

** والثالث: لأن العبادة في السحر أشد إخلاصا، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته، فاختار له هؤلاء الصادقون آخر الليل لأنه وقت صفاء السرائر، والتجرد عن الشواغل.

وفي الصحيحين، عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قالت: «"مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ"» .

وكان عبد الله بن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع، هل جاء السَّحَر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.

وعن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: "ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر، فاغفر لي". فنظرت فإذا ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وعن أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة".

فذكر هنا أصول فضائل صفات المتدينين: وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي. والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبث الثقة بين أفراد الأمة. والقنوت وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية. والإنفاق وهو أصل إقامة أود الأمة بكفاية حاج المحتاجين، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس. وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 2
  • 0
  • 532

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً